جُهود يَعْقوب بن يوسف بن عبد المؤمن في حِفْظ ثُغُور الإسلام (2)
دَوْرُ قَبِيْلَتَي مَصْمُودة وكُوْمِيَّة الأَمازِيْغِيَّتَيْن في حِفْظ ثُغُور الإسلام
أُمَمٌ نَشَرت نورَ الإسلام في العالَمِيْن (18)
أ. حسام الحفناوي
مَوْقِعة الأَرَك:
خرج ملك قشتالة إلى بلاد المسلمين بعد انْقِضاء الصُّلْح الذي كان بينه وبين المَنْصور يَعْقوب لخَمْس سِنين، فعاث في بلاد المسلمين في الأندلس عَيْثًا فظيعًا، ونَهَب، وسَبَى[1]، فبَلَغَ الخَبَرُ المَنْصور، فتَجَهَّز لقَصْدِهم في جَيْش كبير من عساكر المُوَحِّدِيْن، والقبائل الأَمازِيْغِيَّة، والعربية، واسْتَصْحَب الفقهاء، والصُّلَحاء بالمغرب، عَبَر به البَحْر سنة 591هـ، فعَلِم النَّصارى بقُدومه، فجَمَعوا الجُمُوع من شَتَّى أَنْحاء بلادهم لحَرْبه.
وكان المَنْصُور قد خَفَّ إلى الخُروج لسَبْتة للعُبُور، ولم يَنْتِظر اجْتِماع الجُيوش، فتَتابع الناسُ في أَثَره من سائر الأَقْطار، ولم يَقُم بهم في الجَزيرة الخَضْراء إلا يومًا واحدًا، ثم نَهَض بهم إلى بلاد العَدُوِّ قبل أن تَفْتُر هِمَّتُهم، فنَزَل قُرْب حِصْن الأرك[2]، وكان العدو قد نَزَل بإزائه بجُيوشِه الضَّخْمة، والتي قيل: إنها كانت تزيد على 300 ألف مُقاتِل.
ووَعَظ يعقوبُ الناس، وطَلَب منهم العَفْو عما عَساه أن يكون قد صَدَر منه، فاشْتَدَّ تَأَثُّرُهم، واسْتَشار أهلَ الأندلس لمَعْرِفَتهم بقِتال نَصارَى الأندلس أكثر من غيرهم، فشاور قائدَ أهلِ الأندلس ابن الصَّنادِيْد، ثم وضع خُطَّة مُحْكَمَةً للقِتال.
فلما نَشَب القِتال ثَبَت المسلمون، وأَبْلَوا بَلاءً حَسَنًا ونَزَل النَّصْر، وفَرَّ مُلوك نَصارى الأندلس الثَلاثة الذين كانوا قد تَحالَفُوا في تلك المعركة، وقُتِل من العَدُوِّ ما يزيد على المائة ألف، واسْتُشْهِد من المسلمين نَحْو عِشرين ألفًا، وكانت الغَنائم تُعَدُّ بمئات الأُلوف.
وتَحَصَّن بعضُ الفارِّيْن من جُيوش العَدُوِّ بحِصْن الأرك، فحاصَرَهم المسلمون، وعَفا يعقوب المَنْصور عن خَمْسة آلاف من زُعمائهم، في مُقابِل تَسْليم ما يُماثِلُهم من أَسْرى المسلمين عندهم[3].
وقد كانت موقعة الأَرَك ذات أَثَر إيجابي بالِغ في تاريخ الأندلس، لا يُقاربه أو يُدانِيْه إلا أَثَر مَوْقِعة الزَّلَّاقة التي خاضَها يوسفُ بن تاشفين ضد ألفونسو السادس، وسَبَق الحديثُ عنها.
ثم تَقَدَّم يعقوبُ بن يوسف بجُيوشه إلى بلاد العَدَوُّ، فافْتَتَح الحُصُون، والمَعاقِل، واكْتَسَح المُدُن والقُرى، وحاز من الأَسْرَى والمَغانِم ما لا يُحْصَى، حتى وَصَل إلى حِصْن قُرْب طُلَيْطَلَة يُسَمَّى بحِصْن جَبَل سُليمان، دون أن يَعْتَرِضَه أَحَد، ثم رَجَع إلى إشْبِيْلِيَة وقد امْتَلأت أَيْدِي المُسْلِمين من الغَنائِم، فنزلها حِيْنًا بها؛ ليَسْتَرِيْح الجَيْش.
ثم نَهَض بالناس لقِتال مَلِك قشتالة في الجُموع الكبيرة التي جَمَعها للانتقام[4] بعد أن أَرْسَل إلى المَغْرِب يَسْتَنْفِر الناسَ من غير إكْراه، فأَتاه من المُتَطَوِّعة والمُرْتَزِقة جَمْعٌ عَظيم، فالْتَقَى الجَيْشان سَنَة 592هـ، فانْهَزَم العَدُوُّ هَزِيْمة قَبِيْحة، وغَنِم المسلمون ما معهم من الأَموال، والسِّلاح، والدَّوابِّ، وغيرها.
ثم تَقَدَّم المَنْصُور إلى مَدِيْنة طُلَيْطَلة، فحاصَرَها، وقاتلها قِتالًا شديدًا، وشَنَّ الغارات على ما حولها من البِلاد[5]، وفَتَح فيها عِدَّة حُصُون، مثل قَلْعة رَباح، ووادي الحِجارة، ومَجْرِيط - وهي مدريد الحالية - وجَبَل سُلَيْمان، وأُقْلِيْش[6]، وكثيرًا من أَحْواز طُلَيْطَلة، ثم ارْتَحَل إلى مَدِيْنة طَلَمنْكة[7]، فدَخَلَها عَنْوَةً بالسَّيْف، فقَتَلَ المُقاتِلة، وسَبَى النِّساء والذُّرِّيَّة، وغَنِم أَمْوالها، وهَدَم أَسْوارَها، وأَضْرَم النَّيْران في جَوانِبها، وتَرَكها قاعًا صَفْصَفًا، ثم عاد إلى إشْبِيْلِيَة، فدَخَلها سنة ثلاث وتسعين. ثم خرج من إشْبِيْلِيَة غازيًا بلاد قشتالة، حتى نَزَل بساحة طُلَيْطَلة، فبَلَغَه أن صاحب برشلونة وصاحب طُلَيْطَلة قد خرجا بعَساكِرهما، وأنهم جميعًا بحِصْن مَجْرِيْط، فنَهَض إليهم، فانْفَضَّت جُمُوعهم لما أَطَلَّ عليهم من قبل القِتال، ثم رجع إلى إشْبِيْلِيَة.
ثم اجُتمع مُلوك النَّصارى بالأندلس، وأَرْسَلوا يطلبون الصُّلْح، فأجابهم إليه، وصالحهم على مُدَّة خَمْس سنين، بعد أن كان عازِمًا على الامْتِناع، مُرِيْدًا لمُلازَمَة الجِهاد إلى أن يَفْرُغ منهم، فأَتاه خَبَرُ علي بن إسحاق المَسُّوْفِي المَعْروف بابن غانِيَة، وأنه دخل إفْرِيْقِية، وأراد الاسْتِيلاء عليها[8]، ففَتَّ ذلك في عَزْمه، وصالَحَهم على المُدَّة التي ذكرنا؛ ليتفرغ لشأن إفْرِيْقِية، فعاد إلى المغرب في سنة 594هـ، ثم توفي يعقوب في السنة التالية رحمه الله تعالى[9].
[1] كان المنصور يتجهز للغزو في الأندلس قبل انتهاء مدة الصلح، حتى يشرع في الغزو عقب انتهاء المدة، فمرض مرضا شديدًا، فطمع ملك قشتالة ببلاد الأندلس، لاسيما وقد تفرقت جيوش المُوَحِّدِيْن لتسكين عيث بعض القبائل العربية المجاورة لهم بالمغرب، فازداد طمع ملك قشتالة. انظر: الاستقصا (2/ 186،185).
[2] هو حصن منيع بمقربة من قلعة رباح أول حصون مملكة قشتالة بالأندلس. انظر: الروض المعطار (ص27).
[3] انظر: وفيات الأعيان (7/ 4-8)، والبيان المغرب قسم الموحدين (ص215-221)، والاستقصا (2/ 185-191)، ودولة الإسلام في الأندلس (4/ 196-217). ولقد ندم يعقوب بن يوسف بعد ذلك على العفو عن كل هؤلاء المقاتلين؛ لكونهم سيسعون للانتقام لما نزل بهم من هزيمة فيما بعد، وهو ما وقع في معركة العقاب التي كانت عقابا فعلًا، ومؤذنة بزوال شمس الإسلام من شبه جزيرة الأندلس. انظر: الاستقصا (2/ 206،205).
[4] لما انهزم ملك قشتالة، وصل إلى طليطلة في أسوأ حال، فحلق رأسه، ولحيته، ونكس صليبه، وركب حمارًا، وأقسم أن لا يركب فرسًا، ولا بغلًا، ولا ينام على فراش، ولا يقرب النساء، حتى تُنْصَر النصرانية، فجمع جموعًا عظيمة، وخرج بها. الاستقصا (2/ 192).
[5] لما حاصر يعقوب طليطلة، وضيق عليها، ولم يبق إلا فتحها، خرجت إليه والدة الملك، وبناته، ونساؤه، وبَكَيْن بين يديه، وسألنه إبقاء البلد عليهن، فرَقَّ لهن، ومَنَّ عليهن به، ووهب لهن من الأموال والجواهر ما جَلَّ، وردهن مُكَرَّمات، وعفا بعد القدرة. انظر: نفح الطيب للمقري (1/ 444،443)، وعنه الناصري في الاستقصا (2/ 193).
[6] هكذا ضبطها ياقوت في معجمه (1/ 237)، وهي مدينة من أعمال طليطلة، وقيل: من أعمال شنت برية. قال الحميري: وهي مُحْدَثة، بناها الفتح ابن موسى بن ذي النون، وفيها كانت ثورته وظهوره في سنة ستين ومائة، ثم اختار أقليش دارًا وقرارًا، فبناها، ومَدَّنَها. انظر: الروض المعطار (ص52،51).
[7] هكذا ضبطها ياقوت في معجم البلدان (4/ 39)، وهي مدينة بثغر الأندلس، بناها الأمير محمد بن عبد الرحمن بن هشام الأموي، وبينها وبين وادي الحِجارة عشرون ميلًا. انظر: الروض المعطار (ص393).
[8] سبق قبل ذلك ذكر خروج علي بن إسحاق، واستيلائه على كثير من مدن المغربين الأدنى، والأوسط بمعاونة قراقوش الغزي، وبعض القبائل العربية في تلك الأنحاء، وخروج المنصور لقتالهم، وتشريده لجموعهم، وهزيمته لجيوشهم، واستعادته لما حازوه من المدن، وحمله عددًا من رؤوس العرب معه إلى المغرب الأقصى؛ ليكونوا تحت بصره، وفي قبضته، ثم تكرر خروج علي بن إسحاق مرة أخرى عقب معارك المنصور المذكورة في الأندلس، فعاد إلى المغرب، وتوفي عقب عودته بقليل. انظر: تاريخ الإسلام (42/ 227)، والاستقصا (2/ 193). وفي هذا الخبر وأمثاله ما يبين مغبة شق عصا المسلمين، وتفريق جموعهم، فطالما حكمهم الحاكم بشريعة الله تعالى، فوجب عليهم الاجتماع، وحرم عليهم النزاع، وإن ظهرت منه بعض المظالم أو البدع أو الفسوق، إلا أن يروا كفرًا بواحًا عندهم من الله تعالى فيه برهان كما أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم.
[9] انظر: البيان المغرب قسم الموحدين (ص223-227)، ووفيات الأعيان (7/ 9)، وتاريخ الإسلام (42/ 225-227)، وتاريخ ابن خلدون (6/ 245)، ونفح الطيب (4/ 382،381)، والاستقصا (2/ 193،192).