سادساً: بشارات إرميا:
البشارة الأولى: خاطب الله بها النبي صلى الله عليه وسلم على لسان إرميا في الفصل الأول فقال: (من قبل أن أصورك في الرحم عرفتك، ومن قبل أن تخرج من البطن قدستك، وجعلتك نبياً للأمم، لأنك بكل ما آمرك تصدع، وإلى كل من أرسلك تتوجه، فأنا معك لخلاصك، يقول الرب: وأفرغت كلامي في فمك إفراغاً، فتأمل وانظر، فقد سلطتك اليوم على الأمم والمملكات، لتنسف وتهدم وتتبر وتسحق، وتغرس من رأيت) قال المهتدي الطبري عن هذه البشارة: (هي شبيهة بنبوات إشعياء وغيره) وهو يقصد قول إشعياء: (إن الرب أهاب بي من بعيد، وذكر اسمي وأنا في الرحم، وجعل لساني كالسيف الصارم) وهذه هي البشارة الرابعة عشرة من بشارات إشعياء حسب ترتيب هذا البحث.
ويتفق أول هذه البشارة مع قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه) ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي جاء بالحق مصدقاً لما معهم بدليل قوله تعالى عنه: (بل جاء بالحق وصدّق المرسلين) وقوله تعالى: (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه).
أما قول إرميا: (لأنك بكل ما أمرك تصدع). فيصدقه قوله تعالى: (فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين). ويشهد لقوله: (وأفرغت كلامي في فمك). قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى). وبقية النص متوافق مع البشارات التي تحدثت عن جهاده صلى الله عليه وسلم.
البشارة الثانية: قال إرميا في الفصل التاسع عشر مخبراً عن الله عز وجل أنه قال: (إني جاعل بعد تلك الأيام شريعتي في أفواههم، وأكتبها في قلوبهم، فأكون لهم إلها، ويكونون لي شعبا، ولا يحتاج الرجل أن يعلم أخاه وقريبه الدين والملة، ولا إلى أن يقول له أعرف الرب، لأن جميعهم يعرفونه صغارهم وكبارهم، وأنا أغفر لذلك ذنوبهم، ولا أذكرهم بخطاياهم). قال المهتدي الطبري معلقاً على هذه النبوة: (وقد صدق وعد الله، وازدرع حبه في قلوب هذه الأمة صغارها وكبارها، وأنطق ألسنتهم بشرائعه وتحاميده، وكل عارف بالله مؤمن به). واقرأ قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)، وقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله). وقوله عز من قائل (والذين آمنوا أشد حبا لله)، وقوله عز وجل: (يحبهم ويحبونه) وتأمل ما وصف الله به هذه الأمة في هذه النصوص من صفات خيّرة مباركة، فستجد أنها مماثلة لما وصفها الله به على لسان إرميا.
البشارة الثالثة: قول إرميا في الإصحاح الثامن والعشرين: (النبي الذي تنبأ بالسلام، فعند حصول كلمة النبي عرف ذلك النبي أن الله أرسله حقاً). هذه النبوة أوردها المهتدي عبد الأحد داود بالمعنى، ويرى أنها بمعنى: (إن النبي الذي تدور نبوءاته حول الإسلام "شالوم" عند ورود كلمة النبي، ذلك النبي المعروف أنه المرسل من قبل الله الحق) وبعد دراسته للنص السابق خرج منه بالنتائج التالية:
1. أنه لا يمكن أن يكون النبي صادقاً إلا إذا بشر بدين الإسلام ونشره، (إن الدين عند الله الإسلام).
2. من الحقائق المسلّم بها أن كلمة "شالوم" العبرية و "سلام" السريانية و "إسلام" العربية كلها من نفس الجذر السامي "شلام" وتحمل نفس المعنى، وهذا أمر يعترف به جميع علماء اللغات السامية، وفعل "شلام" يدل على الخضوع أو الاستسلام، ولا يوجد نظام ديني في العالم يحمل اسماً أو وصفاً أفضل وأشمل من الإسلام. فالدين الحق لله الحق.
3. أن إرميا هو النبي الوحيد قبل المسيح عليه السلام الذي استخدم كلمة "شالوم" بمعنى الدين، وهو النبي الوحيد الذي يستخدم هذه الكلمة بهدف إثبات صدق أحد من رسل الله. أي أن إرميا هو الوحيد قبل المسيح الذي جعل الإسلام هو المقياس الذي يعرف من خلاله النبي الصادق من الكاذب، وإلا فإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وكافة الرسل عليهم السلام كانوا مسلمين، واتخذوا الإسلام ديناً.
4. أن دين الإسلام – أي الإسلام – هو وحده القادر على تحديد الخصائص المميزة للنبي الصادق من النبي الكاذب، كما أنه لا يوجد في العالم دين يتبنى ويدافع عن هذه الوحدانية المطلقة سوى الإسلام.
البشارة الرابعة: قال إرميا في الفصل الثاني والثلاثين مخاطبا النبي صلى الله عليه وسلم: (اعدوا لي آلات الحرب، فإني أبدد بك الشعوب، وأبدد بك الخيل وفرسانها وأبدد بك الطغاة والولاة، وأجازي بابل، وجميع سكان بلاد الكلدانيين بجميع أوزارهم التي ارتكبوها. هذا قول الرب). وبمقارنة النهاية التي آلت إليها الإمبراطورية الفارسية على أيدي المسلمين بما ورد في هذه النبوة، نجد أن هذا الوعد لهذه الأمة الإسلامية، وذلك الوعيد المتوعد به الأمة الفارسية قد تحقق فعلا، وأقامه الله شاهداً من شواهد التاريخ مصدقاً لما وعد الله به المؤمنين على ألسنة رسله وأوليائه.