عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 27-04-2015, 02:08 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
العمر: 61
المشاركات: 4,132
معدل تقييم المستوى: 15
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

في رحاب القرآن الكريم




عامر بن عمران البرزنجي





أشرف العلوم:
وأعظمُ من ذلك كلِّه أنه سبحانه قد عرَّفَ بنفسه كأحسنِ ما يكون، وغاية ما يكون من المعارف والعلوم؛ فإنما شرف العلم لشرف معلومه، فعرَّف بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، وأفعاله وإنعامه وإحسانه، وكلُّ ما ذكرناه آنفًا - ممَّا أخبر الله تعالى به في كتابه - فإنما هو من مقتضيات أسمائه وصفاته وأفعاله؛ لا يخرج منها شيءٌ عن ذلك أبدًا.

والله تعالى يتجلَّى بأسمائه وصفاته في كتابه وكلامه، كما تتجلَّى آثار أسمائه وصفاته في خَلقهِ وملَكوته؛ إيجادًا وإعدادًا وإمدادًا، إحسانًا وإنعامًا؛ فما مِن اسمٍ من أسمائه ولا صفة من صفاته إلا وهي مقتضية لأثَرِها في خلقه، وما كان للخلق أن يَعرفوا ذلك ويُطالِعوه ويَطَّلعوا عليه لولا أن أطلَعَهم الله عليه في كتابه، وهو سبحانه أعرفُ بنفسه من غيره، لا يُحصي أحدٌ من خلقه ثناءً عليه بل هو كما أثنى على نفسه، لا طاقة للخلق في أن يَبلغوا شَأْوَهُ وشأنه وهو أعظمُ من ذلك، وأعظم من أن يُحاطَ بشيء منه علمًا، فضلاً عن أن يُحاطَ به.

نعَم، ما كان للخلق أن يعرفوا ذلك ويُطالِعوه لولا أن كشف الله عنه، وعن كل ما بالخلق حاجةٌ إليه من المعارف الدينية والدنيوية والأخروية؛ ﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾ [ق: 22].

فلا غَروَ - بعد ذلك - أن يَعجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثله، ولو اجتمعوا له، وكان بعضهم لبعض ظهيرًا؛ وذلك لأن نِسبَةَ ما يأتي به هؤلاء، إلى ما جاء الله تعالى به من ذلك؛ كَنِسْبَةِ المخلوق إلى الخالق، ويمكنك بعد ذلك أن تتصور عِظَم الفرق الواسع، والبَون الشاسع بينهما!


سعة القرآن وحوائج الخلق:
ولأن القرآن تَحكُمه القَصدِيَّةُ في جمله وعباراته، وفي كلماته وحروفه وحركاته؛ فليس ثمَّة شيءٌ بلا معنى وبلا قصد، ولمـَّا كانت كلماته لا نهاية لها في معانيها ومقاصدها وأغراضها، ولمَّا كانت حوائج الخلق من المعارف تتجدَّد كل وقت وكل حين؛ فقد صادف أن القرآن يلبِّي جميع هذه الحاجات على أكمل ما يكون، وهو يُواكِبُها في كل زمان ومكان، وفي كل وقت وحين؛ فيستجيب لها، ويسدُّ حاجتها، ويعطيها ما تريد؛ ﴿ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ... ﴾ [إبراهيم: 34].

وهو يخاطب كلَّ جيل وكل زمان ومكان بالمعارف المتجدِّدة لَدَيه؛ كأنه ما أُنزِلَ إلا لهذا الجيل دون غيره! كما أنه يخاطب في الجيل الواحد مختلِفَ مَراتب الناس ودرجاتهم في الفَهم والإدراك، ويعطي كلاًّ منه حظَّه من الفَهم والعلم علىقَدْره واستيعابه؛ ﴿ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ﴾ [الرعد: 17].

وهو يلبِّي لِكل رتبةٍ حاجاتِها إلى المطالب الدينية التي لا بدَّ لهم منها، دون أن يَفْتَئِتَ على المراتب الأُخرى التي هي دونها أو فوقها، فهو كالمظلَّة التي يستظل الكل بظلِّها، وينعَمون بِفَيْئِها؛ وهذا ما يكشف بعضَ ما في هذا الكتاب من عظيم الإعجاز والبيان!


أشرَفُ الألفاظِ وأشرَفُ المقاصد:
وهو وإن كانت ألفاظه محدودةً معدودة لكن معانيه ومقاصده ودلالاته واسِعة سَعَةَ المتكلم به سبحانه، وهنا يَكمُن سِرُّ إعجازه؛ فمعانيه لا نهاية لها، ولا حَدَّ لها ولا عَدَّ.

وهو - فضلاً عن ذلك - قد استوعبَ أشرفَ الألفاظ، وأشرف المعاني، وأشرف المقاصد والأغراض، وبلغ الغاية في ذلك، وكلما كان الغرض شريفًا رفيعًا، كان اللفظ المنتقى له كذلك شريفًا رفيعًا أنيقًا، في نَسقٍ ورَونقٍ يأخذ بالألباب والعقول!


نسبة علوم الخلق في القرآن إلى معارفه وعلومه:
ومنذ أن بعث الله تعالى نبيَّه عليه الصلاة والسلام بهذا الكتاب الجليل وإلى يوم الناس هذا، والعلماءُ والفقهاءُ والدعاةُ، والمعلمون والمتعلمون والدارسون، والمُصلِحون والمفسرون يَنْهَلون مِن علومه ويكشفون عن مكنونه، ويُبيِّنون أسرارَه ومحتوياته، ويُثَوِّرون معانيَه ودلائله، ومع كل هذا فلو جُمِعَ كل ما قاله هؤلاء - قديمًا وحديثًا - من تفسيره ودلائله ومعانيه، إلى نِسبَةِ ما فيه من الحقائق والمعارف والعلوم لما عُدَّ شيئًا، إلا كما قال الخضر لموسى عليه السلام وقد رَأَيا عصفورًا وقع على حرف السفينة فنَقَرَ في البحر نقرة، فقال له الخضر: "ما عِلْمي وعِلْمك مِن علم الله إلا مثل ما نَقَصَ هذا العصفورُ من هذا البحر"[2]! وهذا علم النبيين والذين أطلَعهم الله تعالى من العلوم والمعارف ما لم يطلع عليها غيرهم إلى علم الله تعالى، فما بالُكَ بغيرهم؟!

بحَسْبِك أن تقول: إن القرآن كلام الله غير مخلوق وكفى؛ لِتنتهي كل المعارف والعلوم إليه، كما يَنتهي الخلق كلهم إلى خالقهم وبارئهم، حتى إنَّ البحار بمدادها، والأشجارَ بأقلامها لتَتقاصر عن أن تبلُغَ مِن علمه ما بلَغ من ذلك؛ وأنَّى للمخلوق أن يحيط بغير المخلوق؟! وما ذاك إلا لأنه صِفَةُ الله تعالى وتقدَّس التابعةُ له، الراجعة إليه؛ فتنتهي معارفُ الخلق على أعتابها دون أن تنتهي، ويَنفَد ماء البحار، وأشجارُ البراري دون أن تَنفَد علومه وحقائقه؛ ﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [لقمان: 27]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ﴾ [الكهف: 109].

ورغم ذلك فهو لم يَزل عطاءً مفتوحًا يتجدَّد لا تَنقضي عجائبه، ولا تنفَدُ معانيه، ولا يَخلَقُ من كَثرةِ الرَّدِّ، وسيَبقى هذا الأمر إلى تقوم الساعة، وإلى أن يَرِثَ اللهُ تعالى الأرض ومن عليها، وصدَق من قال: (( كتاب الله فيه نبَأ مَن قبلكم، وخبَرُ مَن بعدكم، وحُكمُ ما بينكم؛ هو الفَصلُ ليس بالهزل، مَن ترَكه مِن جبار قصَمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلَّه الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذِّكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تَزيغ به الأهواء، ولا تَشبع منه العلماء، ولا تلتبس به الألسُن، ولا يَخلَق عن الرَّد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تفتَأِ الجن إذ سمعته عن أن قالوا: ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ﴾ [الجن: 1]، من قال به صدق، ومن حكم به عدَل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هُدِيَ إلى صراطٍ مستقيم))[3].

تَدَبُّر القران:
ومفتاح القران تَدَبُّرهُ؛ وهو آلةُ الفهم والإدراك عن الله تعالى، والوعي عنه، كما أنه آلةُ الكشف عن مراداته ومقاصده من كلامه.

وثمَّة دفائنُ من العلوم والمعارف تحتَ كلِّ نص قرآني، وتحت كل آية قرآنية، بل وتحت كل كلمةٍ وحرف منه، لا بل وتحت كل حركة إعرابية فيه.

وخِلافًا لِكلام المخلوقين فإن كلام الله تعالى تَحكمُه القَصْدِيَّةُ - كما سبق - في كل حركة وسكنة منه، ويمكنك - بعد ذلك - أن تسأل في كل موضع منه، وفي كل حركة وسكنة منه: لِمَ جاء على هذا النحو دون غيره؟ وعلى هذا البناء دون سواه؟ ولِمَ تقدَّمَ هذا وتأخَّرَ ذاك؟ ولِمَ حُذِفَ هذا واستُبقي ذاك؟ ولِمَ هذه الزيادة، وذلك الحذف؟ ولِمَ... ولِمَ... ولِمَ... إلخ، إن وراء ذلك مقاصِدَ جمَّة، وأغراضًا شتَّى يَعرفها المتخصِّصون وأربابُ الفنون.

وهذا غير المقاصد العامة، والمعاني التي يعَيِّنها السياق سِباقًا ولحاقًا، وغير الدلالات اللغوية والنحويَّة والبلاغية، والأصولية والمقاصديَّة، وهذه غيرها في دلائل الإشارة والإيماء والتنبيه.

وعمومًا فهي تعطي دلالاتها في كل الاتجاهات المحتمِلة للمعاني الحقَّة والصحيحة، وفي سائر النشاط البشريِّ في كل ما له علاقة بالنُّطق والكلام، والاستنباط واللغة، والإيماء والحركة والإشارة، وجميع ما له صِلَة بالألفاظ ومعانيها، والأدلة ومدلولاتها، قد انطوى على ذلك كلِّه واستوعبه وحَواه!


البُعد الدلالي للكلمة القرآنية:
إن البناء اللغويَّ للكلمة، والبُعدَ الدلالي لها في القرآن غيرُه في كلام الخلق، إن بناءها مُشبَع بالمعاني والدلالات الحقَّة، وهي مركبة على كل حقٍّ تحتمله؛ مُطابقةً وتضمُّنًا والتزامًا وغير ذلك، وهذه خاصيَّة القرآن دون غيره من كلام المخلوقين.

ويمكن القول بأنها طاقة مكثَّفة من المعاني والدلالات التي تحتاج إلى مَنْ يحرِّرها، ويستخرجها، ويكشف عنها.


وهذا مع التأكيد الجازم بأن حقيقة المعنى وتمامه لا يَعلمه على وجهه إلا الذي تكلَّم به سبحانه وتعالى، وقد أعلمَ الله تعالى نَبِيَّه عليه الصلاة والسلام بعلم ذلك، خلا ما اختصَّ به سبحانه دونه، ثم توزَّعَ علمُ ذلك في أصحابه كلٌّ بحسبه، وتلقَّته الأمة عن أصحابه، فإذا أجمعوا على معنًى في بعض آيِه، وأنه مرادٌ لله تعالى فهو الحقُّ والصواب إن شاء الله تعالى؛ لأنهم لا يُجمِعون على غير الحق والصواب.

والكلمة الواحدة واللفظة الواحدة في كتاب الله تعالى عبارة عن منظومةٍ متكاملة في استخداماتها ومَواردها، ويظهر هذا - بجلاء - بالتتبع والتدقيق، وبالمراجعة والملاحظة والتنقيح؛ فهي - أعني: الكلمةَ القرآنية - بنفسها لها معناها، وتؤدي معنًى في موضعها، كما أنها تؤدِّي دورها في سياقها، ثم تؤدي دَورًا آخر بانضمامها إلى غيرها في المواضع الأُخر، في نفس السورة أو في غيرها من السور، وهي بضميمة بعضها إلى بعض تتشكَّل كتَشَكُّل الألوان إذا امتزَج بعضها ببعض؛ فإنها كلما أُضيفَت إلى غيرها أعطَتْ معنًى جديدًا، كما يعطي اللونُ بامتزاجه مع غيره لونًا آخر وهكذا، وهي - أيضًا - كالماسَّة تتلألأ في يدك، كلما قلَبتَها وجَدْتَ لها بريقًا مختلفًا[4]!

وهي - في تقرير مقاصدها - تتشكَّل بطريقةٍ أشبه ما تكون بنظام مخروطي لولبي يأخذ بعضها ببعض، ويلتفُّ بعضها حول بعض، حتى تلتقي وتنتهي - بمجموعها - إلى بؤرة محوريَّة، ونقطة محددة؛ هي التي تدور عليها مقاصد القرآن.


عادة القرآن في استخدام الألفاظ:
وهذا الذي أشرنا إليه آنفًا يكشف عن عادة القرآن في استخدام ألفاظه؛ لأن للقرآن عادة ونظامًا صارمًا في ذلك؛ يدركه من كانت له به خِبْرَة ومُرْنة، وتتُّبع ودُرْبة؛ وذلك يكون بملاحقة المفردة واللفظة في كل مورد من مواردها، ومعرفة مراد الله تعالى في كلٍّ منها، فإذا تواردَت على معنًى بعينه، واطَّرَد استعمالُها فيه صار هذا من معهودِ كلامه سبحانه وتعالى.

ويمكن أن يكون ذلك بضمِّ المفردات والألفاظ والجمل والتراكيب بعضها إلى بعض، وتركيب بعضها على بعض حتى يتَرشَّح نظمُه ونظامه عن عادته في استعماله، ومحامله على المعاني الصحيحة التي تحتملها والتي هي مرادةٌ لله تعالى من كلامه، وهذه كلُّها تشكِّل المظلة الجامعة التي تُفهَم مفرداتُ القرآن وكلماته وجمله في ضوئها وعلى هَديها، ولا ينبغي الخروج بالقرآن عن هذه المظلة من المعاني الجامعة؛ لأنه خروجٌ سيَشذ عن القرآن وعن مقاصده وأغراضه.

وخيرُ من جلَّى هذا المعنى، وكشف عن نظامه فيه العلامة ابن قيِّم الجوزية في كتابه "الصواعق المرسلة"، قال رحمه الله تعالى:
"فالمتكلم دالٌّ بكلامه، وكلامُه دالٌ بنظامِه؛ وذلك يُعرَف من عادة المتكلم في ألفاظه؛ فإذا كانت عادته أنه قصَد بهذا اللفظِ هذا المعنى، عَلِمنا متى خاطبَنا به أنه أراده من وجهين:
أحدهما: أن دلالة اللفظ مَبناها على عادة المتكلم التي يَقصدها بألفاظه؛ ولهذا استدلَّ على مراده بلُغته التي عادته أن يتكلَّم بها، فإذا عرَف السامعُ ذلك المعنى، وعرف أنَّ عادة المتكلم إذا تكلم بذلك اللفظِ أن يقصده؛ علم أنه مرادُه قطعًا، وإلا لم يُعلَم مراد المتكلم أبدًا وهو محال.

الثاني: أنَّ المتكلم إذا كان قصدُه إفهامَ المخاطَبين كلامَه، وعَلِم السامع من طريقته وصِفتِه أن ذلك قصدُه، لا أن قصده التلبيسُ والإلغاز؛ أفاده مجموعُ العِلْمَين اليقينَ بمرادِه ولم يشكَّ فيه، ولو تخلَّف عنه العلمُ لكان ذلك قادحًا في أحد العِلمين؛ إما قادحًا في عِلمه بموضوع ذلك اللفظ، وإما في علمه بعبارة المتكلم به، وصفاته، وقصده. فمتى عرَف موضوعه وعرف عادة المتكلم أفاده ذلك القطع"[5].

وقال أيضًا في موضع آخر: "إنَّ معرفة مراد المتكلم تُعرف باطِّراد استعماله ذلك اللفظ في ذلك المعنى في مَجاري كلامه ومُخاطباته، فإذا أُلِف منه إطلاقُ ذلك اللفظ أو اطِّراده في استعماله في معنى أُلِف منه أنه متى أطلقه أراد ذلك المعنى وأُلِف منه تجريدُه في مَوارد استعمالِه من اقترانِ ما يدلُّ على خلاف موضوعه أفاد ذلك علمًا يقينًا لا ريب فيه لمراده"[6].
يتبع






رد مع اقتباس