فساد القضاء أعظم خطرا و أشد بأسا مما سواه من تدبير شئون الناس فى السياسة و الاقتصاد و الاجتماع . لأنه إذا فسد الساسة فى أفعالهم كان الملجأ هو القضاء لتقويم ما اعوجّ من أمر ، و إصلاح ما فسد من سياسة ، و إكمال ما حدث من نقص ، و سد ما كان من عجز .
و الملاحظ فى تاريخ الرسالة الخاتمة - حتى فى مكة - أى قبل الهجرة و مرحلة التشريع فى المدينة ، كان مهما إعلام الناس بأن إقامة العدل بين العالمين من ضرورات هذه الرسالة ...
*( و قل آمنت بما أنزل الله من كتاب و أمرت لأعدل بينكم ..) الشورى 15
و لأن آداة العدل بين الناس و رمزه هو الميزان الذى لا ينبغى أن تختل كفتاه أو تطغى إحداهما على الأخرى - و إلا فسد الأمر - ، فقد أنزل الميزان و أرسل صنوا لكتب السماء إلى الأرض ..
*( الله الذى أنزل الكتاب بالحق و الميزان ...الشورى 17 ،
فكما أنزل الله عز و جل الكتاب بالحق ، فإنه تعالى أنزل الميزان بالحق أيضا . أنزلهما لغاية و هدف أن يقوم الناس بالقسط و العدل بهدى الكتاب الخاتم .. فلا هدى أو اهتداء و لا فلاح فى هذه الحياة إلا بالقرآن .. و لا عدل أو قسط فيها إلا بهدى القرآن ..!! أى لا عدل يقام أو قسط يحقق إلا من خلال ما شرع ربنا و رضى لعباده فى كتابه و محكم تنزيله القرآن الكريم .
*( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) الحديد 25
و على هذا النهج كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان هديه و كان قضاؤه فيما يعرض عليه من أقضية الناس و حوائجهم .
*و كان من هديه - عليه السلام - " البينة على من ادعى و اليمين على من أنكر " ،
*و من هديه : " إنكم تختصمون إلي ، وإنما أنا بشر ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع منكم ، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة " .
لما سرق طعمة بن أبيرق درعا من جاره ، سارع بإيداعها بيت يهودى ، و لما شكا صاحب الدرع للنبى صلى الله عليه و سلم ، أنكر طعمة السرقة و جاء قومه يطلبون من النبى تبرئته و اتهام اليهودى .. و بين المسلمين و اليهود أمور شائكة و عداوة مستحكمة .. و الدليل و القرينة ضد اليهودى .. !!
* هنا لا بد من اتصال أسباب السموات بالأرض مباشرة ، لتعلى من قيمة الحق و العدل و لبرىء اليهودى المخالف فى العقيدة طالما لم يرتكب إثما و لم يقع فى ذنب ، و تشير إلى السارق الحقيقى حتى لوكان هو المسلم .
( {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} من سورة النساء .
جاء القرآن ليعاتب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، إذ يبدو من السياق أنه كان على وشك - بالأدلة الظاهرة - أن ينزل العقوبة باليهودى ، و يطالبه أن يحكم بين الناس بما أراه الله فى الكتاب و ليستغفر ربه ، و لا يكون مدافعا عن خائنين ، و لا مجادلا عن خوّانين آثمين .
بهذا قامت السموات و الأرض ، وسادت دولة الإسلام العالمين قرونا طويلة ....
__________________
أبو عبد الله
|