في رحاب القرآن الكريم
عامر بن عمران البرزنجي
الوحدة الموضوعية وعناصرها، ومقاصدها العظيمة:
هذا وكل سُورة في كتاب الله تعالى لها موضوعها ولها مقصودها، ويشترك في تكوين موضوعها ومقصودها عواملُ عدة، ومؤثراتٌ عدة؛ فتشترك الألفاظ وسياقاتها، والمفردات وتراكيبها، ونَظْمها ونِظامها، وفواصِلها وخواتيمها، ومخارج حروفها وأَصْواتها، ووقعها وإيقاعها في بدئها ووقفها، وغيرها من عناصرها؛ فهذه كلها يأخذ بعضها ببعض، ويتداخل بعضها ببعض، ويَنْعَجِنُ بعضها في بعض في نَظمٍ عجيب، وانسجام غريب؛ فتَخرج بوَحْدَتِها الموضوعية كأحسنِ ما تكون رَونقًا ونَسقًا واتِّساقًا، وثمَّة وحدة موضوعية، وعلاقة تلازُميَّة بين الدالِّ والمدلول، واللفظ والمعنى، والإشارة والموضوع؛ إنها الوَحدة والاتِّحاد في كل شيء يَعرفها أهل الذَّوق والوصل والمعرفة.
فمقاصد السورة تنتَظِم ذلك كلَّه، فتُبرز السورةَ الواحدة كأنها قطعةٌ واحدة، وموضوع واحد، خلافًا للنظرة السطحيَّة البسيطة التي تبدو لأول وهلة.
ولطالما ظهَر لنا أن لا علاقة بين الآية والتي تَليها، وقد يبدو لنا أن لا وُصْلة بين السِّباق واللِّحاقِ في نفس السياقِ، وقد نراها جملاً مفكَّكة، وأحرفًا مُقَطَّعَة، وآياتٍ متناثرةً لا ينتظمها نظام، ولا يلمُّها شيء؛ وإنما هذا من قلة علمنا، وضَعف بصائرنا، وإلا فلو تفتَّحَت قلوبنا، وقويت بصائرنا، وزالت عنها حجُب الإعراض والمعصية، وارتفعَت سُتور الشهوة والشبهة، وانجلت أغشيةُ الذهول والغفلة؛ لأبصَرنا التوحُّد والانسجام، والتشابك والالتحام، وظهرَت الوَحدة بأجلى صورها، وأقوى ملامحِها، كأنها قطعةٌ واحدة، متماسكة متعاضدة، متداخلة إلى حدٍّ بعيد، بل هي وَحدةٌ واحدة، تنتظمها علاقة عضوية، ووحدة موضوعيَّة؛ تأخذ بالألباب والعقول، وتبهر الأبصار والنفوس!
وكلما تواردَت الآيات على الأسماع، وتتابعت على الأذهان والقلوب والبصائر؛ بوعي وإدراك، وحضور قلب، وشهود أسماع، وباستمرار تلاوة، وملازمة تدبر، وتكرار - توحَّدَت المعاني، واتحدت المقاصد، وظهرت وَحدة السورة وتكاملها، كالقرص الدوار المتعدد الألوان كلما ازداد دورانه، وتتابعت على الأبصار ألوانه - تشكَّلَت أنواعه، واتحدت أشكاله، وصرتَ لا تراها إلا لونًا واحدًا، ونمطًا واحدًا، ونسقًا واحدًا، وموضوعًا واحدًا.
وإنَّما التشتُّت والتفرُّق لضعف البصائر، وذهول القلوب، وتشتتُ الأذهان لتشتتِ الهموم والقصود في غير مقصود الحقِّ ومَحالِّه، بعيدًا عن القرآن.
ويَظهر هذا التوحُّد في السورة الواحدة، فإذا ما انضَمَّت السورة إلى السورة، والموضوع إلى الموضوع، والمقصود إلى المقصود، وذاب بعضُها في بعض، وانصَهَر الكل في بوتقة واحدة، صِرْتَ ترى الأمور تتَّجه نحو وَحدةٍ كلية، ووحدة مقاصديَّة عامة يَنتهي إليها كلُّ شيء؛ هي التي تَرسُم مَعالم الحقِّ للوجود كلِّه في وحدة الغاية، ووحدة القصد، ووحدة الجهة، ووحدة الوجهة، ويتَمحوَر النظام المخروطي كلُّه حول نقطة الارتكاز التي يكون التوحيد فيها نهايةَ كل شيء، ومهيمنًا على كل شيء، فترى الله تعالى مُتَجَليًا بآثاره وآثار أسمائه وصفاته، ولا تبصر - في الوجود - إلا مظاهر ربوبيته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو وحده - بلا شركة ولا شراكة - يَربُّ هذا الوجودَ الذي لا يقوم إلا به، ولا ترى إلا قيوميَّتَه التي أحاطت بكل شيء علمًا وقدرًا، وقدرةً وإرادةً، ولكنه يُقِيمُه في تكوينه وأقداره وأحكامه وأمره وخلقِه على نظام التوحيد الذي لا يَخرج منها شيءٌ عن تربيته وترتيبه وتدبيره! ولا عن حكمته ومقصوده، ولا عن شمول ربوبيَّته، وكمال ألوهيَّته، وتفرده وأحَديته، وتوحده وتوحيده؛ فتنتهي إليه العلوم والمعارف، والمقاصدُ والأحكام والشرائع، وكل شيء، وهي - كلها - تنطلق من تلكم البؤرة، وتشعُّ من تلكم النقطة؛ إلى كل الأنحاء، وفي كل الاتجاهات، في كلِّ ما بالحياة من نشاط وحركة؛ لتحيط بها، وينتظم - في ضوئها - شأنها وشؤونها، في صعودها ونزولها، وسموِّها وانحطاطها... فهذه الوحدة التي تراها في كتاب الله تعالى هي انعكاسٌ عن تلك الوحدة والوحدانية، وذلك التوحد والتوحيد!
فياللهِ ما أعظمها من معرفة لو وجَدت لها قلوبًا حيَّة، وآذانًا واعية؛ ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37].
ويالها من نعمة لمن حظيَ بها، ونالها، وظفر بها، وذاق حلاوتها، فهنيئًا ثم هنيئًا للعارفين!
ظهور المثال العلمي والصور الذهنية:
والمؤثِّرات - التي مرَّ ذكرها آنفًا - تشترك في تكوين الصور الذهنية للحقائق والمعارف، وتتجسَّد من خلالها المعاني، وتصنع لها صورًا ذهنيَّة حاضرة حضورًا عيانيًّا مشخصًا تبعث في القلوب حرارةَ الإيمان ودفء اليقين، وتدفع الوجدان دفعًا إلى الاتصال بربِّ السماء والانقياد له والقيام بموجبات الإيمان محبةً وإخلاصًا وتصديقًا.
ولعل هذه الصور الذهنية أو القلبية هي التي يُسمِّيها شيخ الإسلام ابنُ تيمية بالمثل الأعلى أو المثال العِلمي، وكلما قوي التصديقُ واليقين بآيات الله قوي التصور الذهنيُّ وصار كالحسِّ المشاهَد، قال رحمه الله تعالى: "وأما المؤمنون فإن الإيمان بالله ومعرفتَه ومحبته ونوره وهداه يحُلُّ في قلوبهم وهو المثل الأعلى والمثال العلمي... وكذلك كلامه في قلوب عباده المؤمنين..."[7].
وظهور هذه في القلوب أشدُّ مِن ظهورها في الألفاظ والإشارات؛ أعني: أن ظهور حقيقةِ المدلول في القلوب أشدُّ وأقوى منه في الدلالة، ومعرفة أصحاب اليقين والمكاشَفة بهذا تُغنيهم عن الاستدلال له أو عليه؛ لأنَّ ظهورَه عندَهم كظهور نور الشمس للعيون، لكن هذه للأبصار، وتلك للبصائر، وللمعاني الشرعية - خصوصًا - ظهورٌ في القلوب لا يقلُّ عن ظهور المحسوسات للمُعايَنة إن لم يكن أشدَّ وأقوى، "ومعلومٌ أنَّ ما في القلوب من المثال العلميِّ المطابق للمعلوم أقربُ إليه من اللفظ، واللفظ أقرب من الخط، فإذا كان قد يُشار إلى اللفظ والخطِّ والمراد هو نفسه وإن لم يكن الخط واللفظ هو ذاته، بل به ظهر وعرف فلأَن يشار إلى ما في القلب ويُراد به المعروف الذي ظهر للقلب وتجلَّى للقلب وصار نورُه في القلب بطريق الأولى"[8].
ولعلَّ انكشاف حقائق الوحي لأهل العلم والإيمان، وصيرورة المثال العلميِّ لها في القلوب والأذهان مطابقًا للمعلوم في نفس الأمر هو المشار إليه في قوله تعالى: ﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴾ [التكاثر: 5، 6]، وهو الذي أخبر به علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن نفسه بقوله: "لو كُشِفَ ليَ الحجاب ما ازددت يقينًا".
إنها ظهور حقيقة اللفظ في المعنى، والدلالة في المدلول، والعلم في المعلوم مطابقة ومشافهة؛ وهي مِن أعظم مراتب العلم والإيمان، ومن لم ينَله شيءٌ منها لم يعرف العلم، ولم يَذُق طعم الإيمان، وإنما فرح القلب وسروره بحسب ظهور ذلك وانكشافه له، ومَن لا فذلك المـُبعَد المحروم.
لا بد من الغوص في تدبُّره:
وكلما ازداد العبد غَوْصًا وعُمقًا في كلامه، تَكَشَّفَ له من أَسراره وحِكَمِه ومقاصدِه ما يكون به أسعدَ الخلق، وانفتَح له بابُ علمٍ وفَهم، وانفسحَتْ له فضاءاتٌ رَحبة، وآفاق واسِعة، لا قِبلَ لأحدٍ بها، إلا من أُوتيَ فَهمًا ووعيًا عن الله تعالى في مباشَرة قلبه لحقائق الوحي، والارتقاء بها في مراتب العلم واليقين والإيمان، حتى يشهد تلك الحقائقَ شُهودَ الحِسِّ والمشاهدة كما لو كانت رؤيا عيانية كما سبق الإشارة في ذلك إلى مصداقه من قوله تعالى: ﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ﴾ [التكاثر: 5 - 7].
وهذه هي الحقائق التي تنقطع دونها الأعناق، وتُضرَبُ لها أكباد الإبل، ولو علم العبدُ ما في تحصيل ذلك وتحقُّقه من السعادة والسرور، واللذَّة والحبور؛ لانْصَبَّ جهده وسَعْيه كلُّه في تحصيلها، وانقطعَتْ أعماره كلها في طلبها وإدراكها.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة يصف حالَه في سجن القلعة - الذي كان آخر عهده به من الدنيا - وقد انفتحَت عليه المعارف القرآنية التي يتمنَّاها العلماء، والتي كان سروره وفرحه بتحصليها من أعظم ما يكون: "لقد فتَح الله عليَّ في هذا الحصن من معاني القرآن ما باتَ كثيرٌ من العلماءِ يَتمنَّونه، ولقدْ نَدِمت على تضييع كثيرٍ مِن عُمري في غيرِ مَعاني القرآن"[9]، وهذا رجل ذاق وعَرَف، فهل مِنْ مُدَّكِر؟
إن عطاء القرآن مفتوح ممدود لمن تَشوَّف له ولمعانيه، وقد يَسَّره الله تعالى لمن طلبه، وجعله في متناول من تدبَّره، ينهل الجميع من آياته وعِبرَه، كلٌّ بِحَسَبه وقَدره، فمن ألقى الفكرة، وقلَّب النَّظْرة، واستشرف العِبرة ناله من تيسيره وفَهمه بحسبه؛ ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17]، قال مطَرٌ الورَّاق في هذا: "فهل مِنْ طالب علم فيُعانُ عليه؟!"[10]، نعم، إنه مُيسَّرٌ لطالب العلم، وهو مُعانٌ عليه، وعلى فهمه، ((ومَن سَلَك طَريقًا يَلتَمسُ فيه عِلمًا سهَّل الله له به طَريقًا إلى الجنَّة))[11].
والطالب باحِث، والباحث لا بدَّ له من غوصٍ ما، والتدبُّر غوصٌ في معاني الوحي والكشف عن حِكَمِه ودلائله، وحقائقه وأسراره، وهو مفتاح الفهم والإدراك، ومن لا يتدبَّر فقد أغلق على قلبه بأقفال، وحال بينه وبين حقائقه ومعارفه بسُدود وأستار؛ ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24].
إشارة إلى بعض قواعد الفهم:
وعليه فمَن رام الوصولَ إلى المقصود من ذلك؛ فلا بد من إعمال الفِكر، وتقليب النظر فيه المرةَ بعد المرة، والكرةَ بعد الكرة، والعودةَ والأَوبة، والتأملِ في الحرف والكلمة والجملة مراتٍ ومرات، وكرَّات وكَرات، والاستقراء والتحليل والربط بين سباقه ولحاقه، وبينه وبين كل ما له علاقة بالآية في غيرها من المواضع والسور، وبينها وبين الآثار النبويَّة، وآثار الصالحين من سلف هذه الأُمة، وضَمِّ بعضها إلى بعض حتى تجتمع المواردُ الواحدة، فتنكشف عن قواعدها العامة، وأُصولها الجامعة، وقضاياها الكلِّية، فتنتظم كلها في سلك واحد، ونسق واحد، ومورد واحد؛ وذلك لأن "مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسَب ما ثبت مِن كُلِّياتها وجزئياتها المرتَّبة عليها..."[12].
وهذه بِدَورِها تشكل قواعد الفهم ومفاتيح القرآن في الكشف عن معانيه، وإدراك مقاصده ومبانيه؛ وهي التي في ضوئها وتحت مظلتها الجامعة الشاملة تُفهَم المفردات والجزئيات، فإذا ما أشكل منها موضع ما، فبِمُجرَّد أن تُستَحضَر تلك القواعد والأُصول، حتى ترى الإشكال قد زال، والوهم قد ارتفع واستحال.
وَحدَة الموضوع وتعدُّد الأسلوب:
هذا وقد روعي في القرآن أن تتعدَّد الطرق، وتتنوع الأساليب في تناول القضية الواحدة، وتقليبها على أكثر من وجه، وما ذاك إلا لأمرين:
أولهما: حتى يَتقرَّر أنها من مقرَّرات القرآن ومقاصِده.
ثانيهما: لاختلاف مَشارب الخلق في الإدراك، ومدى استشعارهم بالمعاني، وتحسُّسهم للمباني، فأُعطى كلُّ ذي مَشْرب حقَّه، ولِكل ذي طبع مُستحَقَّه، وراعى - في ذلك - الطبائعَ النفسية، والسجايا الخَلقية والخُلقية والجبِليَّة، أعطاها حظَّها بما يتناسب مع طبيعتها النفسيَّة والعقلية، والعوامل المؤثر فيها.
ولأجل ذلك استُخدِمَت كل المؤثرات اللغوية والنحوية والبلاغية، العقلية والعاطفية، وسائر ما يمكن أن يُثوِّر في الإنسان من مشاعر وأحاسيس وفي كافة الاتجاهات النفسية والذهنية، وحتى تحفز فيه قوة التأثر والانفعال والتفاعل مع هذا الخطاب الرباني الذي يراعي أحوال الخلق ومراتبَهم في كل ما بالإنسان من نقاط التأثُّر والاستجابة.
إن القرآن - بأساليبه المتنوعة - يسلِّط الكثير من الاستشعارات، ويُثَوِّر الكثير مِنَ الأحاسيس، ويُفعِّل الكثير من الآلات والأدوات النفسية والذهنية والعقلية والعاطفية والحسية باتجاه الانفعال بهذا الخطاب والتحسُّس به وإدراكه، وفهمه وتلقِّيه والاستجابة له والاستسلام له والانقياد لمقتضياته، ومن تسلطت عليه كل تلك الأحاسيس والاستشعارات ولم ينتفع بشيء منها؛ فلم ينفعل بها، ولم تؤثر فيه - فهذا مؤشر على تَبَلُّدِ أحاسِيسِه، وبرودة مشاعره، وجفاف عواطفه، وَقَساوة قلبِه حتى ضُرِبَ عليه بأغطية وأستار، وعلى سمعه بِصَمَمٍ وأثقال؛ فلا تراه يصغي لمواعظه، ولا ينصت لإنذاراته، فأَنَّى له الهداية وقد أُغلِقَ عليه - بإعراضِه وعِصيانه - منافذُها ومداخلها؟! ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ﴾ [الكهف: 57].
الخاتمة:
ويبقى القرآن أكبرَ من هذا، وأعظم منه، وأوسع، وكل ما قيل فيه ويقال يتَقاصر عن حقيقته، وإدراك كُنْهِه وسرِّه، ولن يَبلغ أحَدٌ من خلق الله تعالى قَدْرَه، مهما علا كعبُه، وارتفع مقامه وشرفه، ومهما أوتيَ من علم وفهم، وعقلٍ وإدراك، وحنكة وحذاقة؛ لأنه فوق طاقتهم، وفوق إدراكاتهم، وفوق علومهم ومعارفهم.
بحَسْب كل عالم وعلاَّمة، وفاهِمٍ وفَهَّامة، أن يلتقط منه ما يلتقطه الطائرُ الصغير من ماء البحر؛ لا لشيءٍ إلا لأنه كلام الله تعالى، وكلامه غير مخلوق، لا تحيط به عقول المخلوقين، ولا إدراكاتهم، ولا علومهم، بل إن علومهم كلها، ومعارفَهم كلها، وما فيها من حقٍّ وحقيقة - مردودةٌ إليه، ومنتهية إليه، وهي كلها - لو اجتمعَتْ - هَباءة في بُحور علومه وحقائقه.
ورغم ذلك كله فهو مُيَسَّر لمَن طلبه، وسَهلٌ على مَنْ تَدبَّره، وقريب على من تناوله، وسعى إلى دركِه وفهمِه؛ لكن ذلك في حدود الامتنان الرباني في الاطلاع على شيءٍ من علمه، ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاء ﴾ [البقرة: 255].
أما الإحاطة المطلقة، والإطلالة الشاملة؛ فالشمس أقربُ للعبد من ذلك بكثير ﴿ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ [سبأ: 52]، فهو سعيٌ في المحال، وضرب في الخيال، قال تعالى في ذلك: ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ﴾ [طه: 110]، وقارن بين هذه وبين آية البقرة السابقة؛ يظهَرْ لك الفرق واضحًا بيِّنًا.
فسُبحان من جعل كلامه - غيرَ المخلوق - في متناول المخلوقين، وقرَّبَه إليهم، وأعانهم على فَهمه، وأطلعهم على بعض سِرِّه!
وسُبحان مَن باعَده في قُربه، وقرَّبه في بُعده؛ كشأنه في عَليائه قريبٌ من عباده، وللهِ الأمرُ مِن قبل ومِن بعد.
والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
[1] صحيح البخاري (24/ 240)، رقم (7481).
[2] صحيح البخاري، رقم (4725).
[3] يُروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو ضعيف؛ انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم (6393).
[4] تفسير الشعراوي (21/ 12876).
[5] الصواعق المرسلة (2/ 743 - 744).
[6] الصواعق المرسلة (2/ 744 - 745).
[7] الجواب الصحيح (4/ 372) بتصرف.
[8] الجواب الصحيح.
[9] العقود الدريّة، لابن عبد الهادي (ص25).
[10] علقه البخاري بصيغة الجزم (24/ 436).
[11] متفق عليه.
[12] الاعتصام للشاطبي (1/ 184).