المعتمد بن عباد ودون خوان مانويل (4/10)
د. جاسم العبودي
و- ازدهار وأفول
Florecimiento y ocaso
بعد أن تناثر عقْد الخلافة في قرطبة، قام على أنقاضِها رُؤساء الطَّوائف، وأُمراء الجماعات البربريَّة[1]، وفتيان صقالبة القصور الَّذين وصل عددهم إلى 39 دويلة، وأصبحوا بين فكَّي كماشة؛ بين نار النَّصارى في الشَّمال ونار البربر في الجنوب، وقد وهن أمرُهم وأضعفَهم التَّرف والبذخ، لا يكاد سلطانُ أحدٍ منهم يتعدَّى حدود بلده[2]، فكانت دويلاتُهم أشبه بِجمهوريات إيطالية في ثياب شرقية.
وتنافسوا في اجتذاب الشعراء، ولعلَّهم أرادوا بِهذا إعادة هيْبة السُّلطان الضَّائعة، "ولم تزل الشُّعراء تتهادى بيْنهم تَهادِي النَّسيم بين الرياض، وتفتك في أموالهم فتْكة البرَّاض"، كما يقول الشقندي (ت 629/1232).
وكلٌّ يقول: هأنذا، فقد عُرف ابن ذي النون - صاحب طُلَيْطلة - بالبذخ البالغ، وبذَّ ابن طاهر - صاحب مرسية - أقْرانه بالنثر، وامتاز ابن رزين - صاحب السَّهلة - أنْداده في الموسيقا، وامتاز المتوكل - صاحب بطليوس - بالعلم الغزير، واختصَّ المقتدر بن هود - صاحب سرقسطة - بالعلوم، واشتُهر المعتمد بالشعر، وإن كان صفة غالبة للكلّ.
ولقد بلغ الأدب منزلة كبيرة في النّضوج في القرْن الحادي عشَر الميلادي، ليس بسبب تشْجيع وتنافُس هؤلاء الرُّؤساء فقط، وإنَّما أصلاً ضِمْن سلسلة التدرُّج الطبيعي له.
فقد غدا - كما يقول القزويني - حتَّى الفلاح في قرية شلب يرتَجل ما شئت من الأشعار، فيما شئت من الموضوعات، ويؤكّد هذا أيضًا ما سيرْويه الجنان لأبي عمران موسى بن سعيد وصاحبه في وادي الألواح (انظر فيما بعد: ز- المعتمد والنَّوْرِيَّات).
وقد اجتمع في عهد دول الطَّوائف[3] شعراء كبار، لقِي فيه شعرُهم سوقًا رائجة، عدَّهُ كثيرون "قمة ازدِهار الشعر الأندلسي"، وهو عندي ازدهار ثم أفول، وإن ظهرت صيْحات بإعادة النَّظر حول هذا الازدهار[4]، وقد استندوا على نظريَّة "تفوُّق العنصر الأندلسي"، وهي نظريَّة لا تخلو من تعصُّب، نجِد جذورَها في رسالة الشقندي.
ليس من الغريب وأمير الدَّولة العبادية المعتمد (431/ 1040 - 488/ 1095)، ووزيرها ابن عمَّار (1031 - 1086) - شاعران، أن يظفر الشّعر بحظْوة كبيرة في بلاطِها، فقد كان المعتمِد نقَّادة دقيقًا للشِّعْر، لا يُجيز إلاَّ الجيِّد منه، وكان لفطرتِه الشِّعْرية وسخائِه أثر كبير في احتواء أهل الشِّعر، فتبارى في مدْحه كبارُ الشُّعراء والأعلام، بعد أن وجدوا في حِضْنِه ضالَّتهم، فاتَّجهوا إليْه من أنْحاء الجزيرة وخارجها.
لذلك قال عنه ابن خاقان (ت 529/ 1134): "ملِك قمَعَ العدا، وجمَع الباس والندا ... فاجتمع تحت لوائِه من جماهير الكماة، ومشاهير الحماة، فأصبحت حضرتُه ميدانًا لرهان الأذهان، وغاية لرمْي هدَف البيان".
وكان عبدالجبار بن حمديس الصقلي أحد شعراء بلاط المعتمد، وهاجر من بلدِه صقلية عندما استوْلى عليْها النورمان سنة 470/ 1078، وحظِي من المعتمد بِمكانة رفيعة، وقد رافقه إلى ميادين حروبه، كما رافق المعتمد أثناء أسْره إلى أغمات، واجتهد في التَّخفيف عنه بقصائدَ رقيقة.
كما حفل بلاطُه بابن زيدون (394 - 463/ 1003 - 1070) حاسد ابن عمَّار وعدوّه، وابن اللبانة الدَّاني الذي يعدُّ مثالاً في الوفاء وإخلاص الود، وقد أقام إلى جانبِه يؤنسه في سجنه. وكذلك ابنته بثيْنة قد بيعت سبية عندما استولَى المرابطون على إشبيلية، فاشتراها تاجر إشبيلي وفكَّ أسرها، فكتبت إلى أبيها أبياتًا رائعة تستأذِنه في الزَّواج من ابن منقِذها، ولا ننسى ابن عبدالصمد الذي بكى وأبْكى النَّاس على قبره، وابن وهبون، وابن عبدون، و"الجارية العبادية" التي أهْداها له مجاهد صاحب دانية، والرَّاضي بن المعتمد.
لذلك تحوَّل قصره[5] إلى منتدى لهم وكانت لهم "الدَّار المخصوصة بالشُّعراء، يجتمعون فيها كلَّ اثنين، لا يسمح لغيرهم فيها"، وقد جعل آل عباد لهم "ديوانًا تسجَّل فيه أسماؤهم، وتُمنح لهم مرتَّبات من ذلك الديوان، وفي عهْد المعتمد كان ابن ماضي هو المشرف عليه"[6].
ومن هذا المنطلق جاء وصف الشقندي لبني عباد: "كان لهم من الحنوّ على الأدَب ما لم يقُم به بنو حمدان في حلب، وكانوا هم وبنوهم ووزراؤُهم صدورًا في بلاغَتَي النَّظْم والنَّثْر، مشاركين في فنون العِلْم".
والمدقِّق لشِعْر المعتمد يَجد فيه شاعرًا صنعتْه أحداث عصره، وكرَّس له ردحًا كبيرًا من حياتِه، لا يقلُّ باعًا عن هؤلاء الشُّعراء وغيرهم، خاصَّة في منفاه، حيث صِدْقُ العاطفة، وعذوبة الخيال الممْزوج بالمرارة، وصفاء ورقّة الكلمة المعبرة، لاسيَّما عند تذكره لاغتِيال أولادِه على أيدي المرابطين، والحالة المفْجِعة لزوْجته وبناته وهنَّ يغزلْن لكسْب لقمة عيشِهِنَّ، بعد عزّ وارِف.
وهكذا تحول المعتمد بشعْرِه جنب شعر فحول شعراء عصره كابن اللبانة، إلى قصائد خالدة يتأثَّر بها كلُّ مَن قرأها، ويتَّعظ بها كلُّ ذي قلب سليم.
أضف إليْها أنَّه دخل من حيثُ لا يدري سلَّة الرمزيَّة المتناقضة: العزّ والجاه، الفقْر والإذْلال، المُلك والسجْن، الرَّأفة والجفاوة والقسْوة، النَّعيم والشَّقاء، الأمن والسبي، الازدهار والرقي، والتخلف والجهل.
فأصبح مادَّة دسمة للأفكار والأقلام والفنّ، فقد كتب عنه - بالإضافة إلى ما ذكرنا سابقًا - أشهر شعراء أسبانيا المعاصرين: رفائيل أَلبرتي[7] (Rafael Alberti 1902 - 1999)، وأحد ألمع ما يسمَّى "بالعصر الفضي" للأدب الأسباني، وآخر ما يسمّونهم "بجيل 27".
كما أُسِّست جامعة في المغرب تحمِل اسمه، وصدرت "سلسلة المعتمد بن عباد للتاريخ الأندلسي ومصادره"، ومنها مقالات ابن عبود وغيرها عن دول الطَّوائف، وهكذا.
بينما غلب على شعْرِه أيَّام ملوكيَّته البذخ والقصْف واللَّهو بأنواعه، وحبّ الطبيعة، وهيامه بزوْجته الرميكيَّة الروميَّة الأصل وأمّ أولاده، والتي اشتقَّ لها من اسمه اسم اعتماد، والملقَّبة في داخل القصْر وخارجه "بالسيدة الكبرى"؛ لعلو منزلتها، وهيبتها ومشاركتها في أمور الدَّولة.
ــــــــــــــــــ
[1] Rafael Valencia Rodríguez: Taifas Andaluzas, Almorávides y Almohades. Conocer Andalucía. Sevilla. Tartessos. 2001. Pag. 167-203. الطوائف والمرابطين والموحدين.
[2] Viguera, María Jesús: De las taifas al reino de Granada: al-Andalus, siglos XI-XV, Temas de hoy, 1995; Ídem, Los reinos de taifas y la invasión magrebíes: al-Anda, Barcelona: RBA, 2006. الكتاب الأول (من دول الطوائف إلى مملكة غرناطة)، والثاني: (دول الطوائف والغزو المغربي للأندلس).
[3] Rodolfo Gil Grimau, Fátima Roldán Castro: Corpus aproximativo de una bibliografía española sobre Al-Andalus, Sevilla, Ediciones Alfar, 1993.(فهرس تقريبي للمصادر الأسبانية حول الأندلس).
[4] الطاهري، دراسات ومباحث في تاريخ الأندلس، الدار البيضاء، 1993.
[5] Risala sobre los palacios abbadíes de Sevilla de Abu Yacfar Ibn Ahmad de Denia. Traducción y estudio de Rocío Lledó Carrascosa, Sharq al-Andalus, nº 3, 1986, pp. 191-200. رسالة أبي جعفر أحمد الداني حول القصور العبادية في إشبيلية.
[6] ابن ثقفان، عبدالله علي، المجالس الأدبية في الأندلس، السعودية، 1994/1415: 20.
[7] عبدالله إجبيلو، "المعتمد ملك إشبيلية وشاعرها بقلم رفائيل ألبرتي"، مجلة كلية الآداب، تطوان، ع 1، 1407/1993: 185-193.