سبق لي أن تحدثت عن الرأي عدة مرات .
ليس كل ما يخرج من الفم سواء قولاً أو كتابة هو من قبيل الرأي .
فحينما اتخذ العلماء والفقهاء مقولة ( رأيي صواب يحتمل الخطأ , ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب ) كان لديهم علم يستندون عليه في تكوين أرائهم ( أدلة تكوين هذه الأراء ) , وليس مجرد كلام مرسل أو اتباع للأهواء . وهذا خلط يقع فيه الكثيرين ظناً منهم أن ما يقولونه هو رأيهم .
حتي العلم الذي يستند إليه الشخص عند تكوين رأيه ( الأدلة ) قد يكون علم صحيح وقد يكون علم فاسد . فإن كان ما يستند إليه علم فاسد , فرأيه رأي فاسد لا يُعتد به . وإن كان ما يستند إليه علم صحيح ولكنه استشهد به في غير موضعه الصحيح , فرأيه يكون خطأ . أما إن كان استشهاده بعلم صحيح وفي الموضع الصحيح , فهذا هو الرأي السديد .
وصاحب الرأي ذو العقل الرشيد هو من ينظر للأمور من عدة زوايا مختلفة وليس من زاوية واحدة فقط .
وعلي صاحب الرأي أن ينظر لما يستند عليه عند تكوين رأيه حتي يعلم إن كان علي الثبات والصواب أم علي باطل وضلال .
- لا يجب عليّ أن أتقبل الرأي الأخر ولا حتي أقيم له وزن أو اعتبار ( علي الدوام ) طالما أن هذا الرأي فاسد وتم بيان فساده . والرسول صل الله عليه وسلم وصحابته الكرام لم يتقبلوا أي أراء فاسدة أبداً . كفار قريش كانوا يجادلون رسول الله صل الله عليه وسلم في شأن الأصنام وفي غيرها , فهل تقبل منهم رأيهم ؟!
هذه أقوال تصدر عن جهل وعن هوي متبع لا يؤخذ بها ولا يقام لها أي اعتبار مطلقاً .
- بعد وفاة رسول الله صل الله عليه وسلم أشار عمر بن الخطاب علي أبو بكر رضي الله عنهما بأن ينزع أسامة بن زيد عن قيادة الجيش ( الذي ولاه عليه صل الله عليه وسلم قبل وفاته ) وكانت حجة عمر بأن أسامة صغير السن وبأنه يوجد من هو أكبر منه سناً وخبير بالحروب . فماذا كان جواب أبو بكر علي عمر ؟
قال له : ثكلتك أمك وعدمتك يا بن الخطاب . أيستعمله رسول الله صل الله عليه وسلم وأنزعه أنا ؟!
فهل تقبل أبو بكر رأي عمر ؟! وهل غضب عمر بن الخطاب أو أساء أبو بكر لعمر ؟!!
مثال أخر :
شاع في المدينة أن أبو حنيفة يقول في الدين برأيه وبالقياس ويترك أحاديث رسول الله صل الله عليه وسلم . فلما قدم إلي المدينة , قابله الإمام محمد الباقر وأسمعه كلاماً شديداً متهماً إياه بأنه قد بدل دين جده ( صل الله عليه وسلم ) وبأنه يأخذ بالقياس ويترك الأحاديث النبوية الشريفة . فما كان من أبو حنيفة إلا أنه هدأ من غضب الإمام محمد الباقر وطلب منه أن يجلس وسأله عن ثلاث :
السؤال الأول: "أيهما أضعف، الرجل أم المرأة؟"
فقال محمد الباقر: "المرأة أضعف" - بدنيا المرأة أضعف-.
قال: "في دين جدك صل الله عليه وسلم أيهما أقل من الآخر، ميراث الرجل أم ميراث المرأة؟" قال له: "المرأة نصف الرجل".
فقال: "فلو كنت أعمل بالرأي وأترك حديث جدك ودين جدك لقلت المرأة أضعف فتستحق ضعف ما يستحق الرجل. لكني لم أقل ذلك لأن حديث النبي مُقَدَّم عندي على رأيي".
السؤال الثاني: "أيهما أعظم عند الله، الصلاة أم الصيام؟"
فقال: "الصلاة".
فقال: "يا إمام، المرأة بعد رمضان يفوتها صلاة وصيام. بما أمرها جدك صل الله عليه وسلم أن تقضي الصلاة أم الصيام؟"
قال: "الصيام".
فقال: "فلو كنت أجتهد برأيي وأترك حديث النبي لقلت الصلاة أفضل، فتقضي الصلاة ولا تقضي الصيام. لكني لم أفعل ذلك. قلت كما قال جدك، تعيد الصيام ولا تعيد الصلاة". يتكلم أبو حنيفة هنا بالعقل ولكن بتواضع.
السؤال الثالث: قال: "يا إمام، أيهما أكثر نجاسة، البول أم النُطفَة؟"
فقال: "في دين جدي، البول أنجس".
فقال: "يا إمام، لو كنت آخذ بالرأي وأجتهد وأترك حديث النبي لقلت البول نغتسل منه والنُطفَة نتوضأ منها..." لأن البول أنجس "...لكني قلت كما قال جدك "البول نتوضأ منه والنُطفَة نغتسل منها" فلم أُغَيِّر بالرأي يا إمام، وإنما فعلت ما فعلت يا إمام لأن العراق كل يوم الناس تكون في جديد، فأردت أن أحمل الناس لدين جدك".
فقام محمد الباقر وقَبِّل رأس أبي حنيفة.
هنا درس في أن الرأي يجب أن يكون مستنداً علي علم صحيح في الموضع الصحيح , وليس وفقاً لهوي متبع أو حتي وفقاً لعلم صحيح ولكن ليس في الموضع الصحيح ( استشهاد خاطيء ) .
فماذا لو وجدنا في زماننا هذا من يقول بأن المرأة يجب أن ترث مثل الرجل ( بدعوي المساواة أو بغيرها ) ثم يتم بيان رأي المولي عز وجل في هذا الأمر , ولكنه يصر علي ما هو عليه من رأيه الفاسد ( وقد حدث هذا بالفعل ) . فهل مثل هذا الرأي يتم احترامه ؟!! لا والله لا يُحترم ولا يقام له أي وزن أو اعتبار .
- الخلاف بين المختلفين في الرأي ينشأ ويشتد حينما يخرج النقاش بينهما عن الموضوعية ويريد كل منهما ( أو أحدهما ) أن ينال من شخص الأخر . فهنا يخرج الحوار والنقاش من الرأي إلي التعرض لذات الشخص وامتهانه والتطاول عليه . وقد أمرنا المولي عز وجل بأن نجادل بالتي هي أحسن ( هذا أمره سبحانه وتعالي لرسوله صل الله عليه وسلم مع الكفار . فما بالنا بجدالنا مع بعضنا البعض ؟! ) والجدال بالتي هي أحسن لا تعني أبداً أن أتقبل رأي الأخر وهو واضح لي بأنه رأي فاسد , بل أبين له فساد ما يقول به دون أن أتطرق لذاته ( أجعل جدالي معه حول الرأي فقط ) .
- لو علمنا كيف يكون الرأي وتفكرنا فيه قبل أن نقول به أو نكتبه وما نستند عليه من أدلة تؤيد وتدعم هذا الرأي , وأن نتناقش بموضوعية حول هذا الرأي نفسه ولا نتعداه , لتجنبنا الكثير جداً من الخلافات . وأهم أمر هو أن نجعل المبدأ هو اتباع الحق والصواب فقط سواء كان هذا مع ما أقول به أو مع ما يقول به غيري .
شكراً علي هذا الموضوع .
خالص تحياتي