أحداث صلح الحديبية
وموقف قريش من المسلمين
هند بنت مصطفى شريفي
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد رأى في المنام أنه دخل مكة مع المسلمين[1] محرمًا معتمرًا، فبشَّر بها أصحابه وفرحوا بها فرحًا شديدًا، وقد اشتاقت نفوسهم إلى زيارة البيت العتيق والطواف به، وتطلعوا إلى الرجوع لمكة بعد هجرتهم منها لأكثر من ست سنوات مضت.[2]
فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - قاصدًا مكة في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة،[3] واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه، وهو يخشى من قريش الذي صنعوا أن يعرضوا له بحرب أو يصدُّوه عن البيت، فأبطأ عليه كثير من الأعراب[4]، وتخاذلوا عنه وتعلَّلوا بشتَّى الأعذار الكاذبة وهابوا قريشًا (وقالوا: أنذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة و***وا أصحابه فنقاتلهم، وتعلَّلوا بالشغل بأهاليهم وأموالهم)[5].
وأحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة، ليعلم الناس أنه خرج إلى مكة زائرًا للبيت ومعظمًا له، وساق معه الهَدْي سبعين بدنة، ومضى إلى مكة ومعه ألف وأربعمائة أو أكثر من أصحابه[6]، وهم يشعرون بالعزة والقوة،و إنه لمن عظيم الثقة بالله أن يذهب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويواجه قريشًا في عقر دارها بهذا العدد القليل، والحرب لا زالت قائمة بين الفريقين، وقريش لم تنس بعد غزوها للمدينة بعشرة آلاف من الأحزاب[7]، علاوة على عدم تهيؤ المسلمين للقتال وعدم أخذهم للسلاح، فقد خرجوا لا يحملون معهم منه إلا السيوف في القرب[8].
موقف قريش من المسلمين:
شاع بين العرب نبأ خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - للعمرة، وعلمت به قريش وفزعت من ذلك، ورأت أنَّ في ذلك تحديًا سافرًا لها، ومسًَّا لمكانتها بين القبائل، حين يدخل من تحاربه إلى بلدها ويتمتع بحمايتها له في الحرم، فعزمت على صدّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحبه عن البيت، وعاهدت الله أن لا يدخلها عليهم أبدا، وخرجت عن بكرة أبيها واستنفرت حلفاءها من الأحابيش، وقدمت خيلها بقيادة خالد بن الوليد إلى كراع الغميم[9] لمنع الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين من دخول مكة بقوة السلاح[10].
وقد روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أحرم بالعمرة ( بعث عينا له من خزاعة[11]، وسار النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى كان بغدير الأشطاط[12]، أتاه عينه وقال: أن قريشا جمعوا لك جموعًا، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك)[13].
فأبدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - استعداده للمواجهة أمام تعنت قريش، وأراد أن يشد من عزيمة أصحابه، ويثير الحمية الدينية في نفوسهم، ليتجاوز بهم مرحلة الخوف والضعف، فاستشارهم في مهاجمة ومقاتلة من صدهم عن البيت، كما روى الإمام البخاري في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( أشيروا أيها الناس علي، أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله عز وجل قد قطع عينا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين)). قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله خرجت عامدًا لهذا البيت لا تريد *** أحد، ولا حرب أحد، فتوجه له فمن صدّنا عنه قاتلناه. قال: ((امضوا على اسم الله))[14].
بذلك يتبين عزم النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين على المضي نحو غايتهم، وهي زيارة البيت العتيق، وأنهم مستعدون للصدام إذا ما ألجأتهم قريش إلى ذلك بإصرارها على منعهم من دخول الحرم[15].
وأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يثبت لقريش أنه لم يقدم لحربهم، فعدل عن طريق مواجهتهم، ليعرفوا حقيقة قصده في الموادعة وتأمين الناس، وحقنًا للدماء أن تسال، فسلك طريقًا وعرًا بين الشِّعاب، أفضى بجيش المسلمين إلى الحديبية[16]، ورأى هنالك خالد بن الوليد رضي الله عنه - ولم يسلم بعد - غبار الجيش فانطلق لينذر قريشًا اقتراب المسلمين من مكة. روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه: (أن المسلمين لما كانوا ببعض الطريق، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة[17]، فخذوا ذات اليمين، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقَتَرة[18] الجيش، فانطلق يركض نذيرًا لقريش، وسار النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها، بركت به راحلته، فقال الناس: حَلْ حلَْ، فألحَّت[19]، قالوا: خلأت القصواء[20]، خلأت القصواء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، لكن حبسها حابس الفيل[21])) [22].
وهنا ظهر حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تعظيم حرمات الله، وترك القتال في الحرم، وحقن الدماء أن تسفك في الشهر الحرام، فأعلن استعداده للتفاوض مع قريش، والموافقة في سبيل ذلك إلى أبعد الحدود، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها))[23]، ونزل المسلمون بعسكرهم في الحديبية، منتظرين ما تؤول إليه الأمور.
وبينما هم كذلك، جاءهم بُدَيْل بن وَرْقاء الخزاعي[24] رضي الله عنه -وذلك قبل إسلامه-،فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تصميم قريش على صدهم عن البيت ومقاتلتهم، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنا لم نجيء لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشًا قد نهَكتْهم[25] الحرب، وأضرَّت بهم، فإن شاؤوا مادَدْتهم[26] مدَّة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جمُّوا[27]، وإن هم أبَوا فوالذي نفسي بيده، لأقاتلنَّهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي[28]، ولينفذنَّ الله أمره)).[29]
وكان هذا بيانًا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن سبب قدومه وتصريحا منه برغبته في السلم، وقد كان في بيانه هذا في قمة الإنصاف والعدل، فقد كان يود لو أن قريشًا خلت بينه وبين الناس، ليبلغ دعوة الإسلام، وأن يبتعدوا عن طريقها ليوصلها إلى القبائل التي صدتهم قريش عن السماع والاستجابة لها، بما لها من مكانة عظيمة في نفوس العرب، حتى يقضي الله ما يشاء، فيستريحوا من مشقة قتاله، ولا يلحقهم من ذلك ضرر.
ثم يصرح باستعداده لقتال من وقف واعترض طريق دعوة الإسلام، وأن رغبته التي يعرضها في سبيل الصلح ليست عن خور أو جبن وضعف، بل هو ماض في تبليغ رسالة ربه حتى يتم الله أمره.
[1] ذكر الشيخ حافظ بن محمد عبدالله الحكمي في رسالته (مرويات غزوة الحديبية) ما يثبت حصول هذه الرؤيا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، انظر ص 22. مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ط: بدون.
[2] انظر فقه السيرة: محمد الغزالي ص 248. وفقه السيرة: منير الغضبان ص 506. ودراسة في السيرة ص 223، وصلح الحديبية وأثره في نشر الدعوة الإسلامية: الأستاذ سِلْمِي بن سلمان الحسيني وهو بحث ماجستير مقدم للمعهد العالي للدعوة الإسلامية في المدينة المنورة، عام 1405 هـ-1405، غير مطبوع.
[3] انظر سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -: ابن هشام 3/ 533، وزاد المعاد 3/286.
[4] انظر سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن هشام 3/256.
[5] السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون، إنسان العيون: علي بن برهان الدين الحلبي 2/689، بيروت لبنان، ط: بدون، 1400 هـ-1980 م. ففضحهم الله تعالى فيما بعد وأنزل فيهم قوله تعالى: ﴿ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ﴾ [سورة الفتح الآيتان 11-12].
[6] كما رجح ذلك الإمام النووي، انظر صحيح مسلم بشرح النووي 13/2، وتابعه الحافظ ابن حجر، انظر فتح الباري 7/440 ح 4147. وقد بسط المسألة الشيخ حافظ الحكمي في مرويات غزوة الحديبية من ص 39- 53.
[7] وقد كانت غزوة الخندق في شوال من سنة خمس للهجرة، كما جاء في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: ابن هشام 3/229.
[8] انظر السيرة الحلبية 2/689.
[9] موضع بناحية الحجاز بين مكة والمدينة، وهو واد أمام عُسْفان بثمانية أميال، وهذا الكراع جبل أسود في طرف الحرة يمتد إليه. بتصرف، معجم البلدان 4/443.
[10] انظر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: ابن هشام 3/356.
[11] خزاعة قبيلة غلبت على مكة، وحكمت فيها، ثم أخرجت منها فصارت في ظاهرها، وكان بينهم وبين بني بكر عداوة في الجاهلية، وكانوا حلفاء بني هاشم بن عبدمناف إلى عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان بنو بكر حلفاء قريش. بتصرف، فتح الباري 12/106 ح 6880.
[12] موضع قريب من عُسْفان. معجم البلدان 1/198.
[13] كتاب المغازي، باب صلح الحديبية 5/67.
[14] المرجع السابق، الصفحة ذاتها.
[15]بتصرف، صلح الحديبية: محمد أحمد باشميل ص 146 دار الفكر ط: 3، 1393 هـ-1973 م.
[16] هي قرية متوسطة ليست بالكبيرة، سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة التي بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها، وقيل سميت الحديبية بشجرة حدباء كانت في ذلك الموضع، وهي على 22 كيلا غرب مكة على طريق جدة، وبعض الحديبية في الحل وبعضها في الحرم. انظر معجم البلدان 2/229، والروض الأنف 4/33. ومعجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية: المقدم عاتق بن غيث البلادي ص 94، دار مكة للنشر والتوزيع، ط: 1 1402هـ 1982م.
[17] الطليعة: جمعها طلائع: هم القوم الذين يبعثون ليطلعوا طِلْع العدو كالجواسيس. وهي مقدمة الجيش، النهاية في غريب الحديث 3/133، وفتح الباري 5/335 ح 2731.
[18] القترة: الغبار الأسود، فتح الباري 5/335.
[19]حل حل: زجر للناقة إذا حثثتها على السير. النهاية 1/433. وألحت: أي لزمت مكانها وتمادت على عدم القيام. النهاية في غريب الحديث 4/236، وفتح الباري 5/335.
[20] خلأت: الخلاء للنوق كالإحاح للجمال. النهاية 2/58، والقصواء: اسم ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم -. فتح الباري 5/335.
[21] أي حبسها الله عن دخول مكة، كما حبس الفيل عن دخولها، لأنهم لو دخلوها على تلك الهيئة وصدتهم قريش عن ذلك، لوقع بينهم ما يفضي إلى سفك الدماء، ونهب الأموال، ولكن سبق في علم الله أنه يدخل في الإسلام منهم جمع عظيم. بتصرف، الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني: الشيخ أحمد عبدالرحمن البنا 21/96، دار الحديث القاهرة ط: بدون تاريخ.
[22] كتاب الشروط باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحروب وكتابة الشروط 3/178.
[23] المرجع السابق، نفس الصفحة.
[24] بديل بن ورقاء بن عمرو بن عبدالعزى الخزاعي، وكان إسلامه قبل الفتح، وقيل يوم الفتح، ولجأت خزاعة إلى داره، قيل: إنه رضي الله عنه *** بصفين وقيل: مات قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -. بتصرف، الاستيعاب 1/165، والإصابة 1/141.
[25] أي أبلغت فيهم حتى أضعفتهم. فتح الباري 5/338 ح 2731.
[26] أي جعلت بيني وبينهم مدة يترك الحرب بيننا وبينهم فيها. المرجع السابق الصفحة نفسها.
[27] أي استراحوا وكثروا. النهاية في غريب الحديث 1/301.
[28] السالفة: هي صفحة العنق وهي كناية عن الموت النهاية في غريب الحديث 2/390، وفتح الباري5/338.
[29] صحيح البخاري، كتاب الشروط باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحروب وكتابة الشروط 3/179.