عورة المرضى بين الكشف والتكشف
هشام عطية
فإلى الحوار:
الأنظمة توجبُ احترامَ خصوصيات المريض، وتوجب عدمَ كشْف العوْرات، فلماذا لا تطبَّق هذه الأنظمة؟
♦ أرى أنَّ ذلك يرجع إلى ضَعْف الوازع الدِّيني لدى بعض أعضاء الفريق الطبيِّ، فلا يجدون وازعًا يردعهم عن الاطلاع على حُرُمات الآخرين، وكذلك فإنَّ من الأسباب عدمَ الجِديَّة في تطبيق هذه الأنظمة مِن قِبَل بعض الجهات المسؤولة؛ مثل: إدارة المستشفيات، والاستشاريين المشرفين على علاج المرضى، وربَّما كان لعدم وجود عقوباتٍ صارمة بحقِّ مَن يتجاوز هذه الأنظمة دورٌ في التساهُل في التطبيق.
وأضيف سببًا آخر؛ وهو: عدم التعاون أحيانًا من المريض نفسِه أو أهله، حينَ يحصل بعض التجاوزات، فيفترض أن يكونَ له أو لأهله موقفٌ رافضٌ لهذه التجاوزات، فالأنظمة الموجودة لدى وزارة الصِّحة تكفل له حقَّ الشكوى - فيما أعلم.
هل هناك عقوبات محدَّدة لِمَن يطَّلع على العورات، خاصَّةً النساءَ من دون الحاجة إلى ذلك؟
♦ هناك عقوبات شرعيَّة في حال ثبوت ذلك، وهي التعزيرات التي تختلف بحسب اختلاف الحالة والشخص، وتخضع لتقدير الناظر في هذه المسألة، ويُفضَّل أن يكون النظر مشتركًا بين مختصٍّ في الأحكام الشرعيَّة، وبين طبيب يقدِّر المخالفةَ بحسب الواقع الطبي، أمَّا فيما يتعلَّق بنظام وزارة الصِّحة، فليس عندي في ذلك تفصيل.
لماذا يرفض بعض الأطباء نفسيًّا الالتزامَ بهذه الأنظمة، ويُصِرُّون على تجاهلها؟
♦ أودُّ في البداية أن أرفضَ التعميم على كلِّ الأطباء، فهناك عددٌ كبير منهم يحرص على تطبيق الأنظمة، وسدِّ الثغرات التي تحصل في التطبيق، يَحدُوهم في ذلك شعورُهم بالمسؤولية الملقاة على عواتقهم تُجاهَ المرضى؛ لكنْ بعضُهم يرفض هذه الأنظمة نفسيًّا، ويُصرُّ على تجاهلها، وربَّما كان ذلك من أثر دراسته في الغرب، وتعوُّده هناك على نمط معيَّن في التعامُل مع العورات، وبقائه سنين طويلة على هذا الشَّأن، فأذهبَ ذلك في نفسه الإحساسَ بخطورة ذلك، وربَّما لا يجد هنا من الزُّملاء ولا من المرضى مَن يُنبِّهه إلى خطورة هذا الشأن، فالأمر يحتاج إلى تعاون وتواصٍ بالحقِّ بين الجميع.
ماذا يرى الطبيب؟
♦ يقول بعضهم: إنَّ من حقِّ الطبيب أن يرى ما يشاء في جسم المريض، إلى أي مدى تبقى هذه المقولة صحيحة؟
♦ للطبيب أن يرى مِن جسد المريض ما يحتاج إليه؛ لأجْل العلاج فقط، وما عدا ذلك مِن العورات فلا يحقُّ له شرعًا ولا نظامًا النَّظر إليه؛ لأنَّ الأصل حُرمةُ كشف العورة، وإنَّما جاز النظر إليها للحاجة أو الضرورة، والقاعدة الشرعيَّة تقول: "ما جاز لعذر، بطل لزواله".
عقوبات رادعة:
هناك لجان طِبيَّة تحاسب الأطباءَ على مخالفاتهم، فلماذا لم تردع هذه اللِّجان الأطباءَ الذين يكشفون عورات المرضى؟
♦ الأَولَى بالإجابة عن هذا السؤال هو هذه اللِّجان الطبيَّة؛ ولكن أرى أنَّ الأمر أكبرُ من أن تحيط به لجنة أو لجان، الأمر يحتاج إلى توعيةٍ، وتذكير للأطباء والفريق الصحي عمومًا، وكذلك للمرضى ولذويهم.
ويحتاج الأمر إلى سَنِّ كثيرٍ من الإجراءات والنُّظم التي تضبط الاطلاع على عورات الآخرين، ويحتاج الأمر إلى تعاون الجميع، وأن يُراقبوا الله - عزَّ وجلَّ - في هذا الأمر، وأن ينظروا إلى الآثار السيِّئة لإهمال هذا الموضوع.
مرشد ديني:
أليس وجود المرشد الدِّيني في المستشفى ضروريًّا؛ لتعريف الأطباء والممرضات بالأمور الشرعيَّة؟
♦ هذا المسمَّى في ظنِّي يوجِد حاجزًا بين صاحبه وبين النَّاس، فكثير من النَّاس لا يرى فيه إلاَّ واعظًا ومذكِّرًا بعموميات يظنُّ كثيرٌ من النَّاس أنَّه يعلمها.
ثم أقول: إنَّ وجود هذا - الذي سُمِّي في السؤال مرشدًا - في كلِّ مستشفى أمرٌ في غاية المشقة؛ لقلَّةِ مَن يصلح لهذا الأمر، ولكن إن وُجد فهو أمرٌ جيِّد.
لكن الأولى في نظري أن تُعقَدَ دوراتٌ وندوات، ومحاضرات ودروس تعتمدها الجِهات الرسميَّة واجبًا عمليًّا يحصل به الموظَّف أو الطبيب على شهادة معتمدة.
دورات شرعية:
لماذا لا تُنظَّم دوراتٌ شرعيَّة للعاملين في المستشفيات؛ لتعريفهم بالأمور الشرعيَّة؟
♦ هذا الأمر مهمٌّ يجب الاعتناء به، ويجب على الجِهات المختصَّة - كالجامعات، ومراكز الدراسات - الإسهامُ في ذلك، وعدم الاكتفاء بالدَّورات المبسطة التي تكتفي بالوعظ العام؛ بل لا بدَّ من التعمُّق في علاج هذه الأمور الشرعيَّة، من خلال استضافة واستكتاب المختصِّين من شرعيِّين وأطباء.
وأَذْكُر أنِّي حضرت مرةً في الرِّياض ندوةً عن (الفقه الطبي)، فلم أجد في المشاركين في هذه الندوة - على رغمِ كثرتهم وكثرة أسئلة الأطباء وأعضاء الفريق الصِّحي - إلاَّ شخصًا واحدًا مختصًّا في الفِقه، وهذه الندوات نُسَرُّ بها كثيرًا؛ ولكنَّها لا تسد الحاجة، ولا تنقع الغُلة.
نقص الطبيبات:
هل نقص الطِّبيبات هو السبب في كشْف الأطباء لعورات النِّساء؟
♦ هذا سبب مهمٌّ، لكنَّه ليس السببَ الوحيد.
حل المشكلة:
كيف يمكن حلُّ مشكلة الاطلاع على عوْرات المرضى؟ هل يتمُّ ذلك بقرارات من وزارة الصِّحة، أم ماذا؟
♦ هذا السُّؤال كبير، والإجابة عنه تحتاج إلى بسط وتوضيح، لكن أرى - بإيجاز - أنَّ مِن الحلول ما يأتي:
أولاً: توعية الفريق الطبيِّ بحرمة الاطلاع على العورات، مع بيان الأحكام الشرعيَّة في ذلك، واستنهاضِ الوازع الدِّيني والطبعي فيهم، فإن كانت بنتُ أحدهم، أو أخته مكانَ المريضة، فماذا هو فاعل؟!
وهذه التوعية تأتي عن طريق الدَّورات والندوات، وعقد المؤتمرات، والاستضافات للمهتمِّين بهذا الأمر، والتواصي به، وكذلك إيجادُ الكتب والنشرات الموضِّحة لذلك، وغيرها.
ثانيًا: مراجعة الإجراءات الطِّبية المعمول بها في المستشفيات؛ لتقويمها وتصويبها، فإنَّ بعضها - بشهادة بعض أهل الاختصاص - يحتوي على مخالفات شرعيَّة؛ مثل: كشف جميع جسم المريضة بلا حاجة، وتغطيتها بقماش واسع.
وكذلك نظر بعضهم إلى ما لا يُحتاج إلى النَّظر إليه، وترْك المريض، والمريضة لفترةٍ طويلة على هذه الحالة في غرفة العمليات، وخاصَّة عند توليد النِّساء.
ثالثًا: التوسُّع في قَبول الطالبات لتخصُّص أمراض النِّساء والولادة؛ لسدِّ النقص الكبير في هذا المجال.
رابعًا: الحِرص من الجميع على ألاَّ يعالج النِّساء إلاَّ النساء، والرِّجال إلاَّ الرجال بقدر الإمكان؛ وذلك لِمَا نراه من التساهُل في هذا الشأن.
وكذلك الشأن في التمريض؛ فلماذا يقتصر التمريض على النِّساء؟!
خامسًا: إلزام المستشفيات الخاصَّة بتوفير الطبيبات والعاملات، والتقليل من الأطباء لتخصُّصات النِّساء والولادة بقدر الإمكان.
سادسًا: سَنُّ القوانين والأنظمة التي تكفل حقَّ المريض وتُنصفه عندَ حدوث التجاوزات مِن قِبَلِ المستشفيات أو الأطباء، خاصَّة فيما يتعلَّق بالاستهانة بالحُرمات والعورات؛ ردعًا لأصحاب النفوس الضعيفة.
نظام التدريس:
يرى بعضُهم ضرورة إعادةَ النَّظر في نظام التدريس العمليِّ لطلاَّب الطبِّ؛ لِمَا له من دور في كشْف العورات بلا حاجة، ولِمَا يتركه من أثر على المرضى، ما رأيكم؟
♦ هناك تجاوزاتٌ موجودةٌ في نظام التدريس العملي، أخبرني عنها بعض الزُّملاء الأساتذة في كلية الطبِّ، وكذلك بعض الطلاَّب؛ لأنَّني أدرِّس في كلية الطبِّ في جامعة الملك خالد منذ ثماني سنين - ولله الحمد - والمادة التي ندرِّسها للطلاَّب هي مادة "أخلاقيات الممارسة الطبيَّة"، وأنا أدرِّسها لطلاب السنة الرابعة.
ففي أثناء التدريس يذكر الأساتذةُ والطلاَّب شيئًا من التجاوزات في التدريس العملي، لا في النظام بل في الممارسة؛ ولكن - ولله الحمد - نجد إنكارًا لهذه التجاوزات من قِبَل المرضى وذويهم، ومن قِبَل الطلاَّب، بل من قبل الزُّملاء الآخرين، وربَّما كان سبب ذلك الاعتياد، وقلَّة الإحساس بخطورة هذا الأمر شرعًا، فيحصل هناك تجاوزاتٌ في أخْذ إذن المرضى بالكَشْف عليهم، ويحصل كذلك تجاوزاتٌ في المقدار الذي يُكشَف من جسد المريض.
تبلد الحس:
هل ما يُبرِّر به بعض الأطباء من كونه تبلَّد إحساسه، ولم يبقَ ينظر، أو يلمس بشهوة - مبررٌ لكشف، أو لمس العورة؟
♦ هذا ليس مسوِّغًا لكشْف العورة، فإنَّ الحرمة باقية، أحسَّ أو لم يحسَّ، والتعويل على عدم الإحساس بالشَّهوة، وادِّعاء أنَّ الطبيب ليس كغيره - كلام غير صحيح؛ لأنَّ الأمر بستر العورات عامٌّ، والأطباء بشرٌ كغيرهم، نعم، ربَّما يقلُّ إحساسهم عن غيرهم؛ لكنَّ القواعد الشرعيَّة عامَّة لا يُستثنى منها أحدٌ إلا بدليل.
يتبع