بعد أن عم الشرك والجهل والضلال والظلم العالم كله، وكان في حاجة ماسة إلى من يخرجه من كل هذه الظلمات منَّ الله تعالى على العالمين ببعثته كما قال تعالى:"الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ"، [إبراهيم:1]، فهو صلى الله عليه وسلم مرسل ليخرج الناس كلهم-وليس ***ا دون ***، إذ دعوته صلى الله عليه وسلم ليست قومية أو عنصرية- من أنواع الظلمات كلها إلى النور التام، كما قال تعالى:"هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ"، [الحديد:9]، فكان صلى الله عليه وسلم بذلك رحمة للناس جميعًا، كما قال تعالى:"وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ"، [الأنبياء:107].
فدعا الناس إلى الله ربهم، لا يطلب منهم على ذلك أجرًا أو مقابل، وتحمل منهم في سبيل ذلك الأذى الكثير، ومنع العدوان على الناس حتى لو كانوا من الكافرين، فبلغ عن ربه قوله:" وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" [المائدة:2] والشنآن هو البغض.
ومنع الظلم بين الناس ولم يقبله حتى من أتباعه على أعدائه، وأمر بالعدل حتى مع الأعداء فبلغ عن ربه تعالى قوله:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" [المائدة:8].
ودعا الناس إلى الوفاء بالعهود والعقود حتى مع الأعداء، ولم يكونوا كالذين قالوا:ليس لمن خالفنا في ديننا علينا أية حقوق، يستحلون بذلك ظلم من يخالفهم ويكذبون على الله وينسون ذلك إليه، فبلغ عن ربه تعالى قوله:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ" [المائدة:1]، وقوله:"وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ" [النحل:91].
وقد كان النهي عن الخيانة من الأحكام التي جاء بها الرسول الكريم وبلغها للناس حتى من يُخشى من خيانتهم من الأعداء فلا ينبغي خيانتهم لأن الخيانة خلق ذميم والله لا يحب الخائنين، قال الله تعالى:"وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ" [الأنفال:58] فإذا خاف الرسول صلى الله عليه وسلم أو أتباعه من قوم عاهدوهم خيانة بإمارة تلوح أو ترشد إلى ذلك، فلا ينبغي للمسلم أن يخون بناء على ما ظهر من إقدام العدو على الخيانة، ولكن عليه أن يبين لهم أن العهد الذي بيننا وبينهم قد ألغي قال ابن كثير:" أي أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم، وهم حرب لك، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء، أي تستوي أنت وهم في ذلك" ، فإن غير ذلك من الخيانة والله لا يحب الخائنين.
وقد كان لتعليماته صلى الله عليه وسلم على أصحابه أكبر التأثير فالتزموا بها حتى ضربوا أروع الأمثلة في كل ذلك، فعن سليم بن عامر رجل من حمير قال: كان بين معاوية وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول:الله أكبر الله أكبر، وفاء لا غدر، فنظروا فإذا عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية فسأله، فقال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء، فرجع معاوية "
فما أحسن أثر دعوته على العالمين جميعًا، وما أقبح موقف الكافرين منه، الذين ناصبوه العداء وعاندوا دعوته، فبأبي أنت وأمي يا رسول الله.
احتماله صلى الله عليه وسلم الأذى في تبليغ الدعوة:
(2/128)