حاجتنا إلى علوم المستقبل
(5)
د. محمد بريش
إن المتفحص لما يصدر في الغرب من دراسات وبحوث عن المستقبل في مجالات التكنولوجيا والاقتصاد والعلاقات الدولية والبيئة والديموغرافية وغيرها يلاحظ أن هناك تقدمًا ملحوظًا في الكم والكيف انطلاقًا من القرن الحالي مع ازدهار متنام منذ الخمسينات، وإنتاج مكثف ومتعدد في العشرين سنة الأخيرة.
والمتتبع لما صدر في العالم العربي في هذا الباب، يجد أن دراسات المستقبل ما زالت في المهد، وأنها لم تر النور في أغلبها إلا في العشر سنوات الأخيرة، كان الغرب وراء انطلاق عديد منها، خاصة بعد أن هزت مضاجعه الصحوة الإسلامية، وصدمه قبلها إدراك الدول العربية قيمة الثروة البترولية، وحيرته مختلف المفاجآت التي كان العالم العربي والإسلامي مسرحًا لها.
وإن التقلبات التي عاشها العالم شرقًا وغربًا في الثمانينات، ومن أبرزها تراجع الشيوعية كمذهب ونظرية، وانعكاسات هذه التقلبات وخاصة تقلبات أوروبا وآسيا الشرقية، لتنبئ باهتزازات ضخمة وموجات قعر مهولة في أواخر هذا القرن، ستهز عديدًا من الدول التي تئن شعوبها تحت وطأة الديكتاتورية الحزبية أو الفردية، والتي تصدعت عراها بفعل التخلف التربوي والاقتصادي والاجتماعي والإداري والمالي وتفشي مختلف أنواع الاستبداد والارتجال؛ لغياب العلم والعدل، وانعدام الحريات، واستحالة تطور النقد.
ومما يزيد في حاجتنا الملحة إلى الدراسات المستقبلية ونحن على مشارف الألف الثالثة من الميلاد، هو أن العلاقة العضوية بين التوقعات والقرارات والأعمال لم تعد سهلة.
ففي زمن كانت فيه عوامل الفعل قليلة العدد سهلة التحديد، كانت الاستراتيجيات واضحة، والأهداف بينة، والنتائج المرجوة خالية الغموض أو قريبًا من ذلك، وكانت العلاقات مباشرة بين التوقع والفعل مساهمة في تقليص دور العوامل المحتملة،[1] ولنا خير المثل في بعض وقائع الحروب القديمة ومجرياتها الموصوفة في كتب التاريخ.
ولكن مع تعدد المتدخلين والفاعلين في ساحة الواقع، وتداخل العوامل المؤثرة في حركة أو سكون هذا الواقع، ومع سرعة التقلبات وغليان التطورات الذي أحدثته الاكتشافات العلمية والتغيرات البيئية، والتدافع الاستراتيجي، والجدال السياسي، وثقل النمو الديموغرافي وتصدع موازينه بين القارات، كل ذلك وغيره جعل العلاقات بين المتوقعات والفعل في غاية من التعقيد، ومجال الاحتمالات من اتساع إلى مزيد.
فمن كان منا يتنبأ بما وقع بأوروبا الشرقية سنة 1989؟ من كان يمكنه التنبؤ بسقوط الديكتاتور تشاوسيسكو مثلا، والذي صادق الحزب الشيوعي على تجديد انتخابه على رأس الحزب والدولة بالإجماع في شهر نوفمبر، وقاده الشعب من الرئاسة إلى الإعدام في ديسمبر التالي؟
بل وقعت كارثة دبلوماسية في إحدى الدول الإسلامية لاستقبالها للديكتاتور ساعات قبل الإطاحة به -ثورة لا انقلابًا- وهي صاحبة الثورة المدوية قبل عقد من الزمن؛ هل كان سياسيوها غافلون عن الأحداث؟ (وإن كان من تشفى من الأقطار في هذا التصرف في موقفه من الأمر غير بعيد) فلا عذر لهم في عدم توقع المفاجآت بتحليل المعطيات! لكن من كان يستطيع الجزم بالحدث أو التنبؤ بسرعة التقلبات؟.. وحدهم الدارسون للوضع، والمالكون للمعلومات، والمنفذون للاستراتيجيات، كانوا يحسنون وقتها اتخاذ القرارات، في مناصرة المظاهرات وتقديم المعونات ورصد التطورات!...
سيقول بسطاء الفكر من الناس ما حاجتنا إلى بذل الجهد، وتصديع الدماغ بالخوض في مجال قدره الله وحدده؟ ونحن الضعفاء أمام قدرته لا نملك حولا للتأثير في ما سبق به القلم، ولا جهدًا لتغيير ما خطه القدر؟ وجوابنا أن القول بالضعف أمام قوة الله وقدرته قول حق أريد به فرار من المسؤولية وتملص من الواجب! فلو سألنا أمثلهم طريقة لم نشاطك اليومي وسعيك الذاتي للحصول على القوت، سدًا للرمق وكسبًا للرزق، وأنت تعلم أن رزقك محدود سلفًا، وقوتك مقدر مسبقًا؟.. لعجز عن الجواب، ولأسرع إلى تدليل حركته وسعيه بالتمسك بالأسباب؟
نقول ذلك ليس حبًا في إدخال القارئ لدهاليز جدل الجبرية والمعتزلة، ولا إحياء لشطحات بعض الفرق الإسلامية، ولكن تذكيرًا منا بأن أمر من السنة والكتاب: بالكد والجد والأخذ بالأسباب!
ونحن نعلم أن القضاء والقدر من المواضيع الخطيرة التي لا يحسن فهمها إلا ذوو البصيرة من الناس، وكم خاض فيها من السابقين واللاحقين، ممن تعسفوا على نصوص الآيات وأحكام الأحاديث، وتأولوا فيها بغير علم ولا منهج.[2] ونرى أن الجدال بين الفرق الإسلامية من معتزلة وجبرية وغيرها غير خال من الخلفيات السياسية والمضاربات الحزبية، وحسبنا في هذه الدراسة، دعوة القارئ المتبصر إلى فهم ما يراد من التوكل، وعد خلطه بين التوكل والتواكل.[3]
ولو عكفنا نقلب صفحات التاريخ ونسائل أحداثه، لاكتشفنا أن بزغ بين صفوف المسلمين الجدل، حين القعود عن العمل. فمن ذلك الحين والأزمة الفكرية في استفحال؛ ومن يومها والعمل والعلم والعدل في إدبار، والجهل والاستبداد والتعسف في إقبال، حتى وصل الأمر إلى تمزيق الأمة وشل حركتها وانقطاعها عن قيادة الركب الحضاري، فعجزها مع تراكم الصدع وتفشي الجهل والظلم عن مواصلة السير فيه، ثم وقوفها بعد الغفوة حائرة منقسمة أما السبل الممكنة للحاق به.
وليس الخلف عن خطى السلف بحائد في هذا الباب، فلو حللت شكل واقعنا المعطوب وتناولت بالدراسة والتحليل حركته المتأرجحة، لصفعتك الدلالة الساطعة على غياب الحس المستقبلي والحدس الإعدادي لمواجهة كوارث الطبيعة، وأزمات الأوضاع، وتقلبات الزمن، مع تناقض بارز بين القول والفعل، وغفلة عن الإنجاز طيلة زمنه المبرمج، ثم استنفار للطاقات وجمع للقوات في أواخر اللحظات!!.. يدل على ذلك الارتجال الملاحظ حين عقد المؤتمرات، أو ارتفاع نشاط الأوراش حين قرب موعد التدشينات، أو التعجيل بدراسة تتطلب شهورًا في أواخر الأوقات، وهكذا دواليك.. وأحسن ما نراه معبرًا عن هذا التناقض، المثل الفرنسي الذي معناه: "أحرص الناس على السرعة، أضيعهم للوقت"[4] وأفصح ما نراه ساخرًا من هذا الصنف من الناس، المثل المغربي الذي فحواه: "وقت ما استيقظت، فذلك تبكيرك!"[5].
ولو انكببنا على الخطاب الإعلامي المعاصر في العالم المتخلف نحلله، لوجدنا من خلال تشريح خطابات الأماني للمستقبل الراغد، وأحلام التقدم "الآتي" الذي لا يأتي، والازدهار "القادم" المتولي، أن أغلب من يلوك كلمة الديمقراطية أفقدهم لها، وأكثر من يتكلم عن إحراز التقدم السائرون في غير ركبه، ولهذا فإننا لن نعدم في هذا العالم المتناقض من يجادل في منفعة المستقبلية محتجًا مثلاً بأن ما تصور المستقبليون وقوعه في الثمانينات لم يقع برمته، ناسيًا أو متناسيًا أن نِتاج المستقبلية ليس تنبؤات لأحداث حتمية الوقوع، تتجنب باتخاذ التدابير اللازمة والقرارات الحكيمة، ومن السذاجة مواجهتها بالموقف السلبي إلى حين الاصطدام معها حيث لا ينفع الإيمان بها حينذاك في موضوع المستقبلية في شيء، كما لا يلغي عدم وقوعها ضرورة الرصد والإعداد الذي أملته الدراسات المستقبلية.
وبالتالي فمن الغفلة الاعتقاد بأن في مستطاع المستقبلي التنبؤ بدقة وضبط محكم بجميع التوقعات المقبلة، ومن الشطط مطالبته بالقيام بجرد شامل مضبوط زمنيًا لمختلف مصائر تطورات الأوضاع الحالية، بل من البله انتظار إصداره لكتاب مسطور لتاريخ المستقبل!!
والمجتمع الذي تقع فيه الأزمات على نفس الوتيرة التي ترصدها المستقبلي، وتصدق عليه التوقعات التي ظن من خلال دراسته للواقع وتطور آلياته الفاعلة احتمال وقوعها، مجتمع أليق بالمستقبلي أن يغادره ويرحل عنه!
فالمستقبلي ليس عرافًا يدعي علم الغيب، يكسب من خلال توافق تكهناته مع سير الأحداث مزيدًا من زبناء مصيدته، ولا "وليًا معاصرًا مدعيًا للتمتع بالكرامات يسعى لضمان مشيخته، بل هو للمجتمع كالطبيب للمريض، يصف له بعد الفحص ما يلزمه تجنبه وما عليه أن يعمله أو يتبعه لشفائه أو الحيلولة دون استفحال مرضه وتعرضه للهلاك".
أما مريض لا يمتثل أوامر الطبيب ولا يعمل بنصيحته، ويهلك بما توقعه له في حالة مخالفته لما طببه له، فلا حاجة في أن يقال لطبيبه صدقت في تطبيبك، فقد هلك فلان بما حذرته منه، ولو عمل بما وصفت ونصحت لظل سليمًا معافى؛ لأن ذلك لن يزيده إلا همًا ونكدًا، ولن يضيف لمكانته كطبيب أو علمه بالطب فتيلاً..
بل ما أفرحه لو قيل له أخطأت في تشخيصك للمرض، وفلان رغم عمله بوصاياك مازال يتمتع بكامل الصحة ووافر العافية، إذن لأسعده أن تكون ذات مريضه مخالفة لسنن الطب، ولما نقصت سلامة المريض شيئًا من قيمة الطب ولا من علم الطبيب! ولهذا كثيرًا ما ترددت على ألسنة المستقبليين "القاعدة المستقبلية" القائلة: "الشيء الوحيد الذي لا ريب فيه في الدراسات المستقبلية، هو حومان الريب حول توقعاتها جميعًا".
فحملك مثلا لمظلتك حين خروجك من المنزل والسماء غائمة، والجو محتمل أن يكون ممطرًا لا يدل على أنك ستستعمل مظلتك لا محالة، لكن كفاه طمأنتك على عدم الخوف من البلل حين المطر! كما أن عدم حملك لها -في نفس الظروف وفي غيرها- لا ينقص من منفعة حملها في شيء..!! فالمنفعة حاصلة منها ولا شك حين سقوط المطر، علمًا بأن المثل الذي قدمناه لا يجلي أهمية الإعداد والاستعداد بشكل شامل؛ لأن استعدادك بحملك المظلة غير مانع للمطر من السقوط، فما بالك لو أن استعدادك كان من موانعه!!
ولقد أضحى من البديهي الكلام عن تطور العلم والتكنولوجيا في الزمن الحاضر، أو الإعلان بأن عجلة التاريخ في هذا الميدان تعرف حركة سير متزايدة السرعة أو التصريح بأن انفجار المعارف والأفكار قد عم عديدًا من القطاعات محدثًا فيها تغييرًا مدويًا، وناقلاً إياها من حال إلى حال أشد قطيعة مع الأحوال السالفة من حيث الأداة والأسلوب والمنهج.
فحتى الذين أبوا الانخراط في ركب التقدم العلمي صفعتهم الاكتشافات وزعزعت كيانهم أنباء العلوم والمعارف، وغزت ديارهم التقنيات المتقدمة وتطبيقاتها في شتى الميادين، فأضحت حياتهم اليومية تتطلب مزيدًا من الحاجة إلى استعمال منتجات التكنولوجيا الحديثة، بشكل زلزل عديدً من الأفكار لديهم ولدى جماعاتهم.
انظر مثلا للذين لا يزالون متمسكين بتحريم الصور كيف ما كان نوعها، تراهم كيف يتعاملون مع الناس في تجارتهم وقضاء مأربهم؟ هل يرفضون النقود وحيازة الأوراق البنكية لوجود الصور عليها؟ وإذا استطاعوا أن يجدوا محليًا فكيف بهم وهم خارج البلد، وفي البلدان الغربية خاصة؟
طبعًا، لانعدم في هذا الركب الحثيث نحو الكشوفات المصارعة للطبيعة والمنقبة في غياهب الكون المفتوح، من يركن إلى نكران وصول البشر إلى القمر، أو غيره من الكشوفات العلمية، والدراسات المستقبلية منزهة عن مخاطبة مثل هؤلاء! فهي منهج فكر، وأسلوب تحليل قبل أن تكون منظومة من البحوث والمعلومات، لا يستوعبها إلا العالمون!
إن دراسة بدائل المستقبل من خلال مشاهد أو تحاليل لأزمات أو توقعات محتملة انطلاقًا من دراسة تطورات الأوضاع الحاضرة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتربوية والديموغرافية والبيئية تمكن من إجلاء الفعل اللازم والحركة الواجبة استعدادًا لمواجهة هذا القابل المتأزم أو المتفجر، وبالتالي تجنب الصدام معه، أو احتوائه وحسن استخدامه، أو التخفيف من حدثه ووقعه لتغيير حاصل في شكل وتطور تلك الأوضاع الحاضرة بفضل التأهب والاستعداد في الأزمنة والظروف المناسبة.
ودراسة المستقبل لا تنوب ولا تغني عن التخطيط، فالدراسات المستقبلية لا تضع نفسها عوضًا ولا بديلاً عن المسطرات التقنية والمناهج الفنية للتخطيط، بل على العكس، تعتبر أداة متممة ومكملة لها، مضيفة لها قيمة علمية وفنية لا يستهان بها من خلال التساؤل الذي تفجره حول الغايات والأهداف المرجوة من التخطيط، في شكل أسئلة بديهة: لماذا؟ ومتى؟ وكيف؟
فالدراسات المستقبلية إذن ليست مصيدة جديدة ولا لعبة مستوردة بل هي علم يحتاج إلى مجهود واع ومتزن لتحرير المستقبل أو استرداد المستقبل، ذلك أن المستقبل ببلداننا ما زال كابحًا تحت نير الاستعمار[6]، يخططه ويحدده، يجلي صوره المحتملة، ويملي على عملائه من خلال قنواته ومؤسساته الحلول التي يراها مناسبة لمصالحه، ويقدم الاقتراحات من خلال مراكز وأندية إعلامه، لضمان سير بلداننا نحو الوجهة التي يرتضيها، والتقدم نحو الجهة التي أعدها وأشرف على تحديدها، لهذا فنحن نحتاج إلى الاستعداد لمواجهة كفاح لا نملك له بعد القدر الكافي من الزاد والعدة، بشريًا وماديًا، لكسب المعارك فيه، خاصة وأن الساحة قد تغيرت معالمها عنا بعد هجرنا لها دهرًا طويلاً ولقد عمدنا إلى أن نتكلم في صدر المقال السابق عن مصدري الفكر الإسلامي: كتاب الوحي وكتاب الكون، وأن نسطر ضرورة وجود مناخ من الحرية والنقد في المجتمع الإسلامي الذي يتطور فيه ذلك الفكر؛ لأن الدراسات المستقبلية لا تبيض تحت نير الاستعمار، ولا تفرخ في مجتمع منغلق على نفسه، كابت للحريات، مستبد بالسلطة، محتكر للقرارات، بل إن ازدهارها مشروط بوجود جو من الحرية والنقد، مع توفر معاهد للتحليل ومراكز للاجتهاد في مختلف الميادين.
يتبع