ابن فضل الله العمري في ردّه على كتاب "الشهب الثاقبة" (2/3)
د. جاسم العبودي
الجزء الثاني
4- أدب المناظرة بين التجني والاعتراف بالفضل
يقال أهجى بيت قاله شاعر قول الأخطل في بني يربوع رهط جرير:
قومٌ إذا استنبَحَ الأضيافُ كلبَهُمُ قالوا لأُمِّهِم: بُولي على النَّارِ
الحقيقة أني كلما تذكرت هذا البيت، توقفت إجلالاً لقائله، ليس تشمتًا ببني يربوع، ولا انتقاصا بجرير. أتخيلك تهمهم قائلاً: وَلِمَ كل هذا الإجلال إذن ؟. نعم، ستعرف ذلك إذا حزرت كم صورة شعرية خالدة فيه ..خمس .. ست ؟!. هذه المفردات بإخراجها عن معناها المألوف؛ بمعانيها وصورها وأفكارها وخيالها ومضامينها وجرسها وإيقاعها …إلخ، هي العطاء الثري الذي يجب أن ننظر إليه، لأنه إغناء لتراثنا الأدبي. فجرير هو جرير الفحل، ولا حتى سهام الفرزدق كانت قادرة على إسكاته، ولا بني يربوع دَفنوا أنفسهم في مقابر العار.
وما نريد قوله هو "الإنصاف" أولاً، بأن نتجرد من التحيز إلى جهة؛ أندلسية كانت أو مغربية أو مشرقية.
وثانيًا: توخِّي المعلومات القيِّمة المبثوثة في تفاصيل هذه المعاني، وهم الأهم.
وثالثًا: إحلال "النقد" محل "الذم".
وها أنت ترى ابن سعيد لم يفرق بين الأندلسيين والمغاربة ابتداء من عنوان كتابه (الشهب الثاقبة)، حيث جمع فيه العدوتين تحت مصطلح "المغاربة"، وهو بمثابة العمائم؛ وهي شعار "المغربية"، ولم يترفع عليهم بقلانس "الأندلسيين"؛ رمز "الأندلسية"، ولم "يذم أحدا"، وإنما انتقد أوضاعا رآها؛ على الأقل في هذا الكتاب، عملا بما التزمه - كما قلنا سابقا- في (المقتطف)، لكنك تقرأ لمن "يذم" ابن سعيد أو ينال أو يتهكم منه أو من قومه.
في الورقة 39 ستقرأ اعتراف العمري بذلك، حين يقول: "واجتمع علي بن سعيد، صاحب كتاب (المغرب)، مع العماد السلماسي، في مجلس جرى بين أهله ذكر المشرق والمغرب، وزاد في ذلك المجلس من التنقص والتهكم بالغرب، حتى كادت تقوم بينهم الحرب"، وبعده بسطر ونصف يسألون ابن سعيد متهكمين: "المغرب هل فيه أنهار مثل المشرق ؟!". ويأتيك الحق في جواب السلماسي له: "وكفى جوابا قول الله عز وجل "أتهلكنا بما فعل السفهاء منا" ؟. لو لم يكن للمغرب إلا طلوعك علينا منه، لصمتنا له عن كل نقيصة، وأغضينا عنه. فكيف وقد ملئ فضائل ..." ؟.
اقرأ شهادة الصفدي ( ت 764/1363) وقارن، حيث يقول: "أخبرني الحافظ فتح الدين محمد بن سيد الناس من لفظه، قال: دخل عليَّ والدي يوما، وأنا أكتب في شيء من كلام ابن سعيد، فقال لي: أيش هذا الذي تنظر فيه؟ فقلت: شيء من كلام ابن سعيد، فقال: دعه، فإنه لا بالأديب الرائق، ولا المؤرخ الواثق. انتهى. ولعمري ما أنصفه الشيخ أبو عمرو، فإن ابن سعيد من أئمة الأدب المؤرخين[1] المصنفين". علما أن الكلمة الأخيرة لابد وأنها قد تصحفت، لأن الباحث المنصف لا شك أن يقرأها حسب السياق: "المنصفين" بدلا من "المصنفين".
وهذا شريكه ابن فضل الله يقول: "وهو صاحبي الذي أوافقه في هذا الكتاب [يعني مسالك الأبصار] تارة وتارة أؤاخذه، ومرة أعاهده ومرة أنابذه"[2]. فهل حقاً أن ابن فضل الله صادقا ملتزما مع "صاحبه" بما يقول ؟!. انظر فهو يشتط منه غضبا في الأسطر الأولى من الورقة الأولى (الثانية حسب ترقيم المخطوط): "ثم أنني رأيت من أهل المغرب [يقصد ابن سعيد] من يطاول ممتد الشرق بباعه القصير، ويكاثر بحره الزاخر بوشله القليل". فكيف "باعه قصير" ؟!، وهو القائل عن ابن سعيد : "وكان أجمَّ من البحر إمداداً ، وأسجمَ من القطر عِهادا". ويتهمه بالتعصب مراراً، ويعترف له بالإنصاف أحياناً على مضض: "ولقد همَّ ابن سعيد في كتاب (المغرب) بالتعصب لبلاده، ثم منعه الإنصاف. وإن كان في بعض الكلام قد أشار وما صرح"[3].
لاحظ سياسة العصا الغليظة التي يرفعها ابن فضل الله العمري واحكم، حيث يقول في بداية الورقة الخامسة: "وكيف تستوي بلاد جنوبَها الهند ؟؛ وهم من أهل العلم والحكمة، مع صفاء الألوان، وحسن الصورة وكمال التخطيط ... ببلاد جنوبُها حثالة السودان؛ المحترقة ألوانهم، المشوّهة صورهم، المختلفة تخاطيطهم، غاية الجهالة، والنفوس البهيمية، لا عقول لهم ولا إفهام، هم أقرب شبهاً من بني آدم بالأنعام ... ولو أنصف ابن سعيد حق الإنصاف، وأذعن لواجب الاعتراف، لما قال: فوجب التسليم من المغاربة للمشارقة، لأنه يجب للمشارقة على المغاربة التسليم في كل شيء شاؤوا أو أبوا، اللهم إلا في القليل النادر الذي لا حكم له".
والعمري بكلامه هذا يجسد النظرية الجغرافية التي كانت سائدة، من أن المناخ هو العامل الحتمي لنشاط العلوم وجمودها، كما ذكر صاعد من أن "الجلالقة والبرابرة وسائر أكناف المغرب من هذه الطبقة فأمم خصها الله تعالى بالطغيان والجهل، وعمها بالعدوان والظلم"، وقد فند صالح العلي[4] تاريخيا كلام صاعد بهذا الصدد. وهذا التعسف قديم متأصل، فقد نقل ياقوت أسطورة بابلية، زعمت أن الملائكة عندما تفرقت، "قال ملك الجفاء: أنا أسكن المغرب، فقال ملك الجهل: أنا معك، فاجتمعت الأمة على أن الجفاء والجهل[5] في البربر".
وتستشري ظاهرة التجني وتمتد إلى عصرنا هذا، غالبا ما تكون تحت نوازع عاطفية أو إقليمية، فنجد من يقرر منذ البداية في بحثه وقبل سياق أدلتة: "أن الأندلسيين كانوا على العموم هم البادئين (كذا) بالتجني على أهل العدوة"[6]، ولم يتحر فيه أسباب باب هذا "الصراع" ولا "ازورار المغاربة" إزاء الأندلسيين.
ولكن ما رأيك بالإدريسي؛ وهو سبتي المنشأ، قرطبي المنزع والثقافة ، صقليّ الفكر والوفاة ، وهو يقول العكس ، أيهما تصدق ؟ : "وكان أهل المغرب الأقصى من الأمم السالفة يغيرون على أهل الأندلس ، فيضرون بهم كل الإضرار ، وأهل الأندلس أيضا يكابدوهم ويحاربوهم جهد الطاقة ، إلى أن كان الإسكندر ...". وقد نسبه المقري كعادته إلى "غير واحد من المؤرخين" بتعديل بسيط[7]، وترجم جميعه المستعرب الإسباني بالبيه دون تعليق[8].
وآخر يتهم ابن سعيد بالتعصب لبلده - وهو أمر طبيعي - "والمغالاة في إظهار الفضل والامتياز حتى لا يتحرج عن المساس بالبلاد المشرقية التي كان يعيش فيها. وهذا الاستعلاء من الأندلسيين على غيرهم وعدم تحرزهم مما يجرح مشاعر الغير". وكل ذلك إثر دقة وصفه لمصر: "ولقد تعجبت لما دخلت الديار المصرية من أوضاع قراها التي تكدر العين بسوادها، ويضيق الصدر بضيق أوضاعها ..."[9]. وكلام مؤنس هذا يتنافى مع ما تواتر من أن صيت ابن سعيد قد سبقه إلى عاصمة الديار المصرية، ولم أعلم أن نائب السلطنة ابن يغمور قد جرح مشاعره وصفُ ابن سعيد، بل العكس ضمه إلى حاشيته، ولا ابن العديم[10] صاحب تاريخ حلب والذي اصطحبه معه.
لقد أجاد شاعرهم في وصف حال أهل الأندلس:
ونحنُ بينَ عدُوٍّ لا يُفارِقُنا كيفَ الحياةُ مع الحيَّاتِ في سفطِ
فَهُمْ محاصرون وعليهم أن يثبتوا هويتهم، فقد كانوا ما بين "لدغات الأفاعي" من نصارى ومسلمي بلدهم، وما بين سيف المشرق مسلط على رقابهم، وخنجر المغاربة مسلول في خاصرتهم.
فالمشارقة يترفعون على المغاربة وكثيرا ما يرددون: "وهل وصل إلى الغرب من السؤدد، إلا ما فضل عن الشرق، أو لبس إلا ما أعاره من الخليع المبتذل ؟، لما دخل عبد الرحمن الداخل، إلى جزيرة الأندلس، واجتمع إليه من شذاذ القوم من نفضتهم مزاود المشارق، ولفظتهم أسرة الملك، فحينئذ صار الناس بالغرب ناساً ، وإلا كانوا كالبهائم السائمة . فمن ذلك الوقت تكلموا باللغة العربية، وامتازوا بالنطق على الحيوان"[11]. ولسان حال المغاربة: "أتقول هذا وما الملك والفضل إلا من بر العُدوة ؟!"[12].
إن الشخصية الأندلسية حادة الحساسية إزاء كل حكم له مساس بالذاتية الأندلسية من قريب أو بعيد، نتيجة تراكم ظروف سياسية وتاريخية وثقافية معقدة، وما حظيت به مواقفهم من المشارقة والمغاربة وتنزيل الأندلسيين ثقافتهم المنزلة الفضلى من دراسات[13] لم تكن كافية، كما أنها لم تغط رأي الأندلسيين، بل تمجد الجانب المغربي.
نحن بحاجة ماسة إلى مراجعة كثير من المسلمات والأفكار المسبقة في تأريخ الثقافتين الأندلسية والمغربية. ومما يشرح الصدر أن بحوثا متزنة قد بدأت تغزو الساحة المغربية، فنجد بينها من يبرهن[14] أن الأدب المغربي كان هزيلا إلى نهاية القرن الثالث الهجري.
ويذهب باحث آخر إلى أعمق من ذلك وهو "أن الأندلس سبقت المغرب إلى احتضان الثقافة العربية الإسلامية، مضيفة إليها التراث العلمي والفكري العالمي، وبذلك أمكنها بالنسبة للمغرب بمثابة الأستاذ في فترة التاريخ الوسيط، لكن ابتداء من القرن الثامن الهجري، على الأقل، أمكن للمغرب أن يصبح شريكا لأستاذه في مواصلة النشاط الثقافي، تأليفا وتدريسا واجتهادا"[15]، وهو من أسرار هذا الصراع الأدبي بين العدوتين، والذي لم يقر به المغاربة يوما للأندلسيين قبل هذا التاريخ.
إن هذا وذاك هو بعض علل هذه "النفرة الطبيعية بين الأندلسيين والمغاربة"[16]. وقد لعبت الظروف السياسية دوراً بارزاً في تأجيج نار العداوة والكراهية، وتجني كل فريق على الآخر[17]، الذي تمثل في الملاحاة والمفاخرة. فقد ذكر المقري نقلا عن الحجاري في "المسهب": "إن يوسف بن تاشفين أهدى إلى المعتمد جارية مغنية قد نشأت بالعدوة، وأهل العدوة بالطبع يكرهون أهل الأندلس، وجاء بها إلى إشبيلية، وقد كثر الإرجاف بأن سلطان الملثمين [يريد أن] ينتزع بلاد ملوك الطوائف منهم، واشتغل خاطر ابن عباد بالفكر في ذلك ..."[18].
إن أدب "المناظرة" أو "المفاضلة" أو "المنافرات" هو رد فعل طبيعي وقديم، على نظرية اليد العليا هي الأصل وما سواها ليس إلا فرعا لا يساوي شيئا، لشعور هذا الفرع بالذاتية والتمرد على زعامة الأصل، أي رفض التبعية، رغم اعتراف الأندلسيين أن المشرق هو الأصل، ولكن الأصالة ليست مقصورة عليه. وهو متعدد الأشكال متنوع المظاهر، يحدث حتى في البلد الواحد. ويمكن أن نقسم هذا النوع من الأدب إلى قسمين:
1. أدب مفاضلة بعيد عن المعايب والانتقاص ، كما في رسالة صفوان[19] بن إدريس (ت 598/1202) "في تغاير مدن الأندلس"[20]، والتي أغرت المستشرق الإسباني [21] Granjaفترجمها للإسبانية مع تعليقات قيمة.
وهذه الرسالة لعذوبتها وشهرتها، قد انتحل فكرتها وأغلب مقاطعها مصطفى أحمد عبد القادر التونسي الأصل، الطرابلسي المولد والنشأة، في محاورته التي يمدح بها الوالي العثماني أسعد مخلص باشا، الذي تولى الحكم في بلاد الشام بين عامي 1282 هـ و 1283 هـ، ولم يلتفت إلى ذلك المحقق[22] الذي وصفها بأنها "زهرة نشم منها عبق الماضي القريب" وما عليك إلا أن تقارن بين المحاورتين.
2. أدب منافرات، حيث تعود أوائله في الأندلس إلى القرن الرابع الهجري على أثر مقولة ابن حوقل الشهيرة، فلا بد من تصدى لها بالرد، ولكن رده ضاع. ثم تطور التحدي في أوائل القرن الخامس الهجري، حيث كان على لسان أحد أدباء إفريقية: ابن الربيب القيرواني[23] الذي وجّه رسالة إلى أبي المغيرة عبد الوهاب بن[24] حزم يضمنها مؤاخذات على علماء الأندلس. كما حضيت هذه الرسالة من بعد بردّ أبي محمد ابن حزم وتذييل ابن سعيد عليها[25]. ثم زادت نبرة الصراع في رسالة الشقندي ( ت 629/1232) في رده على ابن المعلم الطنجي، والتي ترجمها غارثيا غومث للإسبانية تحت عنوان مثير: [26]Andalucía contra Berbería (الأندلس ضد بلاد البرابرة).
رغم علمه أن استخدام كلمة "بربري، بربر، أو برابرة" يمتعض لها الكثير، فقد نقل ( ص 10) خبر نكبة ابن رشد بسبب قوله "رأيته عند ملك البربر" بدلا من قوله "رأيته في حضرة أمير المؤمنين". وقد نشر غارثيا غومث في هذا الكتاب ترجمة ثلاثة نصوص وهي: "الحكم الثاني والبربر" حسب نص غير منشور لابن حيان، و"رسالة في فضل الأندلس" للشقندي، و"المفاخرة بين مالقة وسلا" لابن الخطيب. ويمكنك أن تدرج (الشهب الثاقبة في الأنصاف بين المشارقة والمغاربة) بالتحديد مع هذا الصنف، وأنت مطمئن.
وفي العصر المريني نجد ثلاثة نصوص في المراشقات القلمية بين الأندلسيين والمغاربة: أولها "طرمة الظريف في أهل الجزيرة وطريف" التي نشرها ابن شريفة[27]، وثانيهما "مفاخر البربر" وهو مسرد تاريخي، وأما النص الثالث فهو "المفاخرة بين مالقة[28] وسلا" لابن الخطيب. إن أدب المناظرة هذا بنوعيه هو من صنف الجغرافية - الأدبية - التاريخية، ثري بمعلوماته، لا يخلو من قيمة توثقية عالية، طغت فوائده الكثيرة على معايبه القليلة، أبطاله الأموات أحياء. فإن أردت أن تخوض معهم عباب هذا البحر فإياك أن تغرق في لجة التعصب.
يتبع