-6-
بعد هذه الجولة الخاطفة مع طرائف الشعراء الانكليز، ننتقل في سياحة شعرية مع الشعراء الفرنسيين الانتقاديين المرحين مرحاً أسود، إذ يُقال إن الشاعر (شارل بودلير) وصف مرة الحياة مع المرض فهتف: الحياة مستشفى.. كل مريض فيها يبحث عن سرير جديد في غرفة أخرى، لأنه يعتقد بأنه إذا انتقل إلى فراش غير الفراش الذي ينام عليه فسوف تفارقه علّته، حتى إذا أحسَّ بأن موعد تركه المستشفى قد اقترب تمنّى لو أنه بقي فيها.
وكانت معشوقته الخلاسية_(جان دوفال) مُرَائية، كاذبة، فاسقة، مبذّرة، سِكّيرة، ناهيك عن جهلها وحمقها وقد كان هو معجباً بغبائها، لذلك تراه يوحي الأدباء الشباب بحب النساء الغبيات كما محبوبته فيكتب: "من الناس مَنْ يحمّر خجلاً من حبه امرأة يوم يدرك أنها حمقاء.. إن هؤلاء لحمير أغرار خُلقوا ليرعوا أقذر أشواك الخليقة، فالغباوة هي غالباً زينة الجمال وهي التي تُضفي على العيون ذلك الصفاء الكئيب البادي في المستنقعات السوداء، وذلك الهدوء الزَّيتيّ في البحار الاستوائية.. إن الغباوة تصون الجمال.. دوماً.. وتُبعد عنه الغضون... إنها دهن إلهيّ يقي معبوداتنا من النَّهش الذي يلحقه التفكير بنا نحن العلماء والمساكين" وكان يقول: "حبّ النساء الذكيّات هو متعة اللّواطي".
-7-
أما (أبولينير) الفرنسي أيضاً والرمزي كبودلير فله رأي فَكِهٌ في الحياة ومُتفائل إذ يقول في قصيدة له ماترجمته "أتمنى في البيت امرأة بكامل عقلها وقطة تمرّ بين الكتب وأصدقاء في كل فصل، بدونهم جميعاً لا أستطيع الحياة" وسُئِلت -على سيرة العقل- (مدام دوستال) الشاعرة والكاتبة الفرنسية ذات يوم: "ما السبب في أن الجميلات بين النساء أكثر حظوة لدى الرجال من ذوات العقول الرَّاجحة؟.." فأجابت:
-السبب بسيط وهو أن القليلين هم العميان ولكنّ الأغبياء كثيرون لا يُحصر عددهم، وقد قارنت في إحدى فكاهاتها بين الفرنسي والألماني فقالت: "إنّ الفرنسي يعرف كيف يتكّلم ولو لم تكن لديه أدنى فكرة من الأفكار، بينما الألماني، على العكس من ذلك: في ذهنه شيء أكثر مما لايستطيع التعبير عنه".
ومن أشهر أقوالها: "إن صوت الضمير من الرقة وسرعة العطب بحيث يسهل خنقه ولكنه من الصفاء بحيث يستحيل إنكاره".
أما مُواطن بودلير وأبولينير ومدام دوستال الشاعر والكاتب (مارسيل إيميه) فكان يقول: "أنا أفضّل موسيقا تشايكوفسكي على كل ماعداها: فهي صاخبة بحيث أن المرء يمكنه أن يثرثر طوال الوقت دون أن يُزعج جيرانه".
ويُقال إن بعضهم أورد ملاحظة أمام (إيميه) حول مستشفيات الأمراض العقلية وأنها تضمّ من الرجال أكثر مما تضمّ من النساء بنسبة 35%، فردّ معلقاً:
-طبعاً.. ولكنْ مَنْ أوصل الرجال إلى تلك الأماكن..؟!
ويُقال إنه حين بلغ الشاعر (رامبو) سيّد الرمزيين في العالم وأميرهم عامه الرابع، روى بريشون عنه نادرة طفولية، إذ بعد ولادة أخته "فيتالي" أخذه صاحبُ مكتبة، جارٌ لأسرته، ليريه بعض صور المجلات ثم سأله: - ما الذي أعجبك أكثر من غيره..؟!
وحين بيّن له رامبو ما الذي راق له منها سأله مُدَاعباً:
-هل تودّ شراء بعض هذه الصور.
-لا نقود لديّ.
-آه... لاتملك أية نقود..!!
-لا.. ولكن أستطيع الدفع بإعطاء أُختي الصغيرة...
-8-
ونظلُّ في فرنسة مع الشاعر (بييرموتان) الذي كتب هذه الأبيات: "من الآن فصاعداً لن يكون للعاقلة ولا للحمقاء أي نصيب في قلبي فالأولى منهما لاترفع ثوبها إلا بعد فوات الأوان والثانية ترفعه باكراً جداً".
ولقد جرى الحوار التالي بين الشاعر الفرنسي (دوفرفيل) وبين صديق له، قال الصديق: -في الحبّ.. مَنْ يحصل على لذة وخير أكثر.. الرجل أم المرأة..؟!
فأجاب الشاعر: -لو أنّ أُذنك سبّبت لك الحكّ وحككتَها بخنصرك، فمن منهما يحصل على لذة وخير أكثر... أليست هي الأُذن؟!
ويُقال إن المركيزة (ماري فرنسوا كاترين 1711-1787) الملقبة بسيّدة الشهوة قد نظمت الأبيات التالية لتنقش على ضريحها: "هنا ترقد بسلام آمن تلك المرأة الملقبة ب "سيدة الشهوة" التي أوجدتْ فردوس لذائذها في هذا العالم على سبيل الاحتياط".
-9-
ومن الشعر الفرنسي نعرّج في طريقنا على الشعر الألماني وشعرائه، فلقد كان الفيلسوف والشاعر شيلر يرمز في قصائده فكتب مرّة يقول: "الكلب المدلّل مهما أنَامَتْه صاحبته في حضنها الوثير الدافئ ومهما أطعمته المآكل الفاخرة، ومهما عطّرته بالند والمسك، فإنه عندما يرى باب الدار مفتوحاً أمامه يجري سريعاً إلى تنكة الزبالة يفتش فيها عن نفاياتها، يأكلها أيضاً بنهم.. فالكلب كلب... ولو طوّقته بالذهب".
-10-
ونُنهي هذه الجولة مع طرافة أو طرفة حصلت للشاعرة السوفييتية (آنا أخماتوفا) التي تعرّضت في حياتها إلى ألوان من الشقاء لا يُوازيه إلا المجد الذي نالته، فعندما كانت في الخامسة والثلاثين من عمرها، وفي قاع العوز والحصار مَرَّتْ بجانبها في الشارع امرأة عجوز فحسبتها من رثاثة ثيابها وبؤس منظرها أنها متسولة فقدّمت لها صدقةً، قطعة نقدية ظلّت هذه الشاعرة تحتفظ بها للذكرى ويُقال أيضاً أن (ديوستوفسكي) كان يحتفظ بقطعة كوبيك تحسَّنت عليه بها امرأة في الطريق بعد أن قالت لها ابنتُها قدِّمي كوبيك لهذا التّعس، أما الشاعر التشيلي بابلونيرودا فيروي هذه الطرفة عن صديق له شاعر اسمه (ميغيل ايرنانديث) من أبدع شعراء إسبانيا وكان فقيراً معدماً بسيطاً، حتى أنه كان ينتعل نعلاً مصنوعاً من خيوط القنّب، وقد توسّط له بابلو أن يُعيّن في منصب بوزارة الخارجية في بلده واستُشير في نوعية الوظيفة الرفيعة التي يود أن يتقلّدها، ولما سُئِل عنها مرَّت الساعات ولم يجب، وبعدئذ قال لبابلو وعيناه تومضان كمن وجد حلاً لمشاكل حياته:
-ألا يستطيع صديقك الذي سيُعيّنني في وزارة الخارجية أن يجد لي قطيعاً من الغنم أرعاه هنا قرب مدريد؟!