عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 07-06-2014, 10:09 AM
فكري ابراهيم فكري ابراهيم غير متواجد حالياً
مــٌــعلــم
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,936
معدل تقييم المستوى: 19
فكري ابراهيم is a jewel in the rough
افتراضي اخراج يوسف من البئر

إخراج يوسف من البئر:

( وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ )

بهذه الآية الكريمة يصف الله تعالى إخراج يوسف من البئر، بواسطة بعض المسافرين من التجار، وقد جاء ذكر إخراج يوسف من البئر موجزاً، مختصراً، لكنه إيجاز مذهل يغني عن السرد الطويل والشرح المفصّل.

فقد تتالت الأفعال في الآية الكريمة تتالياً سريعاً، رشيقاً، بالفاء العاطفة التي تفيد ترتيب حدوث الأفعال وتعاقبها دون فارق زمني يذكر، وهذا معناه أن المسافرين لما صاروا على مقربة من البئر أسرعوا في إرسال من يجلب لهم الماء ( فأرسلوا واردهم )، فأسرع هذا بدوره ملبياً حاجتهم إلى إحضار الماء بسرعة (فأدلى دلوه) وهنا تختفي (الفاء) (قال يا بشرى) ولم يقل الله سبحانه وتعالى (فقال يا بشرى ) ذلك أن البشرى تقتضي المفاجأة، وهذا ما يتحقق بحذف الفاء لتأتي العبارة مفاجئة، للدلالة على البشارة.... وتأمل - ضمن السياق - قول الوارد مستبشراً: (فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ) .

وقوله تعالى عن المسافرين الذين وجدوا يوسف (عليه السلام) : (سيّارة) وهي صيغة مبالغة من اسم الفاعل،إنما تدل على أن شأنهم كثرة السير، فهم تجار تعودوا السير في هذا الطريق، وهم بحكم كثرة سيرهم على هذا الطريق يعرفون البئر، يدل على ذلك سرعة إرسالهم الوارد حال اقترابهم من البئر( دلت على ذلك الفاء العاطفة) دون وجود ما يشير إلى أنهم وجدوا مشقة في اكتشاف هذا البئر، و ربما يوحي هذا بغير ما ذهب إليه بعض مفسّري الآية من أن إخوة يوسف ألقوه في بئر بعيدة عن طريق المارة، وأن هؤلاء السيارة قد ضلوا طريق سفرهم، فوجدوا البئر مصادفة.

فتعودهم السير في هذا الطريق(إذ هم سيّارة) يبعد من الذهن إمكانية أن يضلوا طريقهم. وإسراعهم بإرسال الوارد لا يوحي بإيجادهم البئر مصادفة، بل ربما دلّ على معرفتهم بوجود بئر في المكان الذي وصلوا إليه.

ولنعد إلى قول إخوة يوسف عند تشاورهم في أمر يوسف: ( وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ )، والفعل (يلتقطه) جواب الطلب (ألقوه)، وجواب الطلب نتيجة له، ولو أنهم ألقوه في بئر بعيدة لكان التقاط بعض السيارة إياه أمر غير وارد، بل ربما هلك قبل أن يهتدي إلى مكان وجوده أحد !!

ويأتي الإيجاز في صورة من أجمل صوره، وأكثرها إيحاء،في قوله تعالى (وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً) فأما قوله تعالى:" أسرّوه " أي تعاملوا مع الأمر بسرية، فيعني أنهم خافوا أمراً ما( ربما خافوا أن يدّعي ملكيته أحد أو غير ذلك مما لا فائدة من تحديده ).

وأما قوله تعالى: " بضاعة " فيدلّ على أنهم تجّار، وربما كانوا تجار رقيق، أو أن هذا النوع من التجارة كان رائجاً منتشراً في ذلك الوقت، فاستبشروا بعثورهم على الغلام كونه بضاعة لها قيمتها وأهميتها... فتأمل كم اختزلت عبارة ( وأسروه بضاعة ) من المعاني والدلالات.

ويأتي قوله تعالى: ( وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ )

ليثير في النفس تساؤلاً مهماً إذ كيف كان إيجاد الغلام والتعامل معه بوصفه بضاعة رابحة أمراً يبعث البشرى في نفس الوارد ورفاقه، ثم باعوه بثمن بخس وكانوا فيه من الزاهدين!؟

إن هذا الأمر الذي يثير التساؤل إنما يعلله ما جاء في الآية السابقة، في قوله تعالى: " وأسرّوه بضاعة " والسّرّية كما قلنا تعني الخوف، فالخوف إذاً هو الذي دفعهم إلى بيعه بأي ثمن، فذلك خير من أن يفقدوه دون مقابل، أو يظلّ عبئاً عليهم لأن ملكيتهم له لم تكن مشروعة، لذا استعجلوا الخلاص منه، ومن يستعجل الخلاص من بضاعة يبيعها بثمن بخس، ويكون زاهداً فيها، أما رأيت إلى السارق كيف يبيع ما يسرقه بأرخص الأثمان مهما ارتفعت قيمته وغلا ثمنه ...!!

يوسف وامرأة العزيز:

ويشتريه رجل من مصر (العزيز) ويوصي زوجته بأن تكرم مثواه، غير أن امرأة العزيز تجاوزت ذلك – لما بلغ أشده - إلى حدّ العشق والتعلق، فرغبت به وراودته عن نفسه، وغلقت الأبواب، فأبى وأصرت:

( وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )

(واستبقا الباب) أي استبقا إلى الباب ( الباب اسم منصوب بنزع الخافض ) أي أراد كل منهما أن يسبق الآخر إلى الباب هو ليفتحه وهي لتمنعه، ورأى بعض المفسرين أن في قوله تعالى: ( واستبقا الباب ) بالمعنى الذي قلناه إيجاز قرآني بلاغي.

ولنا أن نضيف إلى ذلك أن الصيغة التي جاءت عليها الكلمة ( استبقا ) وهي تدل على تكلّف الفعل وبذل المشقة في سبيله، إنما تحمل دلالة بيانية أعمق، ففيها أن امرأة العزيز أسرعت إلى الباب باذلة في ذلك جهداً مقترناً بعزيمة وإصرار على ارتكاب الفاحشة دون أن يثنيها عن ذلك ولو خاطر عابر بالتراجع عما أقدمت على فعله.

وبالمقابل فإن يوسف (عليه السلام) بذل كل مشقة في سبيل الوصول إلى الباب وفي ذلك دلالة قاطعة على أن ثمة عزماً شديداً منه على تجنب ارتكاب الفاحشة دون تراخٍ أو تهاون أو مرور خاطر بالنزول عند رغبتها.

( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ )

لنقف عند شهادة الشاهد، والشاهد أتت من المشاهدة، وامرأة العزيز ويوسف لم يكن معهما أحد ليكون شاهداً على ما حدث، ولعل الشاهد قد شهد موقف امرأة العزيز ويوسف ( عليه السلام ) وقد ألفيا سيدها لدى الباب، وذِكرُ الشاهد قضيةَ قدِّ القميص تعني بالضرورة عدم رؤيته قميص يوسف وقد قُدَّ من دبر، وإلا فلا معنى لشهادته.

كيف خطرت له مسألة القميص إذاً ؟

أَوَلم يكن ممكناً ألا يكون يوسف ( عليه السلام ) مرتدياً قميصاً في ذلك الموقف ؟

الراجح - والله أعلم - أن امرأة العزيز ذكرت قميص يوسف لتجعله دليلاً على مقاومتها إياه ومنعه من فعل الفاحشة، ولم تُشر إلى الجهة التي قُدَّ منها، وكأن الشاهد – وهو خارج الباب برفقة العزيز – قد سمع ذلك دون أن يرى يوسف ، فرأى أن يجعل القميص دليل إدانة أو براءة، وهنا تنبّه العزيز إلى هذه المسألة فعرف بها كيد زوجته، وتأكد من براءة يوسف مما اتهمته به زوجته.

وهذا من وجوه الحذف البلاغي في القصة، إذ لم تشر الآية إلى أن امرأة العزيز ذكرت قدّ القميص كدلالة على براءتها، والآية لم تذكر أيضاً مكان وجود الشاهد في هذا الموقف، وأنه كان يسمع ما يحدث وهو خارج الباب دون أن يرى... فهذا كله مما توحي به الآية الكريمة بإيجاز موحٍ يحتاج إلى شيء من التأمل والتدبر.

ومما جاء في هذا الموقف مفصلاً قول الشاهد:

إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ

إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ

وكان ممكناً حسب البلاغة القرآنية اختزال هذا القول بالاكتفاء بالجزء الأول منه، إذ يتضمن في ظل وجود الشرط معنى جزئه الثاني.

لكن ذكر جانب دون الآخر، أو التفصيل في جانب والإيجاز في جانب الآخر– فيما لو جاء على هذا النحو – ربما يحمل دلالة على ميل الشاهد إلى الاحتمال الذي فصّل فيه، لذا جاء قوله في الاحتمالين متساوياً من حيث عدد الكلمات، حرصاً منه على أن يكون دقيقاً في قوله، منطقياً في رأيه، حيادياً، عادلاً، في سبيل الوصول إلى الحقيقة.

( وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ )

إن قوله تعالى: ( قال نسوة في المدينة ) يدل على تسرّب الخبر من القصر وانتشاره على نطاق ضيّق، لم يصل حدّ الشيوع والعموم، فـ( نسوةٌ ) اسم جمع قلّة، وهذا ما مكن امرأة العزيز من دعوة هؤلاء النسوة إلى قصرها.

(ونسوة في المدينة) تقليل لشأن هؤلاء النسوة إذ جاء ذكرهن منكراً، على عكس ما جاء في الآية نفسها بقولهمامرأة العزيز) وهذا يدل على أنهن دونها شأناً ومكانةً.

وقد فصّل المفسرون القول في هذه الآية، فرأوا أن نسبتها إلى زوجها العزيز أدعى إلى استعظام الأمر، فهي متزوجة (هذا من جهة) وهي من (ذوات النفوذ والسلطان) فأمرها أعظم سوءاً من سواها .

(تراود): مضارع يدل على التجدد والاستمرارية، أي كان هذا ، وما يزال، دأبها وديدنها حتى لحظة قولهن، فهي تفعل ذلك بإصرار واستمرار.

( فتاها ):عبدها أو مملوكها، وهذا أكثر تشنيعاً وتشهيراً فسميت بـ (امرأة العزيز) أي ذات النفوذ والسلطان، وسمي من تراوده عن نفسه بـ( فتاها)، تذكيراً بتبعيته لها ومملوكيتها له.

( قد شغفها حباً ): أي وصل حبه سويداء قلبها وتمكّن منه.

( إنّا لنراها في ضلال مبين ) وجاء قولهن هذا مؤكداً بمؤكدين زيادة في استنكارهن فعلها، وأنه بعيد كل البعد عن الصواب والرأي السديد... فتأمل كم حملت هذه الكلمات القليلة الموجزة من معان ودلالات !!

( فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا )

قوله تعالى: آتت كل واحدة منهن سكيناً، إشارة إلى أنها وضعت لهن أصناف الفواكه وسواه، مما يحتاج أكله إلى استخدام السكين.

وقوله تعالى(سمعت بمكرهن) يدل على أن ما قالته النسوة قد تناقلته الألسن(كثرت أم قلّت) حتى تناهى الخبر إلى سمعها. فسماع الأمر غير السماع به، فالسماع بالأمر يعني أن ثمة واسطة أو ناقلاً بين القائل والسامع، بين المرسل والمتلقي، وهذا يؤكد تناقل الخبر، ولو على نطاق محدود، ويفسّر في الوقت ذاته علّة سجن يوسف رغم رؤية الدلائل على براءته، إذ أخذ الخبر ينتشر بين الناس، حتى غدا سجنه أدعى إلى إلصاق التهمة به وتجريمه، وبذلك يبدو الأمر محاولة اعتداء عبد على سيدته، نال جزاءه سجناً.
يتبع
__________________
فكري إبراهيم الكفافي
مدير التعليم الابتدائي
بإدارة الجمالية التعليمية
دقهلية

أمين اللجنة النقابية للمعلمين
رد مع اقتباس