
26-05-2015, 04:44 AM
|
 |
عضو لامع
|
|
تاريخ التسجيل: Apr 2015
العمر: 61
المشاركات: 4,132
معدل تقييم المستوى: 15
|
|
ابن فضل الله العمري في ردّه على كتاب "الشهب الثاقبة" (2/3)
د. جاسم العبودي
5- أهمية الكتاب
لا نكاد نجد مصدرا أو مرجعا ذا قيمة في الأدب والتأريخ والجغرافيا لا ينوه باسم ابن سعيد، إن لم يقتبس من كتبه. نعلم أن (للمغرب) منهج تأليف معقد، حيث أن القاعدة فيه تُعدُّ عروسا لمملكتها. وللعروس الكاملة الزينة: "منصة وتاج وسلك وحلة وأهداب". أما "المنصة" فخاصة بالمعلومات الجغرافية. وأما "التاج" فخاص بمن حكموها. وأما "السلك" فخاص بأشرافها ورؤسائها من الوزراء والكتاب والقضاة، وعلمائها من الفقهاء والنحاة والمحدثين والفلاسفة، وشعرائها المختلفين …إلخ.
وإذا طبقنا هذا المنهج على (نفح الطيب) - وهو منجم أندلسي لا ينضب، نعود إليه حيثما ومتى ما شئنا- اكتشفنا من خلال نصوصه، أن "منصة نفح الطيب" جلها من (المغرب) و(المشرق) و(الشهب الثاقبة)، وأن قاعدة "تاجه وسلكه" من (المغرب) أو من كتب أخرى لابن سعيد، فما بالك بالحلة والأهداب ؟.
لنأخذ مثلا آخر، ما رأيك بالقلقشندي (ت 821|1418) في موسوعته (صبح الأعشى) ؟؛ ولا أحد يشك في نزاهته. دقق النظر في مصادر كل معلومة جغرافية فيه حتى عام 685 /1286؛ سنة وفاة ابن سعيد، من دون الرجوع إلى فهارسه، ألا تقرر أن لابن سعيد فيها حصة الأسد ؟. فالقلقشندي لم يأل جهدا من ذكر اسم ابن سعيد حيثما تأكد له ذلك، إلا إذا تعذر عليه، وإن لم يكن غريبا على عارفي سلاسة ورصانة أسلوب ابن سعيد، المتميز عن بقية الجغرافيين.
ولعلك تشاطرني الرأي وأنت تتفحص بدقة حضور ابن سعيد في معلومات (صبح الأعشى) الجغرافية، سواء أكان مقرونا باسمه أو لم يكن، تجده أضعاف ما ذُكر في فهارس (صبح الأعشى)، وأن كثيرا من معلوماته هي نفسها في (مسالك) ابن فضل الله العمري، سواء أُشير إلى مالكها الأصلي ابن سعيد أو لم يُشر. وهذا مما أضاف على الجانب الجغرافي السياسي في (مسالك الأبصار) مادة دسمة متميزة.
وقد أكد ذلك المنوني[29] من أن العمري اعتمد مصدرين في معلوماته عن المغرب: مشافهة مغاربة ثلاثة وكتاب (المغرب)، وقد فطن أنه ينقل من نسخة كاملة (للمغرب) تختلف عن المطبوع، كما لاحظنا ذلك في أماكن عدة من (الشهب الثاقبة) (انظر ورقة 3). ثم اقتبس من مسالكه فصلا كاملا (ص 290-309)، عليه بصمات ابن سعيد واضحة، يصف مظاهر الحياة أيام السلطان أبي الحسن المريني في سنة 738/1338.
دعنا نسمع شهادة دوروتيا كرافولسكي[30] ؛ وهي باحثة جادة قد سبرت ابن فضل الله العمري جيدا: "أما البنية الأساسية للمقدمة التاريخية عن العرب فليست من صنيع العمري، بل هو يستند في ذلك إلى ابن سعيد في كتابه: نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب، بواسطة أبي الفداء الذي اختصر في تاريخه فصول ابن سعيد عن أنساب العرب". وتضيف قائلة: "على أن ابن سعيد لا يشكل مصدراً ومنطلقاً للعمري في هذا الفصل فقط من كتابه، بل أن علاقته بكتب ابن سعيد تتعدى اقتباس بعض الفقرات إلى مسالك الأبصار كله".
وأضافت في الهامش أن العمري لم يذكر "في رده على ابن سعيد رسالة أو كتابا لابن سعيد في ذلك، لهذا لابد من بحث مستقص وتفصيلي في كتب ابن سعيد لمعرفة المواطن والرسائل التي يستند إليها العمري في حجاجه معه". والحقيقة أن الفقرات التي اقتبسها العمري في هذا الفصل هي من كتاب (الشهب الثاقبة) كما أثبتنا ذلك أعلاه، والذي ذكره العمري أكثر من مرة، لكن الباحثة المذكورة لم تنتبه إليه.
وإذا استرسلنا في قائمة الذين انتفعوا بمعلومات ابن سعيد أو نسخوا منه فقرات طويلة، وجدتها طويلة، ما عدا ابن خلكان (608-681 هـ) الذي لم يعودنا النقل عنه رغم أنه معاصره كما يقول إحسان عباس[31].
إن امتلاك الصفدي وحده لعدد من كتب ابن سعيد تدل على المكانة الرفيعة التي كان يحظى بها كاتبنا، فكتاب (المغرب) قد ملكه بخط ابن سعيد، وملك ثلاث مجلدات من (المشرق) وبخطه، وقد رأى (حلي الرسائل) بخطه، و(كنوز المطالب في آل أبي طالب) ملكه بخطه[32]، الذي نقل منه التيجاني في رحلته المكتوبة ما بين 706-708 هـ، كما ذكره ابن تغري بردي ( 813-874 هـ) في (المنهل الصافي).
وإذا تأملنا الجوانب الرئيسية الثلاثة من إنتاج ابن سعيد، وجدنا أن أضعفها هو الأدبي، رغم شهرته به عند القدامى والكثير من المحدثين. أما الجانب التاريخي، فقد أجاد فيما كتبه عن بلده، ونقل عما سواه. وكان أصيلا وبارعا ومحققا وجديرا بالإعجاب في الجانب الجغرافي، كما بين ذلك ب. موريتز في دراسته عما كتب ابن سعيد عن صقلية، وبارتولد في دراسته عن أوروبا الشرقية، وهَونْجِمان في كتابه عن الأقاليم السبعة، وجورج سارتون في مقدمة تاريخ العلم، وغيرهم ممن أحصتهم كراتشكوفسكي[33]، رغم أن أبا الفداء (ت 732/1331) وابن فضل الله العمري قد خطآه وحملا عليه بقسوة في نقدهم، إلا أن هؤلاء الباحثين أثبتوا أن الرجل كان على علم صحيح. ولعل ذلك من أسباب خلود اسمه وشهرته التي غزت أقلام القدامى والمحدثين من عرب وأجانب، ومنهم من عدَّه بحق "من أفذاذ الرجال في تاريخنا الفكري"[34]، لمساهمته المتميزة في الثقافة العربية - الإسلامية.
لقد جند ابن سعيد قلمه في (الشهب الثاقبة) ليصور بلده في أعظم صورة. وما يزال قسم لا بأس به من كتابه منقولا عن أصول ضاعت، كما في "الكمائم" للبيهقي، أو تفرده بأخبار أصيلة كبيان فضائل جند المشارقة وتفوقهم على جند المغاربة (و 66-67)، والتي ساقته موضوعيته فيه إلى التشهير بفرسان الأندلس. ويمكننا أن نعده مدخلا حسنا في أدب المناظرة، حيث سخر فيه مادته لتصوير الحياة الاجتماعية والأدبية، والتي لا تخلو من جديد معتبر، كما في ملاحظاته الدقيقة بعين عالم اجتماع لأحوال البلاد المشرقية ومقارنتها بالبلاد المغربية (و26-27)، كما استنقذ من يد النسيان والضياع بعضا من الأخبار، كحديثهما عن العملات وأثمانها، مثل الدراهم السود والنقرة والدرهم الصغير والكبير والدرهم الناصري والكاملي والدنانير الجيشية وغيرها.
وقد لعبت المعاصرة في كتب ابن سعيد دورا بارزا، سواء من جيله، أو من أجيال سبقوه وفقدت مؤلفاتهم، ولهذا اكتسبت مؤلفاته قيمتها الحقيقية، لا من ناحية كمية النصوص التي احتوتها، ولكن من حيث نوعيتها، وتعدد بيئتها، وأهمية توثيقها، وثبوت الأخبار التي ارتبطت بها.
إن المادة الغزيرة التي يحتويها كتابنا هذا، بما فيها تلك المعلومات التي لا نجد بعضها في سواه، وطريقة عرضها ومناقشتها، نضعها بين يديك لتنهل منها مرادك وتحكم وتكون ما تشاء من آراء وأفكار.
لقد حاولنا هنا إعادة بناء كتاب غني بمعلوماته، ونشره محققا، وإنقاذه من الضياع، وإن لم يكن كاملا، ساهم في صرحه عالمان جليلان، اعتمدا فيه على مصادر جمة؛ هي: المصنفات، والمشاهدة كما في رؤية ابن سعيد غلمان صقالبة جواسيس في القاهرة، والغلمان الأتراك ذوي الأثمان الغالية الذين يجلبون إلى ملوك الأندلس وسلاطين بر العدوة (و 43)، أو ملاحظاته عن دمشق ومقارنتها بغرناطة (و 36-39)، والرواية الشفوية والمقابلة والمسائلة، والسماع كما في معلوماته عن عظمة أمراء حلب (و 67) ورفاهية جندها (و 66)، وكل هذا يضيف على النص حيوية وجدة وقيمة توثيقية.
ـــــــــــــــــــ
[1] الصفدي، الوافي بالوفيات، الجزء الثاني والعشرون، اعتناء رمزي بعلبكي، فيسبادن 1404/1983: 253-259.
[2] ابن سعيد، المغرب في حلى المغرب : 1/ 6-7.
[3] انظر: الرد على الشهب الثاقبة، الورقة الثانية، وهي الثالثة حسب ترقيم المخطوط.
[4] العلي، صالح أحمد، العلوم عند العرب، بيروت 1409/1989: 94-95.
[5] ياقوت، معجم البلدان، تحقيق فريد عبد العزيز الجندي، بيروت 1410/1990: 1/ 368، رقم 1268.
[6] ابن شريفة، "من منافرات العدوتين"، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس، ع 1، 1977: 8.
[7] الإدريسي، نزهة المشتاق، ط. نابولي 1975: 526، ط. دوزري، ص 166 ؛ المقري، نفح الطيب: 1/135-6.
[8] Vallvé, J., La división territorial de la España musulmana, C.S.IC., Madrid 1986, 112-3.
[9] مؤنس، حسين، تاريخ الجفرافية والجغرافيين في الأندلس، مدريد 1386/1967: 490-1.
[10] ابن شاكر الكتبي، فوات الوفيات، بيروت 1973: 3/126-129.
[11] انظر: الرد على الشهب الثاقبة، نهاية الورقة السابعة وبداية الورقة الثامنة.
[12] من رد ابن المعلم الطنجي على رسالة الشقندي في الدفاع عن الأندلس، انظر: المقري، نفح الطيب: 3/186-222.
[13] ماجد، جعفر، "العلاقات الأدبية بين قرطبة والقيروان في القرن 4 و 5 للهجرة" حوليات الجامعة التونسية، تونس 1976، العدد 13؛ بو يحيى ، الشاذلي، "مساهمة الأفارقة في الحياة الثقافية بالأندلس في عصر الطوائف والمرابطين"، حوليات الجامعة التونسية، تونس 1981، ع 20: 7-41؛ ريدان، سليم، "تطور الحساسية الأندلسية وأثرها في العلاقات الأدبية بين الأندلس والمشرق في عهد المرابطين …" ، حوليات الجامعة التونسية، تونس 1981، ع 20: 191-212؛ ابن حمدة، "مدارس الثقافة بالقيروان في القرن الثالث الهجري"، مجلة جامعة الزيتونة، ع 3، تونس 1414-1415/1994: 9-45؛ العبودي، جاسم، "دور المدرسة القيروانية ضمن المدارس الفقهية الواردة في المعيار للونشريسي"، دعوة الحق، الرباط 1418/1997، ع 331: 94-109.
[14] الأخضر، محمد، "الأدب المغربي في القرون الإسلامية الأولى"، مجلة البحث العلمي، الرباط، ع 22، 1979.
[15] زنبير ، "التبادل الثقافي بين الأندلس والمغرب"، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط 1991، العدد 16: 9-41.
[16] ابن الخطيب، أعلام الأعلام، نشر ليفي بروفنسال، بيروت 1956: 227.
[17] الشبيبي، محمد رضا، أدب المغاربة والأندلسيين، ط 2، بيروت 1402/1984: 116-117.
[18] المقري، نفح الطيب، بيروت 1388/1968: 4/275-6.
[19] انظر ترجمته في دراساتنا عنه : Jasim Alubudi, “Dos viajes inéditos de Safwān b. Idrīs”, Sharq al-Andalus, Alicante 1993-4, nº 10-11, pp. 211-243.
وكذلك: "النص العربي لرحلتين غير منشورتين لصفوان بن إدريس" (باللغة العربية)؛ و"صفوان بن إدريس شاعر مرسية في القرن الثاني عشر الميلادي" (باللغة الإسبانية)، وقد نشرا في: مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية، العدد 33، 2001، ص 9-39، 67-103.
[20] وردت هذه الرسالة في نفح الطيب : 1/170-175؛ وكذلك في مخطوط الإسكوريال رقم: 421.
[21] Granja, F. de la, “Geografía lírica de Andalucía”, en Historia de Andalucía, V, Barcelona, 1981, pp. 81-96.
[22] ابن عبد القادر التونسي، مصطفى أحمد، "محاورة بين مدن بلاد الشام " ، تحقيق صلاح محمد الخيمي، مجلة معهد المخطوطات العربية، الكويت، جمادى الأولى - شوال 1406/ يناير - يونيو 1986، المجلد الثلاثون، الجزء الأول: 135-155.
[23] انظر ترجمته: ابن رشيق القيرواني، أنـموذج الزمان في شعراء القيروان، تحقيق المطوي والبكوش، ط 2، بيروت 1991: 94-8.
[24] ابن بسام، الذخيرة، دار الثقافة، بيروت 1975: القسم الأول –المجلد الأول: 132-180.
[25] المقري، نفح الطيب، بيروت 1388/1968: 156-186؛درويش، الأندلس من نفح الطيب، 1990: 348-370.
[26] García Gómez, Emilio, Andalucía contra Berbería, Barcelona 1976.
[27] ابن شريفة، "من منافرات العدوتين"، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس، ع 1، 1977: 7-49.
[28] نشرت عدة مرات، وآخرها بتحقيق أحمد مختار العبادي في: مشاهدات لسان الدين ابن الخطيب.
[29] المنوني، محمد، ورقات عن الحضارة المغربية في عصر بني مرين، الرباط 1399/1979: 288-9.
[30] ابن فضل الله العمري، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار: قبائل العرب في القرنين السابع والثامن الهجريين، تحقيق دوروتيا كرافولسكي، بيروت 1406-1985: 23-24.
[31] ابن خلكان، وفيات الأعيان، تحقيق إحسان عباس، بيروت 1972: 7/229.
[32] الصفدي، الوافي بالوفيات، اعتناء رمزي بعلبكي، فيسبادن 1404/1983: 22/253-4؛ وانظر كذلك: ابن شاكر الكتبي، فوات الوفيات، تحقيق إحسان عباس، بيروت 1973: 1/208، 3/18، 3/62، ، 3 /103-6.
[33] كراتشكوفسكي، تاريخ الأدب الجغرافي العربي، ترجمة صلاح الدين عثمان هاشم، القاهرة 1961: 356-60.
[34] بالإضافة إلى ما أوردنا له سابقا من مصادر ومراجع، فإنك تجد قائمة طويلة ممن ترجموا له ذكرها حسين مؤنس في: تاريخ الجغرافية والجغرافيين في الأندلس، مدريد 1386/1967: 462-3؛ الجزائري، باسمة، الثقافة العربية الإسبانية عبر التاريخ، (الدراسات التي ألقيت في ندوة الثقافة العربية – الإسبانية عبر التاريخ، دمشق 10-13كانون الأول 1990)، دمشق 1991: 161.
|