
07-11-2014, 09:10 AM
|
عضو لامع
|
|
تاريخ التسجيل: Jan 2008
المشاركات: 11,687
معدل تقييم المستوى: 29
|
|
ليس دفاعًا عن البخاري وصحيحه! (2)
سوء الفهم الثاني "صحيح البخاري فوق النقد":
بيَّنا في المقال السابق سوءَ الفهم الأول عن البخاري وصحيحه، وأن البخاري لم يأته إلهام بهذه الأحاديث، ولا ألَّفها من بنات أفكاره، وإنما ما أخرجه البخاري في صحيحه من أحاديث هو ما اتفق عليه علماء عصره من أئمة الحديث على صحة هذه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن المفاهيم المغلوطة أيضًا عند الناس عن الصحيح أنه فوق مستوى النقد!
وهذا غير سديد، ولم يَقُلْ أي منتسب للعلم على مر العصور أن كتاب البخاري ممنوع من النقد، هذا ما لم يحدث؛ بل ما حدث هو العكس.
هناك أحاديث انتُقدتْ على البخاري لماذا أخرجها في صحيحه، ولعل أشهرها حديث المعراج من رواية شريك بن عبدالله بن أبي نمر عن أنس رضي الله عنه، وستأتي معنا إن شاء الله في مقال منفصل.
وقد تتبعه الدارقطني - رحمه الله - في كتابه "التتبع" في عدد من الأحاديث من ناحية "الصنعة" الحديثية.
نعم، ليس في البخاري حديث ضعيف - إلا ثلاثة أحاديث أو أربعة - ربما يضعِّفُها بعض أهل العلم من جهة إسنادها، والبعض الآخر يراها صحيحة كسائر الصحيح.
فالمراد أن كتاب البخاري يتعرَّض للنقد كسائر أي جهد بشري، لكنه قليل بالنسبة لحجم كتابه ونوعية النقد، وإلى يومنا هذا طلبة العلم ربما يرَوْن أن إخراج البخاري لهذه الرواية وعدم إخراجه لتلك فيها نوع من القصور، وأن إخراجه لبعض الرواة دون بعض غير سديد،أو أنه صحح أحاديث خارج كتابه الصحيح ولم يضعها في كتابه، لكن الأخير هذا هو اعتَذَر عنه أنه لم يضع كل حديث صحيح عنده في هذا الكتاب.
ليس هذا فحسب، بل إن من أهل العلم من قدَّم كتاب صحيح مسلم على كتاب البخاري، ومنهم من قدم كتاب أبي داود المعروف بالسنن، ومنهم كذلك من قدم سنن الترمذي عليه.
وهؤلاء - وإن كانوا قليلاً - لكن المهم أنه لم يحدث "عصمة" لكتاب البخاري كما يزعم من لا علم عنده.
فكتاب البخاري عمل بشري، فيه قصور، لكن في الجملة يعتبر هو أصح كتاب على وجه الأرض وضع ليُبين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم باتفاق أغلب علماء العصور إلى وقتنا هذا.
فما انتُقِد على البخاري من أحاديث، جلها انتقادات فنية (انتقادات لأسانيد الحديث وحال رواتها)، وليست انتقادات لأصل الحديث (الرواية ذاتها)؛ فكل ما في كتاب البخاري من متون هو صحيح، وهذا ما استقرَّ عليه العلماء منذ زمن طويل، والحمد لله رب العالمين.
وأما سوء الفهم الثالث: أن من يطعن في أحاديث كتاب البخاري (وكما ذكرنا أن ما يوجد في البخاري يوجد في أغلب دواوين السنة) فهو في الحقيقة يطعن في الدين بطريق مباشر أو غير مباشر، عن قصد أو دون قصد، لماذا؟
لأن التشكيك في صحة الحديث هو في الحقيقة تشكيك في صحة إسناد الحديث (سلسلة الرجال الذين رووا الحديث بداية من الصحابي الذي رواه عن رسول الله، ثم التابعي الذي رواه عن الصحابي، ثم الذي بعده، ثم البخاري أو الرواة عامة).
وهذا الإسناد (المُشكَّك فيه) قدر روي به عشرات الأحاديث أو مئات في الصوم والصلاة والزكاة... إلخ.
وهؤلاء الرجال الذين هم رجال الإسناد رَوَوْا الآلاف من الأحاديث، فلو طعنَّا في روايتهم لحديث واحد، فما المانع أن نطعن في روايتهم لباقي الأحاديث، وتضيع السُّنة، ويضيع الدين؟.
مثال:
هذا الإسناد مثلاً في البخاري: الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، رُوِي به حديث: أن رسول الله نحر قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك. وهذا أصل في مناسك الحج أن النحر قبل الحلق.
هذا الإسناد: (الزهري، عن عروة، عن المسور رضي الله عنه) هو هو إسناد رواية خروج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، وحدوث صلح الحديبية في حديث طويل مشهور، وفيه سب أبي بكر رضي الله عنه لعروة بن مسعود (الذي كان كافرًا وقتها، وصدَّ المسلمين عن بيت الله، واتَّهَمَ - ضمنًا - المسلمين بالجُبن، وأنهم سيفرُّون عن رسول الله، وسيخذلونه، فلذلك قال له أبو بكر هذه الكلمة الشديدة: "امصص بَظْرَ اللات"، وسنتعرض لهذا الموقف في حديث منفصل إن شاء الله).
الشاهد: أن من يطعن في هذا الحديث، وهذا الإسناد بالتبعية، فإنه يطعن في حديث الحج، ولو قال: بل حديث الحج صحيح، وحديث الحديبية كذب، فقد اتبع هواه وحكَّمه في دين الله، ولم يعد الأمر لا علميًّا ولا منهجيًّا ولا يحزنون، وأصبح الأمر أن من أعجبه حديثٌ قَبِلَه، ومن لم يعجبه كذَّبه وردَّه، وقال الله: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 23].
فمن يُشكِّكُ في حديث صحيح، فإنه يطعن في إسناده (الرجال الذين نقلوا الحديث) أولاً، وأولهم الصحابي (أو رسول الله حسب وجهة نظر الطاعن ومعتقده)، ويلزمه إن طعن في إسناد رواية ما، وزعم كذبها، فيلزمُه أن يُكذِّبَ كل رواية نقلت بهذا الإسناد، يعني تكون الخلاصة هدم السنة والدين معًا!
فأنت لا تعرف كيف تصلي، ولا تصوم، ولا تزكِّي، ولا تحج، ولا تعتمر، ولا تصلي الجنازة، ولا أحكام القصاص، ولا كثيرًا من أحكام المواريث، ولا أحكام الطلاق والزواج، ولا...، ولا... ولا... - إلا بالسنة.
وحتى لا ندخل في كثير من التفاصيل العلمية، دعونا نأخذ الآن حديثًا حديثًا مما (لا يعجب وليس على هوى البعض) سواء من المنتسبين للعلم أو من أصحاب الأهواء أو المنافقين أو غيرهم؛ لنَردَّ على مزاعم الزاعمين والحاقدين والمغيَّبين، وبالله التوفيق.
يتبع..
|