عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 23-05-2015, 05:50 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
العمر: 61
المشاركات: 4,132
معدل تقييم المستوى: 15
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

إنجازات المسلمين في مجال الطب













(المستشفيات والعناية بالمرضى)


د. عبدالله حجازي








لعل مِن أهمِّ المُنجَزات التي قام بها المسلمون في علم الطب: المستشفيات أو البيمارستانات التي يُعبِّر الاهتمامُ بها والاعتناء بمضمونها عن مدى عناية الإسلام بصحة الإنسان؛ فلقد كان لهم السبق في تطويرها وتحسينها؛ من حيث البناء، وتوزيع القاعات، وتعدُّد الأغراض والأهداف التي أُنشئَت من أجلها، ولهم السبق في إدارتها، وضبط شؤونها المادية والدوائية، ولهم السبق في أمور أخرى مهمَّة تتبين من خلال سرد التطور الهائل السريع الذي حصل للمُستشفى عند المسلمين.







بدأت المستشفيات أول ما بدأت عند المسلمين في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وذلك بخيمة ضُربت في مسجده، كانت لامرأة مِن أسلم يُقال لها: "رفيدة"، تُداوي فيها الجرحى، وقد كان رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - قد قال لقومه حين أصاب سعد بن معاذ - رضي الله عنه - السهم في غزوة الخندق: ((اجعلوه في خيمة رُفيدة حتى أعوده مِن قريب))، وبعد نيف وأربعة عقود، ضرَب عبدالله بن الزبير فسطاطًا في ناحية مِن المسجد الحرام في مكة، وذلك عندما حوصر في مكة، فكان يُعالج فيه كل مَن جُرح من الصحابة، ويَعتني بهم أشد الاعتناء، كما كان يسهر على راحتهم مَن هم أكْفاء في هذا العمل.







إلا أن أول مَن أحدث المستشفيات في الإسلام هو الوليد بن عبدالملك (ت 96هـ/ 715م)، فقد بنى بيمارستانًا جعل فيه الأطباء، وأجرى فيه الأرزاق، ومنع المَجذومين مِن مُخالطة الناس، وأجرى عليهم وعلى العُميان والمُقعَدين الأرزاق.







أما في العهد العباسي فتطوَّرت الأمور أكثرَ فأكثر؛ إذ بُنيت المُستشفيات الكبيرة، وكانت على مستوى؛ بحيث لم يَبق لمدرسة جنديسابور ذِكرٌ بعدها، التي درَست آثارُها وعفا عليها الزمن، وكان بناء هذه المستشفيات يُدرس بعناية تامة؛ مِن حيث المكان، وتقسيم القاعات، وترتيب الحجرات، لتتحقَّق مِن خلالها الفائدة المرجوَّة للمرضى، سواء مِن حيث الإشراف عليهم، أو مِن حيث العلاج، كما تتحقَّق الفائدة الطبية للطلبة الذين يَدرُسون الطب على أيدي أساتذة كبار في الطب، فلم يكن يوظَّف في المستشفى إلا مَن شُهد له بالتفوق في الطب.







أما مِن حيث المكان فكان يُختار؛ بحيث تتوافر فيه الشروط الصحية الجيدة، فكانوا يُفضِّلون بناء المستشفيات على الروابي أو بجوار الأنهار، وقريبًا مِن الجوامع، ويُروى عن عضد الدولة 372هـ/ 983م) أنه استشار كبير أطبائه ليَنتقي له محلاًّ يَبني فيه مستشفى يحمل اسمه، فأمر الطبيب هذا بعض الغلمان أن يُعلِّق في كل ناحية مِن جانبي بغداد شقة لحم، ثم اعتبر التي لم يتغيَّر ولم يسلك (لم تتغير رائحته) فيها اللحم بسرعة، فأشار بأن يُبنى في تلك الناحية.







وقد وصفه ابن جبير في رحلته بقوله: "وبين الشارع ومحلة باب البصرة سوق المارستان، وهي مدينة صغيرة، فيها المارستان الشهير ببغداد، وهو على دِجلة، وتتفقَّده الأطباء كل يوم اثنين وخميس، ويُطالعون أحوال المرضى به، ويُرتِّبون لهم أخذ ما يَحتاجون إليه، وبين أيديهم قَوَمة يَتناولون طبخ الأدوية والأغذية، وهو قصر كبير فيه المقاصير والبيوت وجميع مرافق المساكن الملوكية، والماء يَدخُل إليه مِن دجلة".







وكانت هذه البيمارستانات - وهي المستشفيات العامة - مُنقسمة إلى قسمين منفصلين بعضهما عن بعض، قسم للذكور وقسم للإناث، وكل قسم مجهَّز بما يحتاجه مِن آلة وعدَّة وخدم وفرَّاشين من الرجال والنساء، وقُوَّام مُشرفين، وكل قسم يتألف مِن عدة قاعات لمُختلف الأمراض؛ فقاعة للأمراض الباطنية، وقاعة للجراحة، وقاعة للكحالة، وقاعة للتجبير، وقاعة للولادة، وكان لكل قاعة طبيب أو أكثر، ويرأس الأطباء في هذا القسم رئيس الأطباء، وكانت قاعات البيمارستان فسيحة حسَنة البناء، وللبيمارستان صيدلية تُسمَّى شرابخانة، ولها رئيس يُسمى شيخ صيدلي البيمارستان، يُصرَف منها الدواء، الذي كان يتعين صرفه للمريض، بموجب وصفة طبية من الطبيب المعالج.







فقد كان كبير الأطباء يَجلس على دكَّة ويَكتب لمن يأتي إلى البيمارستان، ويَستوصِف منه للمرضى أوراقًا يَعتمدون عليها، ويأخذون بها من البيمارستان الأشربة والأدوية التي يصفها، وكان في الصيدلية من أنواع الأشربة، والمعاجين النفيسة، والمربيات الفاخرة، وأصناف الأدوية، والعطريات الفائقة التي لا يوجد إلا فيها.







وللبيمارستان رئيس يُسمى ساعور البيمارستان، وللبيمارستان جملة من الفراشين مِن الرجال والنساء، يعملون موظَّفين أو مساعدين صحيِّين، أو مُضمِّدين، ومنهم مَن كان يعمل بمهنة نظافة البيمارستان، والسهر على راحة المرضى وقت الحاجة، ولهم المعاليم الوافية والجامكية "المرتَّب" الوافرة.







وكانت البيمارستانات تخضع للتفتيش الذي يهتم به صاحب الحسبة المخوَّل مِن الوزير أو الخليفة في دخول المستشفى، والوقوف على حالة المرضى، ومدى الاهتمام بهم، وما يُقدَّم لهم مِن طعام، وهل يقوم الغلمان على راحتهم أم يُقصِّرون!







وكذلك بالنسبة للطبيب والصيدلي، وكانت المستشفيات تُحبَس عليها الأوقاف وتُرصَد لها الأموال، ويُنفق عليها وعلى مدارس الطب في سخاء، يذكر ابن أبي أصيبعة أن شيخ الأطباء في زمانه ورئيس المستشفى النوري في دمشق، مهذب الدين عبدالرحيم بن علي (ت 628هــ/ 1230م) وقف داره، وجعلها مدرسة يُدرِّس فيها مَن بعده صناعة الطب، ووقف لها ضياعًا وعدة أماكن يستغلُّ ما ينصرف في مصالحها، وفي جامكية المدرِّس وجامكية المشتغلين بها، وكان الأطباء إذا فرغوا مِن أعمالهم في البيمارستان مضوا إلى خزائن الكتب في مستشفياتهم أو إلى دورهم وأكبُّوا على القراءة؛ لتكون لهم عونًا في ممارسة مهنتهم.







أما إدارة المستشفى فكانت تُناط - في الغالب - إلى أحد الأمراء أو الأشراف أو عظماء الدولة، وهو على جانب عظيم مِن الثقافة والكفاءة، وكانت المستشفيات مؤثَّثة بأحسن الأثاث، يَذكر ابن جُبير أن مارستان المنصوري بمدينة القاهرة كان قصرًا مِن القصور الرائقة حُسنًا واتِّساعًا، أبرزه لهذه الفضيلة تأجُّرًا واحتسابًا، وعيَّن قيِّمًا مِن أهل المعرفة، وضع لديه خزائن العقاقير، ومكَّنه مِن استعمال الأشربة وإقامتها على اختلاف أنواعها، ووُضعت في مقاصير ذلك القصر أَسِرَّة يتَّخذها المرضى مضاجع كاملة الكسى، وبَين يدي ذلك القيِّم خَدَمة يتكفَّلون بتفقُّد أحوال المرضى بُكرةً وعشيَّة، فيُقابلون من الأغذية والأشربة بما يليق بهم.







وبإزاء هذا الموضع موضع مُقتَطع للنساء المَرضى، ولهنَّ أيضًا مَن يَكفُلهن، ويتَّصل بالموضعَين المذكورين موضع آخر متَّسع الفناء، فيه مقاصير عليها شبابيك الحديد، اتخذت مجالس للمَجانين، ولهم أيضًا مَن يتفقَّد - في كل يوم - أحوالهم، ويُقابلها بما يَصلح لها، والسلطان يتطلَّع هذه الأحوال كلها بالبحث والسؤال، ويؤكد في الاعتناء بها والمُثابَرة عليها غاية التأكيد.







كان الأطباء بأعداد وفيرة للعناية بالمرضى، وكانت (المناوبة) واجبة على الأطباء كبيرهم وصغيرهم، تمتدُّ إلى ثمانٍ وأربعين ساعة؛ فقد ذكر ابن أبي أصيبعة أن الملك العادل نور الدين جعَل أمر الطبيب في البيمارستان الكبير إلى أبي المجد بن أبي الحكم، وكان أبو المجد بن أبي الحكم يَدور على المرضى ويتفقَّد أحوالهم، ويَعتبِر أمورهم، وبين يدَيه المشارفون والقُوَّام لخِدمة المرضى، فكان جميع ما يَكتبه لكل مريض مِن المداواة والتدبير لا يؤخَّر عنه ولا يتوانى في ذلك، وكان بعد فراغه يَجلس في الإيوان، فكان جماعة مِن الأطباء والمشتغلين يأتون إليه ويقعدون بين يديه، ثم تجري مباحث طبية، ويُقرئ التلاميذ، ولا يزال معهم في اشتغال ومُباحَثة ونظرٍ في الكتب مقدار ثلاث ساعات، ثم يركَب إلى داره.







ما أشبه هذه الطريقة فيما يُتبع حاليًّا في أحدث كليات الطب، وما أبعدها مما كان متبعًا في الغرب في ذلك الوقت؛ إذ اقتصر التعليم على مجرَّد استذكار النصوص والتعليق عليها!







وكان للطبيب الحرية التامة في العمل والتجريب واستنباط الأساليب المناسبة للعلاج، وكانت التجارب تَدور في كتُب خاصة يقرؤها الجمهور مِن الأطباء، وكان طلبة الطبِّ يَتلقون علومهم على أساتذتهم في البيمارستانات؛ إذ كانت تُهيَّأ لهم الإيوانات الخاصة المُعدَّة والمُجهَّزة بالآلات والكتُب أحسن تجهيز، فيَقعدون بين يدَي معلمهم بعد أن يتفقَّدوا المرضى ويَنتهوا من علاجهم، وإن بعضًا من مشايخ الطب وكبار رؤسائهم، كان يَجعل له مجلسًا عامًّا لتدريس صناعة الطب للمشتغلين عليه في منزله أو في المدارس الخاصة.







ذلك لأن الغرض الأول مِن بناء البيمارستانات هو الاعتناء بالمرضى، والتخفيف عنهم، والإشراف الطبي الذي يساعد في الشفاء - بإذن الله.







وعلى الرغم من هذا كله وضعت قيود على مَن يُعاني التطبيب، وبخاصة بعدما صار يُمارسه الكثير ويقع البعض في أخطاء جسيمة؛ فقد حصل في عام 319هـ/ 931م - أي: في خلافة المقتدر (ت 320هـ/ 932م) - أن جرى غلَط على رجل مِن العامة مِن بعض المُتطبِّبين فمات الرجل، فما كان من المقتدر إلا أن منع سائر المتطبِّبين مِن التصرف إلا مَن امتحنه سنان بن ثابت، وكتب له رقعة بخطِّه بما يُطلق له مِن الصناعة، فصاروا إلى سنان وامتحنهم، وأطلق لكل واحد منهم ما يصلح أن يتصرَّف فيه، وبلغ عددهم في جانبي بغداد وحدها ثمانمائة ونيفًا وستين رجلاً، سوى مَن استُغني عن محنتِه باشتهاره بالتقدُّم في صناعته، وسوى مَن كان في خدمة السلطان.







ومما ورَد في الإجازة والترخيص لمزاولة التطبيب بعد الامتحان: "وبعد؛ فقد وقفت على هذه الرسالة العظيمة؛ إذ هي في هذا الفنِّ أسمى المقاصد، استحقَّ راقم وشْيِها وناسخ بردِها أن يتوج بتاج الإجازة، فاستخرتُ الله -تعالى- وأجزتُ له أن يتعاطى مِن صناعة الجراح ما أتقن معرفته؛ ليحصل له النجاح والفلاح، وهو أن يعالج الجراحات حتى تَبرأ بالبط (بالشق)، ويقلع مِن السنان (نصل الرمح) ما ظهر له مِن غير شرط (شق أو علامة)، وأن يفسد مِن الأوردة ويَبتر من الشرايين، وأن يقلع من الأسنان الفاسدة المسوسين، وأن يُلمَّ ما بَعُد مِن تفرُّق الاتصال بقطان وغير ذلك، وطهارة الأطفال، هذا مع مراجعته وخدمته لرؤساء هذا الفن مِن المُتبحِّرين والمهَرة والأساتذة العارفين، مع تقوى الله والنُّصح في الصناعة".





ولقد ذُكر - فيما مضى - أن رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - قال: ((مَن تطبَّب ولم يعلم منه طب فهو ضامن))، وقد تُرجِم ذلك في محاسبة كل مَن يُعاني التطبيب، على النحو الذي ورَد في كتاب: "معالم القربة في أحكام الحسبة": "وينبغي إذا دخل الطبيب على المريض أن يسأله عن سبب مرضه، وعما يجد مِن الألم، ثم يُرتِّب له قانونًا من الأشربة وغيره من العقاقير، ثم يكتب نسخة لأولياء المريض بشهادة مَن حضَر معه عند المريض، وإذا كان مِن الغد حضَر ونظر إلى دائه، ونظر إلى قارورته، وسأل المريض: هل تناقَصَ به المرض أو لا؟ ثم يُرتِّب له ما يَنبغي على حسب مُقتضى الحال، ويَكتب له نسخة ويُسلِّمها لأهله، وفي اليوم الثالث كذلك، وفي اليوم الرابع كذلك، وهكذا إلى أن يبرأ المريض أو يموت، فإن بَرأ مِن مرضه أخذ الطبيب أجرته وكرامته، وإن مات حضر أولياؤه عند الحكيم المشهور، وعرضوا عليه النسخ التي كتَبها لهم الطبيب، فإن رآها على مُقتضى الحِكمة وصناعة الطب، مِن غير تفريط ولا تقصير مِن الطبيب، قال: هذا قُضي بفروغ أجله، وإن رأى الأمر بخلاف ذلك، قال لهم: خُذوا دية صاحبكم مِن الطبيب؛ فإنه هو الذي ***ه بسوء صناعته وتفريطه، فكانوا يَحتاطون على هذه الصورة الشريفة إلى هذا الحد؛ حتى لا يتعاطى الطبَّ مَن ليس من أهله، ولا يتهاون الطبيب في شيء منه".





ولقد تنوعت البيمارستانات؛ فمنها الثابت ومنها المتنقِّل، فالثابت ما كان بناءً ثابتًا في جهة من الجهات لا ينتقل منها، وهذا النوع من البيمارستانات كان كثير الوجود في المدن الكبيرة من البلدان الإسلامية، عدَّ منها ميرهوف أربعة وثلاثين، بمستوى المعاهد العلمية، كانت مُنتشرةً في أنحاء العالم الإسلامي، مِن بلاد فارس حتى مراكش، ومِن شمالي سورية حتى مصر، وهي تمثل المستشفيات العمومية، التي تقدَّم شرح طراز بنائها وتقسيماتها وإداراتها... إلخ، كان يقوم ببنائها الخلفاء والأمراء والأغنياء والأطباء أنفسهم، ويُنفَق عليها بسخاء عن طريق الأوقاف، ويقبل فيها كل مريض يحتاج إلى معالجة، بقطع النظر عن لونه أو دينه أو***يَّته أو مقامه؛ ذكرًا كان أم أنثى، مهما بلغت حالة مرضه، أمر قد يُستغرَب منه في عصرنا الحديث، عصر المساواة، وقد لا يصدَّق لو لم تكن بين أيدينا وثاثق تؤكد هذه الحقائق، نقتطف منها نتفًا من وقفية المستشفى المنصوري الذي بناه منصور بن قلاون عام 683هـ/ 1285م:


"ولما نجزت العمارة وقف عليها الملك المنصور مِن الأملاك بديار مصر وغيرها ما يُقارب ألف ألف درهم في كل سنة، ورتَّب مصارف المارستان، والقبَّة، والمدرسة، ومكتب الأيتام، ثم استدعى قدحًا من شراب المارستان وشربه، وقال: قد وقفتُ هذا على مثلي فمَن دوني، وجعلته وقفًا على الملك والمملوك، والجندي والأمير، والكبير والصغير، والحر والعبد، والذكور والإناث، ورتَّب فيه العقاقير والأطباء، وسائر ما يحتاج إليه مَن به مرض مِن الأمراض، وجعل السلطان فيه فراشين مِن الرجال والنساء لخِدمة المرضى، وقرَّر لهم المعاليم، ونصَب الأَسِرَّة للمرضى، وفرَشها بجميع الفرُش المحتاج إليها في المرض، وأفرد لكل طائفة مِن المرضى موضعًا، فجعل أواوين المارستان الأربعة للمرضى بالحميات ونحوها، وأفرد قاعةً للرَّمدى، وقاعة للجَرحى، وقاعة لمَن به إسهال، وقاعة للنساء، ومكانًا للمَبرودين، ينقسم قسمين؛ قسمًا للرجال، وقسمًا للنساء.





وجعل الماء يَجري فى جميع هذه الأماكن، وأفرد مكانًا لطبخ الطعام والأدوية والأشربة، ومكانًا لتركيب المَعاجين والأكحال والشيافات ونحوها، ومواضع يُخزَّن فيها الحواصل، وجعل مكانًا يُفرَّق فيه الأشربة والأدوية، ومكانًا يجلس فيه رئيس الأطباء لإلقاء درس طبٍّ، ولم يُحصِ عِدَّة المرضى، بل جعله سبيلاً لكل مَن يَرِد عليه مِن غنيٍّ وفقير، ولا حدد مدة لإقامة المريض به، بل يُرتِّب منه لمَن هو مريض بداره سائر ما يحتاج إليه".





وقد بقي هذا المستشفى مثارًا لإعجاب السياح الأوروبين في القرون التي تلَت، حتى إن المستشفى والملجأ (لكانز فان Les quinge vingot) الذى أسَّسه لويس التاسع في باريس بعد عودته مقهورًا من حملته الصليبية (652 - 659هــ/ 1254 - 1260م)، أسَّسه مُتأثِّرًا بالمسشفى المنصوري هذا.






ليس هذا فحسب، بل جاء في وقفية مستشفى ابن طولون الذى بُني سنة 261 هـ/ 865 م - أي: قبل مستشفى ابن قلاون بنيف وأربعة قرون - أنه لما فرغ من بنائه، حبس عليه دار الديوان ودُوره، في الأساكفة والقيسارية وسوق الرقيق، وشرط في المارستان ألا يُعالج فيه جُنديٌّ ولا مملوك، وعمل حمامَين للمارستان، أحدهما للرجال والآخر للنساء، حبسهما على المارستان وغيره، وشرط أنه إذا جيء بالعليل تُنزع ثيابه ونفقته وتُحفَظ عند أمين المارستان، ثم يلبَس ثيابًا، ويُفرش له ويُغدى عليه ويُراح بالأدوية والأغذية والأطباء حتى يَبرأ، فإذا أكل فروجًا ورغيفًا، أُمر بالانحراف، وأُعطي مالَه وثيابه.





وكانت المستشفيات العمومية هذه تقوم على مال الأوقاف، وكانت إيرادات الأوقاف كبيرة جدًّا، تُغطِّي حاجيات المستشفى مِن غذاء وكساء ومحروقات وأدوية وسواها؛ مِن دفع أجور الأطباء والممرضين والخدم، يذكر ابن أبي أصيبعة أن إدارة الوقف في بغداد لم تكن تُعطي المستشفى العضدي كل ما يَخصُّه مِن الوقف، فكتَب عميد المستشفى إلى الوزير عيسى بن علي يشكو إليه ذلك، فما كان من الوزير إلا أن كتَب إلى القيِّم على الوقف: "... فعَرِّفني، أكرمك الله، ما النكتة في قصور المال ونقصانه في تخلُّف نفقة البيمارستان هذه الشهور المتتابعة، وفي هذا الوقت خاصة مع الشتاء واشتداد البرد؟





فاحتل بكل حيلة لِما يُطلَق لهم ويُجعل حتى يدفأ مَن في البيمارستان مِن المرضى والممرورين، بالدثار والكسوة والفحْم، ويُقام لهم القوت، ويتَّصل لهم العلاج والخدمة، واعتنى بأمر البيمارستان أفضل عناية".
رد مع اقتباس