الموضوع
:
ثنائيات رباعية في العلوم النقلية والعقلية
عرض مشاركة واحدة
#
3
26-05-2015, 04:55 PM
ابو وليد البحيرى
عضو لامع
تاريخ التسجيل: Apr 2015
العمر: 61
المشاركات: 4,132
معدل تقييم المستوى:
15
ثنائيات رباعية في العلوم النقلية والعقلية(3)
عادل عبدالوهاب عبدالماجد
(القوة والأمانة)
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى، وآله وأصحابه أهل الأمانة والوفا، وبعد:
فالقوة والأمانة صفتان محبوبتان بين الناس، مرغوبتان عند البشر، والقوة تشمل القوةَ البدنية، والشجاعةَ القلبية، والفصاحة اللِّسانية، والحصيلة العلمية، والمكانة الاجتماعية المتمثلة في الشُّهرة والمال والأتباع، وكذلك الهمة العالية، والعزيمة الماضية، والمبادرة الفاعلة، فكل واحدة من هذه الصفات تمثل مظهرًا من مظاهر القوة، وهي متفاوتة بين البشر.
أما الأمانة، فجوهرها الصدق، وحُسن الخُلق، ونقاء السريرة، والمروءة، وكل ما جاءت به الرسالات من مكارم الأخلاق، ومحاسن الصفات، والناس فيها كذلك منازلُ متباينة، ومراتبُ شتَّى، وقد انقسموا باعتبارهما إلى أقسام أربعة:
الأول: من له أمانة وليس له قوة
:
وهذا أوسطهم حالاً، اجتمع فيه خير وشر، وخيره غالب على شرِّه، فيكون أمينًا صادقًا، تقيًّا ورِعًا، مخلصًا، حسَنَ الخُلق، لكنه ضعيف في بدنه، أو فقير لا يملِك شيئًا من حطام الدنيا، أو سلبي ليس له أثر فيما حوله، أو قليل العلم، أو عاجز عن التعبير السليم عن نفسه أو عن غيره.
وهذا النوع هو الذي استعاذ منه عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه - حين قال: "اللهم إني أشكو إليك جَلَد الفاجر، وعجزَ التَّقي".
والضَّعف قد يكون عارضًا يزول بزوال أسبابه كما كان حال النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين في بداية الدعوة، ودعاؤه مشهور بعد حادثة الطائف وتطاول السفهاء عليه حين قال: ((اللهم إليك أشكو ضَعْف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين...))؛ فيض القدير ج2 ص150.
فالضَّعف يكون ابتلاء من الله دون تقصير، وصاحبه مخفوض عند الناس، لكنه مرفوع عند رب الناس، كما قال الرسول
-
صلى الله عليه وسلم -
:
((ربَّ أشعثَ أغبَرَ ذي طمرين، مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسَم على الله لأبرَّه))؛ أخرجه الحاكم وغيره، وقال الشاعر:
رُبَّ ذي طمرين نِضْوٍ
يأمَنُ العَالَمُ شَرَّهْ
لا يُرى إلا غنيًّا
وهو لا يملِكُ ذَرَّهْ
ثم لو أقسمَ في
شيءٍ على اللهِ أَبَرَّهْ
ومن صور ذلك:
•
الدعاة والمصلحون الذين يعانون من محدودية العلم، أو الضَّعف البدني، أو ضعف اللغة، أو قلة الإمكانيات، أو غيرها من مظاهر النقص والتقصير، وقد يكون ذلك بسبب سوء الفهم، أو وهن العزيمة، وفتور الهمة، وهنا يظهر القصورُ الذاتي، والنقص الشخصي، فيصدُق قول المتنبِّي:
ولم أرَ في عيوب الناسِ شيئًا
كنقصِ القادرين على التَّمامِ
وهذا من عجائب الأمور؛ قربُ الدواء، واستفحال الداء، واستحكام المرض مع تيسر اللقاح والعلاج، وصدَق من قال:
ومن العجائبِ والعجائبُ جمَّةٌ
قُرْبُ الشفاءِ وما إليه وُصُولُ
كالعِيسِ في البَيْداءِ يقتُلُها الظَّما
والماءُ فوق ظهورِها محمولُ
•
الأمة الإسلامية منهاجُها خيرُ مِنهاج، ورسالتها أسمى رسالة، لكنها ضعيفة بين الأمم، لا قوة لها ولا كلمة، بل أصبحت تَبعًا لغيرها، تتلقى المعونات، وتستقبل الضربات، وترضى بالفتات من خيراتها المسلوبة، وثرواتها المغصوبة، وما دامت على هذه الحال، فلن تزداد إلا ضعفًا وتبعيَّة؛ لأن ما أُخِذ بالقوة لا يستردُّ إلا بالقوة، ولا يفُلُّ الحديدَ إلا الحديدُ، ولا يُغني الشجب والتنديد، ومن كان الضعيف فإن حجَّتَه ضعيفة، ولا يُطاع لقصيرٍ أمرٌ، (
وهذا هو عجزُ الثِّقة
).
هذا الواقع المرير يمكن تغييرُه، وتلك الصورة المشوَّهة يمكن تحسينها؛ فالقوة كامنة في رسالتنا، متغلغلة في مبادئنا التي سُدْنا بها العالم زمنًا ليس بالقصير، وحكمنا بها الدنيا:
والليثُ ليثٌ ولو كَلَّتْ مخالبُه
والقردُ قردٌ وإن لبِس العمامة
الثاني: من له قوة وليس له أمانة:
وهذا شرُّهم وأخبَثُهم، وضرره غالب على نفعه، وخطره كبير؛ حيث يكون قويًّا في بدنه، أو كثير المال، أو عظيم الجاه، كثير الأتباع، أو فصيح اللسان، أو واسع الثقافة والاطِّلاع، لكنه لا يعرف الأمانة، ولا يدري ما الصدق والوفاء، قبيح الخُلق، سيِّئ النية، خبيث الطوية، سخَّر ما عنده لنصر الباطل ونشره، وحرب الحق وأهله، ومن صور ذلك:
•
المنافقون من أجمل الناس منظرًا، وأحلاهم لسانًا، وأقواهم أبدانًا، وأكثرهم أتباعًا وجمهورًا، لكنهم مرضَى القلوب، ضعافُ النفوس، يقولون ما لا يفعلون، ويُظهِرون ما لا يُبطِنون؛ فمظاهرهم خادعة، وبواطنهم مظلمة، وصدق الشاعر حين قال:
وهل ينفَعُ الفتيانَ حُسنُ وجوهِهم
إذا كانت الأخلاقُ غيرَ حسانِ
فلا تجعَلِ الحُسنَ الدليلَ على الفتى
فما كلُّ مصقولِ الحديدِ يَماني
قال الله عنهم: ï´؟
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ
ï´¾ [البقرة: 204]، وقال عنهم: ï´؟
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
ï´¾ [المنافقون: 4]، قال السعدي في تفسيره:
ï´؟
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ
ï´¾ من رُوَائِها ونضارتها، ï´؟
وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ
ï´¾؛ أي: من حُسْن منطقِهم تستلذ لاستماعه، فأجسامهم وأقوالهم معجبة، ولكن ليس وراء ذلك من الأخلاق الفاضلة والهدي الصالح شيء؛ ولهذا قال: ï´؟
كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ
ï´¾ لا منفعة فيها، ولا ينال منها إلا الضرر المحض، ï´؟
يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ
ï´¾؛ وذلك لجُبنهم وفزعهم وضعف قلوبهم، والريب الذي في قلوبهم يخافون أن يطلع عليهم؛ فهؤلاء ï´؟
هُمُ الْعَدُوُّ
ï´¾ على الحقيقة؛ لأن العدو البارز المتميز أهونُ من العدو الذي لا يُشعَر به، وهو مخادع ماكر، يزعم أنه ولي، وهو العدو المبين، ï´؟
فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
ï´¾؛ أي: كيف يُصرَفون عن الدين الإسلامي بعدما تبينت أدلته، واتضحت معالِمُه، إلى الكفر الذي لا يُفيدُهم إلا الخسار والشقاء؟!".
وهؤلاء تحرِّكُهم مصالُحهم، وتقودهم شهواتهم، وحكايتهم مع المجتمع كحكاية الثعلب المكار مع الديك الصداح، والتي صورها الشاعر أحمد شوقي في القصيدة الرمزية التالية:
برَز الثعلب يومًا
في شعار الواعظينا
فمشى في الأرض يهدي
ويسُبُّ الماكرينا
ويقول: الحمد للـ
ـه إلهِ العالَمينا
يا عبادَ الله، توبوا
فهو كهف التَّائبينا
وازهَدوا في الطير إنَّ ال
عيشَ عيشُ الزاهدينا
واطلُبوا الديكَ يؤذِّن
لصلاةِ الصُّبحِ فينا
فأتى الديكَ رسولٌ
من إمامِ النَّاسكينا
عرَض الأمرَ عليه
وهو يرجو أن يَلينا
فأجاب الدِّيكُ عذرًا
يا أضلَّ المهتدينا
بلِّغِ الثعلبَ عنِّي
عن جدودي الصَّالحينا
عن ذوي التيجانِ ممَّن
دخَل البطن اللعينا
إنهم قالوا وخيرُ ال
قولِ قولُ العارفينا
مخطئٌ مَن ظنَّ يومًا
أن للثَّعلبِ دِينا
•
ومن صور ذلك: الكفَّار الذين يملِكون القوة والسلاح، والمال والأنصار، وأصبحت بيدهم مقاليدُ الأمور، لكنهم حربٌ على الإسلام وأهله، وهذا من مصائب الدهر، ومِحَن الزمان، وعلامات الساعة؛ أن يتقدم السفهاءُ، ويتأخَّر الفضلاء؛ كما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة أنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا ضُيِّعت الأمانة، فانتظر الساعة))، قيل: كيف إضاعتُها يا رسول الله؟ قال: ((إذا أُسند الأمرُ إلى غير أهله، فانتظر الساعةَ))، ولله در القائل:
رأيتُ الدهرَ يرفَعُ كلَّ وغدٍ
ويخفض كلَّ ذي رُتَب شريفةْ
كمِثل البحرِ يأخُذ كل حي
ولا ينفَكُّ تطفو فيه جيفةْ
وكالميزان يخفِضُ كلَّ وافٍ
ويرفعُ كلَّ ذي زِنَةٍ خفيفةْ
وقد قال الله عنهم مبينًا عداءهم المستحكم وحقدهم الدفين: ï´؟
وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا
ï´¾ [البقرة: 217]، ومع ذلك نهى الله - عز وجل - عن الاستسلام لهذا الواقع العابر، أو الانهزام أمام هذا الطغيان الغاشم؛ فقال لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: ï´؟
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ
*
مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ
ï´¾ [آل عمران: 196، 197]؛ لأنه مهما طال الليل فلا بد من طلوع الفجر، وصدَق الشافعيُّ حين قال:
تموت الأُسدُ في الغابات جوعًا
ولحمُ الضَّأنِ تأكُلُه الكلابُ
وذو سَفَهٍ ينام على حريرٍ
وذو فضلٍ مفارشُه الترابُ
ومن الأمانة أن نقول:
إن بعض هؤلاء قد نجد فيهم أمانة، ورحمة، وحُسْنَ خُلق، ورفقًا بالحيوان أكثر مما عند كثير من المسلمين، وهي التي فتنتْ كثيرًا ممن ينتسبون إلى الإسلام، فاغترُّوا بما عندهم من فتات الأخلاق، وسراب القِيم، لكن الفرق بيننا وبينهم أنهم يفعلونها عادة وإنسانية، والمسلمون يفعلونها طاعة وعبودية، وهي حسنات مغمورة في بحار سيئاتهم، وأعمالهم يوم القيامة ï´؟
كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ
*
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ
ï´¾ [النور: 39، 40].
•
ومِن صور ذلك: الفجار والسفهاء من أبناء المسلمين الذين يتجلَّدون في الباطل، ويتحمَّلون الصعاب ليصلوا إلى إرواء شهواتهم، وإشباع نزواتهم، من الظلم والبطش والاحتيال، واستضعاف الفضلاء، وأكل المال بالباطل، بلا حياءٍ ولا تردد، وكأنهم صمٌّ عن قول الشاعر:
لا تظلمَنَّ إذا ما كنتَ مقتدرًا
فالظلمُ مصدرُه يُفضي إلى الندمِ
تنامُ عيناك والمظلومُ منتبهٌ
يدْعو عليك وعينُ اللهِ لم تَنَمِ
•
ومن صور ذلك أيضًا: الظَّلَمة من حكام المسلمين، وأعوانهم المتجبِّرون، الذين يشددون على الرعية، ويبطشون بالضعفاء، وينهبون ويسلبون قريبًا أو بعيدًا عن أعين الرقباء، فهؤلاء ويلٌ لهم؛ كما قال الشاعر:
إذا خان الأميرُ وكاتباهُ
وقاضي الأرضِ داهَنَ في القضاءِ
فويلٌ ثم ويلٌ ثم ويل
لقاضي الأرضِ مِن قاضي السماءِ
فالدول تبقى مع العدل وإن كانت كافرةً، وتزولُ مع الظُّلم وإن كانت مسلمةً.
يتبع
ابو وليد البحيرى
مشاهدة ملفه الشخصي
البحث عن المشاركات التي كتبها ابو وليد البحيرى