عرض مشاركة واحدة
  #620  
قديم 22-06-2014, 05:26 AM
الصورة الرمزية محمد محمود بدر
محمد محمود بدر محمد محمود بدر غير متواجد حالياً
نجم العطاء
 
تاريخ التسجيل: Nov 2009
المشاركات: 23,998
معدل تقييم المستوى: 38
محمد محمود بدر is just really nice
افتراضي

إضراب العربجية اعتراضا علي انتشار سيارات التاكسي في شوارع القاهرة !

في عشرينيات القرن الماضي بدأت سيارات «التاكسي» بالانتشار في القاهرة ، و استشعر عربجية الحناطير خطراً داهماً يهدد أرزاقهم لأن التاكسي تحديدا خطف زبائنهم الموسرين ، وتداولوا الأمر بينهم ، واتفقوا على الذهاب إلى زعيم الأمة «سعد زغلول» ، لإعلان خوفهم على قوت أولادهم ، ومطالبته بإيجاد حل لهذه المشكلة الخطيرة التي داهمتهم .

ويوم الخميس 7 فبراير سنة 1924، اتجه العربجية في «رتل ممتد» من الحناطير عبر شوارع القاهرة، صوب منزل رئيس الوزراء ، وطوال الطريق لم يتوقفوا عن ضرب الهواء بالكرابيج ، لتصدر «فرقعة جماعية» أقرب ما تكون لصوت طلقات الرصاص وكأنهم يهددون بأن يُلهبوا بها ظهر رئيس الوزراء !! .



وفردوا علم مصر الأخضر فوق ظهور خيولهم فأضفى على موكبهم مهابة مضاعفة ، استرعت انتباه سكان القاهرة فأطلوا عليهم من نوافذهم وشرفاتهم ، وتعقبهم المارة لاستجلاء حقيقة الأمر.

في عهود سابقة كانت مثل هذه المظاهرة لا تستطيع أن تصل إلى بيت رئيس الوزراء. كان البوليس يحاصرها ويقبض على زعمائها. كان يسكت الهتافات بالهراوات الثقيلة تنهال على رؤوس الهاتفين. ولكننا الآن في عهد وزارة الشعب. والبيت الذي يقصدون هو بيتهم.. بيت الأمة.. ورئيس الوزراء الذي يقصدون هو الرجل الذي رفعوه إلى هذا المقعد، ومن حقهم أن ينتزعوه من هذا المقعد الكبير. ثم إن سعدا أباح للشعب حق التظاهر. ‘انه حق مقدس كحق الكلام وحق الانتخاب”. «وطلبوا أن يخرج لهم سعد. لم يتقدموا بهذا الطلب كرجاء وإنما توجهوا به كأمر يستوجب التنفيذ.

وقال لهم عم آدم البواب أن سعد يتناول إفطاره، وصاحوا فى وجهه إننا جئنا دون أن نذوق لقمة، كيف يأكل سعد إفطاره ونحن سنموت من الجوع ؟».

ووفق صحيفة «البلاغ» الأسبوعية ، غادر الزعيم المائدة قبل إكمال إفطاره ، وأطل عليهم من البلكونة ،والعجيب أنهم افتتحوا كلامهم إليه بالدعاء له : «شفاك الله ، اللهم قوِّ زعيم الأمة » ، ورد عليهم «أشكركم ، إن قلبي معكم مادمتم متحدين ».

واستمع بإهتمام إلى «خطباء العربجية المتحمسين» ، وكان يصيحون بأعلى صوتهم ، يطالبونه بقانون يمنع السيارات من شوارع القاهرة ، بعدما استحسن الناس سرعتها ، وفضلوا صالونها المغلق على الحنطور المفتوح ، وهو ما ساعد على انتشارها بشكل واسع، ومتزايد، مما هدَّد أقوات أولادهم، ودعموا وجيعة قطع الأرزاق هذه ، بحُجّجِ إضافية عدَّدُوها على مسامع الباشا ، أبرزها خطورة سرعة السيارات التي ستتسبب بموت الناس بسهولة، وأنها من صناعة المستعمر، وأُجرتها مرتفعة ، لأن وقودها غال ، ومستورد من إنجلترا التي تحتل مصر. أما الحنطور فآمن ، وصناعة وطنية،وطعام الخيول هو الشعير المزروع بأيدي فلاحي مصر.

وانتهز الزعيم هدوء أصواتهم، بعدما «فضفضوا» بما عندهم ، وسألهم “لماذا لم تقولوا هذا الكلام للحكومات السابقة على وزارتي ، والسيارات بدأت في عهودهم” ، فأجابوه بصوت جماعي، وهم يلوحون بأيديهم ، : «دي حكومات عيَّنها الإنجليز لمصلحتهم، لكن حكومتك فقد انتخبناها لمصلحتنا».

ولما كان الغضب بادياً في تصرفاتهم، وأقوالهم، استعان الزعيم بخبرته العميقة في التفاوض، وحنكته السياسية، وليمتص ثورتهم قال لهم بود كبير، بدَّد نبرات التحدي والعصبية البادية من تعبيراتهم، وبِلُغة يفهمونها جيدا قال : « أنا عربجي مثلكم، وأقود العربة كما تقودونها، والحكومة هى الحنطور ، والشعب هو الراكب الوحيد، وواجبي أن أوصله إلى الاستقلال التام لمصر والسودان، والفارق الوحيد بيننا أنني لا أحمل كرباجا». فتهللوا لكلامه، وتبادلوا الضحك والابتسام، وهدأت ثورة غضبهم،حين سمعوا الرئيس الجليل للأمة، ورئيس حكومتها، يقول أنه «عربجي مثلهم» ، ويشبه نفسه بهم، وأن عمله لا يختلف عن عملهم، وأنه يصرف شئون البلد، كما يسوسون هم خيولهم تماما.

وحين تأكد الزعيم أنهم هدأوا تماما ، وأنه استحوذ على قلوبهم قال:

« والآن سأتحدث إليكم كعربجى يتحدث مع زملائه، إن الزبون يريد أن يصل إلى الجهة التى يريدها بسرعة، كما تريد مصر أن أحقق لها الاستقلال بسرعة، وكل إبطاء أو تأخير ليس فى مصلحة الزبون، ونحن الآن فى عصر السرعة، والسيارة علامة التقدم، وفى أنحاء العالم كله الآلات تحل مكان الحنطور، ولا أستطيع كزعيم أن أسمح لأمتنا أن تتخلف، أو تمشى ببطء فى عصر السرعة !! أتقبلون أن تتقدم الأمم الأخرى ونتأخر ؟!

إننى أثق في وطنيتكم ، وأنكم تفضلون أن تسير بلادنا بسرعة السيارة، أفهم أن تفكروا فى مستقبلكم فهذا حقكم، أفهم أن تلزموا الحكومة بأن تنشئ مدرسة لتعليم قيادة السيارات بدلا من أن تطلبوا منعها، وأن تساعدكم على الالتحاق بها فى وقت فراغكم ! وتمكنكم من التدرب على الآلات الحديثة، وبذلك يتضاعف دخلكم ويتأمن مستقبلكم. إن واجبكم أن تطالبونى بإدخال الأجهزة الحديثة إلى بلادنا، إن الإنجليز يسعدهم أن نتخلف، وأن نتأخر وأن تسبقنا دول العالم، ونركب العربات الحنطور، ولن تقبلوا أن يقول التاريخ إن حُوذية مصر نادوا بأن تتأخر مصر عن بلاد العالم خاصة وأنا أعلم مقدار وطنيتكم وغيرتكم على بلادكم.

أعلم أنكم اشتركتم فى الثورة، وأعلم أنكم ضحيتم بقوتكم فى أحلك الأيام من أجل مصر وحريتها، وأعلم أنكم على استعداد أن تكرروا هذه التضحية من أجل تقدمها، فلا حرية مع التأخر، ولا استقلال مع التخلف، ماذا كنتم تقولون لو أن أصحاب العربات الكارو طلبوا منع عربات الحنطور وأصبحنا الشعب الوحيد فى العالم الذى لا ينتقل إلا فوق عربات كارو ؟!! وأنا لا أكلمكم كرئيس وزراء ولا كزعيم أمة ولكنى أتكلم كواحد منكم، يهمنى مستقبلكم، لأن مستقبلكم هو مستقبلى !! سوف أفعل ما تريدون !! إذا كنتم تريدون أن تتقدم مصر بسرعة العربة الحنطور فسأخضع لرأيكم.. وإذا أردتم أن نتقدم بسرعة السيارة وبسرعة الطيارة فسوف أفعل ما تأمرون به!

وصاح الحوذية بسرعة: الطيارة!

قال سعد: إذن اتفقنا!

وهتف الحوذية: يعيش سعد باشا!

وضحك سعد وقال: لا بل قولوا يعيش الأسطى سعد!

وهتف العربجية وهم ينصرفون: يعيش الأسطى سعد

وعاد سعد سعيدا إلى مائدة الطعام يستأنف تناول إفطاره ، إنه لم يعط العربجية شيئا ، وأعطاهم فى الوقت نفسه كل شىء، لم يستجب لمطالبهم بمنع السيارات ، لكنه أعطاهم أضعاف هذه المطالب ، أعطاهم الشعور بالكرامة ، الشعور بالأهمية ، أمن لهم مستقبلهم ، نزل إليهم ورفعهم إليه ، منحهم إحساسا جديدا بالاحترام ، لم يهزأ من طلبهم الساذج ولم يسخر منه ولم يحط من شانهم ، وإنما رفع شأن هؤلاء العربجية الثائرين ، جعلهم فى مقام المسئولية ، جعلهم يتصورون إنه يترك لهم أن يختاروا بين مصلحتهم الشخصية ومصلحة الوطن، ولم يترك لهم خيارا غير أن يختاروا ما أراد لهم . وفي الوقت نفسه فتح أمامهم آفاق المستقبل. وبين لهم أن الطريق لرفع أجر العامل ليس هو منع المنافسة ، وإنما هو التدرب على الآلة الحديثة ، وهو الاشتراك في سباق التقدم بأسلحة التقدم .

المصادر :-
- كتاب من واحد لعشرة للصحفي مصطفي أمين .
-قراءات تاريخية

الصورة لموقف العربجية في ميدان المنشية بالاسكندرية سنة 1900 .











الصور المرفقة
 

آخر تعديل بواسطة محمد محمود بدر ، 17-01-2018 الساعة 10:12 AM
رد مع اقتباس