ثانيًا: انتصار المسلمين على المشركين وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل القليب:
انتهت معركة بدر بانتصار المسلمين على المشركين, وكان ***ى المشركين سبعين رجلا، وأسر منهم سبعون، وكان أكثرهم من قادة قريش وزعمائهم، واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلا، منهم ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار, ولما تم الفتح وانهزم المشركون أرسل صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة ليبشرا المسلمين في المدينة بنصر الله للمسلمين وهزيمة المشركين([17]). ومكث صلى الله عليه وسلم في بدر ثلاثة أيام، فعن أنس t قال: (إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا ظهر على قوم أقام بال***ة ثلاث ليال...)([18]) ولعل الحكمة في ذلك:
1- تصفية الموقف بالقضاء على أية حركة من المقاومة اليائسة التي يحتمل أن يقوم بها فلول المنهزمين الفارين هربًا إلى الجبال.
2- دفن من استُشهد من جند الله مما لا تكاد تخلو منه معركة، فقد دفن شهداء المسلمين في أرض المعركة، ولم يرد ما يشير إلى الصلاة عليهم، ولم يدفن أحد منهم خارج بدر([19]).
3- جمع الغنائم وحفظها، وإسناد أمرها إلى من يقوم بهذا الحفظ حتى تؤدى كاملة إلى مستحقيها، وقد أسندت أنفال وغنائم بدر إلى ابن الحارث عبد الله بن كعب الأنصاري، أحد بني مازن([20]).
4- إعطاء الجيش الظافر فرصة يستروح فيها، بعد الجهد النفسي والبدني المضني الذي بذله أفراده في ميدان المعركة، ويضمد فيها جراح مجروحيه، ويذكر نعم الله عليه فيما أفاء الله عليه من النصر المؤزر الذي لم يكن داني القطوف، سهل المنال، ويتذاكر أفراده وجماعاته ما كان من أحداث ومفاجآت في الموقعة، مما كان له أثر فعال في استجلاب النصر، وما كان من فلان في شجاعته وفدائيته وجرأته على اقتحام المضائق وتفريج الأزمات، وما تكشفت عنه المعركة من دروس عملية في الكر والفر, والتدبير المحكم الذي أخذ به العدو، وما في ذلك من عبر، واستذكار أوامر القيادة العليا وموقفها في رسم الخطط، ومشاركتها الفعلية في تنفيذها، ليكون من كل ذلك ضياء يمشون في نوره في وقائعهم المستقبلية، ويجعلون منه دعائم لحياتهم في الجهاد الصبور المظفر بالنصر المبين.
5- مواراة جيف ***ى الأعداء الذين انفرجت المعركة عن ***هم، والتعرف عليهم وعلى مكانتهم في حشودهم, وعلى من بقي منهم مصروعًا بجراحه لم يدركه الموت، للإجهاز على من ترى قيادة جيش الإسلام المصلحة في القضاء عليه اتقاء شره في المستقبل, كالذي كان من أمر الفاسق أبي جهل فرعون هذه الأمة، والذي كان في شأن رأس الكفر أمية بن خلف وأضرابهما، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلقاء هؤلاء الأخباث في رَكِيٍّ([21]) من قُلُب([22]) بدر خبيث مُخْبث, ثم وقف على شفة الركي([23]), وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم وقف على ال***ى فقال: «بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس»([24]).
ثم أمر بهم، فسحبوا إلى قليب من قلب بدر فطرحوا فيه، ثم وقف عليهم فقال: «يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا فلان، ويا فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا فإني وجدت ما وعدني ربي حقًا» فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله! ما تخاطب من أقوام قد جيفوا؟ فقال: «والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون الجواب» ([25]). قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله، توبيخًا، وتصغيرًا، ونقمة، وحسرة، وندمًا([26]).
إن مناداة الرسول صلى الله عليه وسلم ل***ى قريش بينت أمرًا عظيمًا، وهو أنهم بدَأوا حياة جديدة، هي حياة البرزخ الخاصة، وهم فيها يسمعون كلام الأحياء، غير أنهم لا يجيبون ولا يتكلمون، والإيمان بهذه الحياة من عقائد المسلمين، ونعيم القبر وعذابه ثابتان في صحيح الأحاديث، حتى إنه صلى الله عليه وسلم مر بقبرين وقال: «إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير»([27]), وذكر أن سبب *****هما النم بين الناس، وعدم الاستنزاه من البول([28]). ولا بد من التسليم بهذه الحقائق الغيبية، بعد أن تحدث عنها الصادق المصدوق، وقطع بها القرآن الكريم في ***** آل فرعون, قال تعالى: ( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ )[غافر: 46]. وأما الشهداء فقد قال الله تعالى فيهم: ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ )[آل عمران: 169].
* * *
([1]) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/126).
([2]) انظر: الرحيق المختوم، ص116: 118.
([3]) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/125).
([4]) انظر: تفسير الزمخشري (2/225)، تفسير ابن كثير (2/315).
([5]) انظر: موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (1/291).
([6]) حيزوم: اسم الفرس الذي يركبه الملك. (2) خطم: الخطم: الأثر على الأنف
([8]) مسلم -الجهاد، باب الإمداد بالملائكة رقم (1763).
([9]) البخاري -المغازي، باب فضل من شهد بدرًا، رقم (3995).
([10]) الأجلح: الذي انحسر شعره على جانبي رأسه.(6) الأبلق: ارتفع التحجيل إلى فخذيه.
([12]) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص247. (8) نفس المصدر، ص247.
([14]) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/131، 132).
([15]) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/131، 132)
([16]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (4/145).
([17]) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/133) (2) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص250.
([19]) انظر: موسوعة نضرة النعيم (1/291) (4) انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون (3/453)
([21]) ركي: حافة البئر. (6) قلب: أبيار ومفرده بئر.
([23]) انظر: محمد رسول الله, صادق عرجون (3/454).
([24]) زاد المعاد (3/187).
([25]) أخرجه البخاري (7/234) في المغازي، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على كفار قريش.
([26]) الأساس في السنة - السيرة النبوية (1/479).
([27]) رواه البخاري رقم 218.
([28]) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، د. محمد فوزي فضل الله، ص64.