البشارة التاسعة عشر: قول إشعياء في الفصل السادس والعشرون مخاطباً هاجر عليها السلام: (سبحي أيتها النزور الرقوب، واغتبطي بالحمد أيتها العاقر، فقد زاد ولد الفارغة المجفية على ولد المشغولة الحظية. وقال لها الرب أوسعي مواضع خيامك، ومدي ستور مضاريك، لأنك لا تنفسي ولا تضني، بل طوّلي أطنابك، واستوثقي من أوتادك، من أجل أنك تتبسطين وتنتشرين في الأرض يميناً وشمالاً، وترث ذريتك الأمم، ويسكنون القرى المعطلة اليبات). فذكر حال هاجر عليها السلام. وبشر هاجر بهذه الآمال العظيمة التي تستحق الحمد والشكر والاغتباط، وما ينتظر ذريتها من التوسع والسيطرة والغلبة على سائر الأمم، وبمقارنة هذا الوعد الذي وعد به إشعياء هاجر عليها السلام – مع الفتوحات التي تحققت للأمة الإسلامية على أيدي صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم نجد أنه قد تحقق فعلاً، وليس بعد شهادة الواقع وتصديقه لهذه النبوة مجال لمجادل أن يجادل أو يغالط فيدعي أن هذه البشارة لا تصدق هنا، وأنها دالة على قوم آخرين .. ويكفي في هذه النبوة حجة ودليلاً أنه نص على أن أبناء المجفية قد زادوا على أبناء المشغولة الحظية، ومن المجفية إلا هاجر؟ ومن الحظية إلا سارة؟. ولم تحصل هذه الزيادة، ولم تتحقق هذه الغلبة إلا بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
البشارة العشرون: قال إشعياء في الفصل الثامن والعشرين مخاطباً هاجر عليها السلام: (أيتها المنغمسة المتغلغلة في الهموم التي لم تنل حظوة ولا سلوا، إن جاعل حجرك بلوراً .. ويعرفني هنالك جميع ولدك ولا ينكرونني، وأعلم أبناءك بالسلم، وتكونين مزينة بالصلاح والبر، فتنحي عن الأذى والمكارة، لأنك آمنة منها، فانحرفي عن الانكسار والانخذال فلن يقرباك، ومن انبعث من بين يدي فإليك يكون وفيك حلوله، وتصيرين وزراً وملجأً لقاطنيك وساكانك). قال الطبري: (فأي شهادة أعظم من شهادة الله لهم أنهم جميعاً يعرفونه ولا يجهلونه؟ وأنه صيّر بلدهم وزراً وملجأً للناس، أي حرماً آمناً).
البشارة الواحد والعشرون: قول إشعياء في الفصل الثامن والعشرين: (يا معشر العطاش توجهوا إلى الماء والورود، ومن ليس له فضة فليذهب ويمتار ويستسقي ويأكل من الخمر واللبن بلا فضة ولا ثمن). قال المهتدي الطبري: (فهذا من نبوة إشعياء دال على ما أنعم الله به على ولد هاجر من أمة النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى أنهم صائرون إلى ما وعدهم الله تعالى في الآخرة من أنهار من خمر، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين. فانظروا إلى هذه المشاكلة والموافقة التي بين النبوتين جميعاً). وهذا إشارة منه إلى قوله تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم).
البشارة الثانية والعشرون: قول إشعياء في الفصل الثامن والعشرين: (إني أقمتك شاهداً للشعوب، ومدبراً وسلطاناً للأمم، لتدعو الأمم الذين لم تعرفهم، وتأتيك الأمم الذين لم يعرفوك هرولة وشداً، من أجل الرب إلهك قدوس إسرائيل الذي أحمدك، فاطلبوا ما عند الرب، فإذا عرفتموه فاستجيبوا له، وإذا قرب منكم فليرجع عن خطيئته، والفاجر عن سبيله، وليرجع إليّ لأرحمه، ولينب إلى إلهنا الذي عمّت رحمته وفضله) قال الطبري: (فقد سمي النبي صلى الله عليه وسلم باسمه، وقال: إن الله جعلك محمداً. فإن آثر المخالف أن يقول: ليس بمحمد، بل محمود وافقناه فيه، لأن معناهما واحد).
أما قوله: (أقمتك شاهداً للشعوب). فهو مماثل لقوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) وقوله عز وجل: (ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس). وقوله عز من قائل: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً).
أما قوله: سلطاناً للأمم. فيحتمل أن يكون المراد منه المعنى المتبادر للذهن وهو السيادة والقيادة، وقد تحققت له هذه على الأمم في حياته وحياة أصحابه. ويحتمل أن يكون المراد منه أنه سلطان بمعنى حجة على الأمم، لأن السلطان في لغة التنزيل تأتي بمعنى حجة.
وأما قوله: (لتدعو الأمم الذين لم تعرفهم). فقد تحقق ذلك بإرساله صلى الله عليه وسلم الرسل والكتب إلى الملوك كهرقل وكسرى والمقوقس وغيرهم ممن لا يعرفهم كما هو مشهور في كتب السنة والسيرة.
وأما قوله: تأتيك الأمم الذين لم يعرفوك هرولة وشداً. فمصداق ذلك في انضواء الأمم التي لم تكن تعرفه من قبل، والتي لا تعد ولا تحصى تحت لوائه، والإذعان لأمره. كما أن هذه البشارة لا تنطبق على الأنبياء قبله، لأنهم دعوا أقوامهم وهم يعرفونهم، واستجابت لهم الأمم التي تعرفهم، أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد دعا من لم يعرفه، واستجاب له من لا يعرفه.