التسامح مع الأديان الأخرى:
ضوابط تسامح المسلمين مع غيرهم:
أولاً: ضوابط تجاه الدين الإسلامي:
أ- منجهةالعقيدة: لا يُتصوَّر أن يُقبل من شخص ينتمي إلى دولة وعقيدة الإسلام، أن ينتقص دين هذه الدولة، أو يشكك فيها؛ سواء في الذات الإلهية، أو في رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أو ما جاء به من أحكام وشرائع، فالله - عز وجل - يقول: ﴿ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ﴾ [التوبة: 12]، فلا يجوز الدعوة إلى غير عقيدتنا الإسلامية، فالكفار في دولة الإسلام يُمنعون من إظهار عقيدتهم، فكيف بالدعوة إلى غيرها؟!
وإن ذلك واضح في محاربة الدعوة الإسلامية؛ ولذلك جعل عمر - رضي الله عنه - من الشروط التي اشترطها مع نصارى الشام ألا يُظهروا شركًا.
الدعوة إلى هذه الأديان الباطلة، لا شكَّ أنها من أعظم الانتقاص لله ولكتابه ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولدينه.
ب- ضوابط تجاه شريعة الإسلام:
من جانب:
1- المعاملات المدنية: إن أهل الذمة يُلزمون بالخضوع في أمور التعاملات مع المسلمين وفيما بينهم بحكم الإسلام الذي به ينعم الجميع بالعدالة والأمان؛ قال تعالى: ﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾[المائدة: 42].
بيَّنت الآية أن أهل الذمة يحكمون بحكم الإسلام في الجملة، وهذا مقتضى انضمامهم إلى دولة الإسلام.
2- الأحكام الجنائية: هذه الشريعة السمحة إقليمية التطبيق، فهي تطبَّق في دولة الإسلام على مَن رضِي الإقامة بها؛ سواء ممن آمَن بالإسلام، أم لم يؤمن به؛ حتى يعمَّ الأمن والاستقرار في ربوعها، فلا تطبَّق على فئة دون الأخرى، وعلى هذا فالقانون الجنائي الإسلامي يطبق على جميع الجرائم التي تقع في دار الإسلام، بغض النظر عن ديانة مرتكبها.
ثانيًا:ضوابط تجاه المسلمين:
أ- عدم مجاهرتهم بمنكرهم:
الإسلام دين سماحة وحرية وتيسير، فلا يقبل أن يكون هذا التسامح والتيسير ضارًّا بدعوته؛ كل ذلك حفاظًا على أهل ملَّته، ورِفعة لمنهجه، فلو أظهر أحد أهل الذمة شيئًا من منكراتهم بين المسلمين، لعُدَّ ذلك استخفافًا بالمسلمين ودينهم، أما ما يعتقدون حُرمته، وهو حرام في ديننا، فإنهم يمنعون منه حتى في أماكنهم الخاصة كتحريم الربا؛ قال تعالى: ﴿ وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ ﴾ [النساء: 161].
ويلحق بذلك ما يراه المسلمون منكرًا ويرونه أمرًا تعبُّديًّا، فلربما يتأثر بهذه المجاهرة بعض المسلمين، خاصةً ضعيفي العلم والتديُّن، أو على الأقل زعزعة ما لديهم من مبادئ وثوابت.
ب- اجتناب ما فيه ضرر على المسلمين:
سواء كان ضررًا أمنيًّا - فالذي يجب على الذمي أن يبتعد عن كل ما يضر بالأمور الأمنية للمسلمين الذين منحوا أهل الذمة الجوار، وقاموا بما يجب عليهم في هذا الجوار من التعامل الحسن - أم من الأضرار الأخرى، فلا يتعدَّى أحد منهم على مسلم ولا العكس، وعدَّ بعضُ أهل العلم الضرر في غش المسلمين، وفتنة المسلم عن دينه، والإيذاء البدني والمالي لأي مسلم، والإيذاء النفسي - كسخرية أو سبٍّ، أو قذفٍ أو إهانة، وأيضًا التعدي على نساء المسلمين بزنا أو قذفٍ - فهذه الأمور كلها واضح ضررها على المسلم.
ج- الالتزامات المالية: كالجزية والخراج والعشور:
فالجزية: هي ضريبة مالية تُفرض على رؤوس أهل الذمة كل عام بشروط مخصوصة، أما الخراج: هو ما وضع على رقاب الأرضين من حقوق تؤدَّى عنها.
والعشور: ضريبة تجارية تُفرض على أموال المسلمين والذميين والمستأمنين المعدة للتجارة، ومما يميز العشور عن الجزية أو الخراج، أنها تؤخذ من الذميين والمستأمنين بخلاف الجزية والخراج، فهما مختصان بالذميين.
صُوَر من تسامح المسلمين مع غيرهم:
• عهد النبي لبني زرعة وبني الربعة من جهينة أن الرسول كتَب لبني زرعة وبني الربعة من جهينة: ((أنهم آمنون على أنفسهم وأموالهم، وأن لهم النصر على مَن ظلمهم أو حاربهم، إلا في الدين والأهل، ولأهل باديتهم - من بَرَّ منهم واتقى - ما لحاضرتهم))[9]، هذا أنموذج من سماحة المسلمين مع غيرهم، والتعايش السلمي والأمن والمناصرة.
• في وصايا النبي - صلى الله عليه وسلم - بأهل الذمة، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة))[10].
• مرَّ عمر بن الخطاب بباب قوم وعليه سائل يسأل، وكان شيخًا كبيرًا ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه، وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي، قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن؟ قال: فأخذه عمر بيده، وذهب به إلى منزله، فرضخ له بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال، فقال: "انظر هذا وضُرباءه، فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته، ثم نَخذله عند الهرَم".
• سماحة السلطان العثماني محمد الفاتح مع نصارى القسطنطينية حينما فتحها، فأعلن أنه ضمن لهم حرية تديُّنهم وحِفْظ أملاكهم، فرجع من النصارى من كان مهاجرًا منهم[11].
آثار التسامح النفسية:
التسامح له أثر عظيم على الفرد؛ من سلامة الصدر، والمحبة، والتعاون، والإخاء، وله فوائد صحية، وشاهد ذلك ولاحَظ أثره علماء الطب السلوكي، قال بعضهم: إذا أردت أن تُقلل من ضغط دمك، وأن تخفِّف التوتر في حياتك، فعليك بالصفح والتسامح مع الآخرين، وهذه دراسة أخرى أقيمت في جامعة تينيسي الأمريكية - لتحديد آثار التسامح على صحة الإنسان - على دراسة 107 من طلاب الجامعات المختلفة، ملؤوا استبيانات حول مناسبتين شعروا فيهما بالخداع والخيانة، بحيث تم قياس معدل ضربات القلب، وضغط الدم، والتوتر في عضلة الجبهة، وشدة التعرُّق.
ووجد الباحثون أن 20 طالبًا ممن اعتبروا متهورين وغير متسامحين، أظهروا ارتفاعًا ملحوظًا في معدلات ضغط الدم، وزيادةً في التوتر العضلي في الجبهة، مقارنةً بالعشرين الآخرين الذين اعتبروا الأكثر تسامحًا.
وأشار الخبراء إلى ضرورة عدم إساءة فَهم المعاني السامية للصفح والتسامح، فهو ليس نسيان ما حدث أو التغاضي عنه أو الإذعان، بل هو التخلي عن المشاعر السلبية بصورة وديَّة ومتابعة الحياة، مشيرين إلى أن هذه الدراسة تضيف إثباتًا جديدًا على أن للمشاعر السلبية تأثيرات ضارةً على الصحة العامة.
ويقول علماء النفس: إن التسامح عبارة عن إستراتيجية تحمُّل تسمح للشخص بإطلاق مشاعره السلبية الناتجة عن غضبه من الآخرين بطريقة ودية.
وله آثار على شخصية الفرد؛ حيث يزيد من تقدير الذات، وقوة الشخصية، ويملأ علاقته بالآخرين بالمحبة والجود والسخاء، ويرسم على مُحيَّاه البشاشة والابتسامة، ويكفي بها حصول محبة الله؛ قال تعالى: ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22].
فالتسامح لغة إسلامية أصيلة، ومعنًى أخلاقي شرَعه الإسلام، وحث عليه قبل أن تولد فلسفة التسامح الغربي.
آثار التسامح الاجتماعية:
التسامح من أعظم قِيَم التعايش؛ بحيث يتسامح الإنسان ويتغاضى، وتَسامح، يُتَسامح معك، فإنه سيكون يومًا ما هو أيضًا بحاجة إلى أن يتسامح الناس معه.
قال السيد أبو داود في مقال له[12]:
التسامح يزيل سرطان الكراهية من نفوس الناس، ويقدم لهم الدليل أيضًا على أن العظماء من الأنبياء والمصلحين والمؤمنين، ذاقوا المر من أجل التسامح، ودعوا إلى نبذ التعصب وال*** الذي يعمي العقول قبل العيون، ويولد المشاعر السلبية تجاه أبناء البشرية عمومًا، ثم ينتهي إلى نبذ الآخر ولو كان من نفس الدين، وإن اختلف معه في المذهب، وعلينا نحن البشر أن نتحلى بروح التسامح الذي هو التصالح مع الأحقاد الدفينة، فالتسامح هو فعل من مجنيٍّ عليه تُجاه الجاني، وأساسه التحول من موقف سلبي إلى موقف إيجابي.
الأسلوب السلمي ومبدأ العفو والتسامح، يؤصلان المحبة والمودة والتواصل الدائم بين المجتمع، بعكس القسوة والغلظة، فإنها تزيد من بث الشحناء والنفرة في المجتمع، وت*** التواصل والألفة والمحبَّة، هذا المبدأ مهم جدًّا في مسألة صلة الرحم؛ ذكر الشيخ سلمان العودة في مقالة له عن صلة الرحم[13]: "نتجاوز قليلاً الأسرة الضيقة ونحن نتكلم عن التسامح، وهو مبدأ كبير جدًّا، والمستفيد الأكبر هو المتسامح، وكثير من الناس يفضلون ألاّ يتسامحوا بسرعة، وأن يأخذ التسامح وقتًا، بل بعض الناس لا يتسامح إلا بعدما يشعر بقرب الأجل، فكان بعض الناس بينهم خصومة وصلت إلى حد ضجة إعلامية، وعندما مرض هذا الإنسان وشعر بقرب الأجل، أوصى أن يأتي فلان، واعتذر له قبل أن يموت بثلاثة أيام!! لماذا لا نقدم التسامح في وقت مبكر؟! أحيانًا كثير من الحالات من التسامح أن تتكيف معها، لا أن تصنع معها مشكلة".
فالتسامح قيمة عظيمة جاء بها هذا الدين القويم من ربٍّ عليم حكيم، فهذا الخلق مزكٍّ للنفوس، مطهِّر للقلوب من أدران الخسائس، يساعد المجتمع على التكاتف والتكافل، وهكذا دين الإسلام، رحمة بالبشرية رأفة بهم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].
حيث راعى الله فيه النفوس، وما جبَل عليه الخلْق، فجعل تكاليفه غير زائدة على قدرتهم، بل إنه من أجل ما يحمله من عناصر البقاء والعموم لجميع البشرية، ترَك الآصار والأغلال التي ضربها على بني إسرائيل جزاءَ ظُلمهم وعدوانهم.
فحري بنا نحن - معاشر المسلمين - أن نتخلَّق بهذا الخلق السامي الحضاري.
هذا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] التعريفات؛ للجرجاني (1/ 160).
[2] شرح سنن أبي داود) 121 - 240)؛ لعبدالمحسن العباد: (9/ 484).
[3] الدر المنثور في تفسير المأثور: (6/ 263(.
[4] رواه البخاري) 1225(.
[5] شرح سنن أبي داود (121 - 240)؛ لعبدالمحسن العباد: (6/ 204).
[6] رواه مسلم (1337).
[7] رواه البخاري (1909)، ومسلم (1080).
[8] رواه أحمد (3/ 440)، وأبو داود (4777)، والترمذي (2021، 2493)، وابن ماجه (4186)، من حديث سعيد بن أبي أيوب، وقال الترمذي: حسن غريب.
[9] أورده ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/ 274 - 275).
[10] أخرجه أبو داود (3052)، والبيهقي (2950)، قال السخاوي: وسنده لا بأس به. المقاصد الحسنة (1: 617)، وصححه الألباني؛ انظر: "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1: 185) رقم الحديث (446).
[11] انظر: تاريخ الدولة العلية العثمانية (1/ 165).
[12] موقع المسلم التربوي، مقال بعنوان: "الصفح والتسامح، وأثرهما الإيجابي على نفسية المؤمن"؛ للسيد أبي داود.
[13] موقع الإسلام اليوم، مقال بعنوان: "مقترحات معاصرة لتفعيل صلة الرحم"؛ للشيخ سلمان العودة.