
27-05-2015, 06:42 PM
|
 |
عضو لامع
|
|
تاريخ التسجيل: Apr 2015
العمر: 61
المشاركات: 4,132
معدل تقييم المستوى: 15
|
|
قواعد العناية بالصحة في نظام الطعام في الإسلام
د. بدر محمد حسن الصميط
القاعدة الثانية: الأكل على قدر حاجة الجسم من الطعام:
أساسُ هذه القاعدة هو قول النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلثٌ لطعامه، وثلثٌ لشرابه، وثلثٌ لنفَسه))[62]، هذا الحديث أصلٌ من أصولِ الطب النبوي الشريف، إذا أُضِيفَ إلى آية الأعراف في القاعدة الأولى.
قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم": "هذا الحديث أصلٌ جامع لأصول الطب كلها،
وقد روي أن ابن ماسَوَيه[63] الطبيب لما قرأ هذا الحديث في كتاب أبي خيثمة قال: لو استعمل الناس هذه الكلمات؛ سلموا من الأمراض والأسقام، ولتعطلت المارستانات[64]، ودكاكين الصيادلة"[65]، قال العلامة السِّندي في شرحه لهذا الحديث: "لأن البطن سببُ غالبِ أمراض البدن، ولقيمات تصغير لُقْمة"، ونقل عن الغزالي قولَه: "ذكر هذا الحديث لبعض الفلاسفة من الأطباء فعجب منه، وقال: ما سمعتُ كلامًا في قلة الأكل أعظمَ من هذا، والله إنه لكلام حكيم"[66].
وقال العلامةُ أحمد الساعاتي في "الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد"، خلق الله البطن؛ لكي يتقوَّم به الصلب، وامتلاؤه يُفضِي إلى مضار كثيرةٍ، منها: كثرة المرض غالبًا، والكسل؛ فيمنعه التعبُّد، ويكثر فيه مواد الفضول، فيكثر غضبه وشهوته، وأكلات جمع أكلة؛ وهي: اللقمة[67]؛ أي: يكفيه هذا القدر، في سد الرَّمَق وإمساك القوة في إقامة صلبه- وهو ظهره- بما يحفظه من السقوط، ويتقوَّى على الطاعة، وهذا غاية ما اختير للأكل[68]، وقال الإمام ابن القيم في "الطب النبوي" في تعليقه على هذا الحديث: "أخبر النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- أنه يكفيه لقيماتٌ يقمن صلبَه؛ فلا تسقط قوته، ولا تضعف معها، وهذا من أنفع ما يكون للبدن والقلب، فإنَّ البطن إذا امتلأ من الطعام؛ ضاق عن الشراب، فإذا أورد عليه الشراب؛ ضاق عن النفس، وعرض له الكرب والتعَب؛ مما يسبب فساد القلب، وكسل الجوارح عن الطاعات، وتحركها في الشهوات التي يستلزمها الشبع، فامتلاء البَطْن من الطعام مُضِرٌّ للقلب والبدن، هذا إذا كان دائمًا، أو أكثريًّا، وأما إذا كان في بعض الأحيان فلا بأس، فالشبع المفرط يضعف القوى والبدن، وإن أخصبه، وإنما يقوى البدن بحسب ما يقبل من الغذاء، لا بحسب كثرته[69]، ومن المعلوم أن الطعام ضروريٌّ؛ لقوام الحياة، فلا يستطيع الإنسان أن يعيش بلا طعام أو شراب، سوى أيام معدودة، وقد ذكرنا فيما سبق أن حاجة الجسم للطعام تتفاوتُ بحسب الأجسام، والأعمار، والأعمال، والبلاد، كما ذكر ابن العربي في "أحكام القرآن"، والاعتدال والوسطيَّة في تقدير حاجة الجسم من الطعام، هو الذي عناه- صلَّى الله عليه وسلَّم- في الحديث الآنف الذكر، وسبيل معرفة ثلث الطعام، وثلث الشراب، وثلث النفس، بيَّنها العلماء؛ فقد ذكر الإمام الغزاليُّ في "الإحياء": أن مقدار نصف مد من الطعام[70]، وهو يعادل رغيفًا وشيئًا، ويشبه أن يكون هذا مقدار ثلث البطن في حق الأكثرين، كما ذَكَرَه النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- وهو فوق اللقيمات؛ لأن هذه الصيغة في الجمع للقلة، فهو لما دون العشرة، وقد كان ذلك عادة عمر- رضي الله عنه- إذ كان يأكل سبع لُقَمٍ، أو تسع لقم[71].
وقال ابن القيم في "الطب النبوي" في تعليقه على حديث القاعدة: ومراتبُ الغذاء ثلاثةٌ أحدها: مرتبة الحاجة، والثانية: مرتبة الكفاية، والثالثة: مرتبة الفضلة، فأخبر النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه، فلا تسقط قوتُه، ولا تضعف معها، فإن تجاوزها فيأكل في ثلث بطنه، ويدع الثلث الآخر للماء، والثالث للنفس، وهذا من أنفع ما للبدن والقلب[72].
القاعدة الثالثة: الحميَّة أصلٌ من أمن أصول صحة جسم الإنسان:
يقصد بالحمية: احتماء الإنسان من الطعام، سواءٌ كان مريضًا أم سليمًا، وإن كانت تُطلَق في حق المريض أكثر[73]، والمعلوم أنَّ للطعام شهوةً ولذةً ينجذبُ بسببها الشَّرِه من الناس، والذي لا يَضبِط نفسَه عند رؤية الطعام اللذيذ، ذي النكهة العطرة، والإعداد الأنيق، والمنظر البديع.
وورد عندنا في الأمثال الكويتية: "مقابل جيش، ولا مقابل عيش"[74]، وقد ورد عن النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- أنه دخل ومعه علي بن أبي طالب بيتًا فيه دوالٍ[75] معلَّقة، فجعل رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- يأكل، وعليٌّ معه يأكل، فقال رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- لعلي: ((مه مه، يا علي؛ فإنك ناقِهٌ[76])) فجلس عليٌّ، والنبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- يأكل، فجيء لهم بسلق وشعير، فقال النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((يا علي، مِن هذا فَأَصِبْ؛ فإنه أوفق لك))[77]، قال الموفَّق البغدادي في شرحه لهذا الحديث في الأربعين الطبية المستخرج من سنن ابن ماجه: في هذا الحديث الأمرُ بالحمية وأن الناقِهَ ينبغي له أن يحتفظ على نفسه، ولا يمرجها[78] مرجَ الأصِحَّاء، والناقه هو الذي خلص من المرض، وهو متحرك إلى الصحة الوثيقة، ولم تحصل له بعدُ صحةٌ تامة، وأعضاؤه ضعيفة، وكذلك هضمه، وأفعال أعضائه فهي سهلةُ القَبُولِ للآفات، وأيضًا فإنَّ الناقه إلى ما يزيد في جوهر أعضائه، ويكون مع ذلك سريعَ النُّفوذ: كالسَّلق والشعير مطبوخَينِ، والناقِهُ ضعيفُ الهضم[79].
وقال العلامةُ أحمد الساعاتي في "الفتح الرباني": فيه أن المريض في دَوْرِ النقاهة يشتهي الطعامَ والأكل، فلا يُعطَى كل ما تشتهيه نفسه، إلا ما كان خفيفًا على المعدة، فلا بأس به[80].
وقال عبدالملك بن حبيب في "الطب النبوي" فيما جاء في حمية المريض، فيما سمعه عن بعض الأطباء والحكماء: رأس الطب الحمية، ثم قال: وقد حمى رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- وأمر بالحمية عمرَ بن الخطاب، وغيرَه من الصحابة، وبلغني أن عمر قال للحارث بن كلدة: ما الدواء؟ قال: الحمية، ثم فال أيضًا في تعليقه وشرحه لحديث علي السابق: وكانت عائشة- رضي الله عنها- تحمي المريض؛ أي: تأمره بالحمية[81]، وقال الدكتور علي البار في شرحه وتعليقه على كتاب "الطب النبوي"؛ لعبدالملك بن حبيب: "الحمية من أنواع الطعام، أمرٌ يمارسه الأطباء يوميًّا، فمريضُ السُّكَّر لديه قائمةٌ طويلةٌ من الأطعمة الممنوع تناولها، وكذلك مريض ضغط الدم، ومريضُ الكُلَى، ومريض المعدة، والأمعاء، والمصاب بارتفاع الدهنيات في دمه له حمية خاصة، كما أن هناك الحميةَ العامةَ للتخفيف من آثار السمنة"[82]، وذكر الإمام أبو حامد الغزالي في "الإحياء": أن هارون الرشيد الخليفة العباسي اجتمع عنده أربعةٌ من الأطباء، فطلب منهم أن يَصِفُوا له الدواءَ الذي لا داء فيه، فذكر الرابعُ منهم: ألا يأكل الإنسان حتى يشتهيَ الطعام، وأن يرفع يده وهو يشتهيه[83]، وذكر الغزالي أيضًا في كتاب آداب الطعام في القسم الثالث فيما يستحب بعد الطعام: أنه يستحب الإمساك قبل الشبع[84]، وقال أيضًا: إن رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- والصحابة لم يكونوا يأكلون إلى تمام الشبع[85]، فالحمية من أنفع الأدوية قبل الداء؛ فتمنع حصوله، وإذا حصل؛ فتمنع تزايده، وانتشاره[86].
القاعدة الرابعة: تنظيم أوقات الطعام، وتجنب الأكل بين وجبات الطعام بإدخال طعام على طعام:
وهذه القاعدة مما أهمله كثيرٌ من الناس، فالمتعارَفُ عليه عند الناس أن وجبات الطعام ثلاثٌٌ: إفطار، وغداء، وعشاء، والناس مختلفون في أي هذه الوجبات الثلاث هي الرئيسية؟ فأكثرهم أنها الغداء، وبعضهم يجعلها العشاء، والقليل منهم تكون وجبته الرئيسية هي الإفطار، وتختلف مدة هضم الطعام في المعدة ما بين ساعتين، في الطعام اليسير المكوَّن من صِنفٍ، أو صِنفين من الأطعمة الخفيفة: كالفواكه، والعصائر، والحليب، وما شابهها، وبعضٌ آخر تستغرق مدة هضمه من أربع إلى خمس ساعات، إذا حَوَى الطعام أصنافًا متعدِّدةً من المأكولات غير ما ذكرنا، وقد تمتدُّ مدة الهضم إلى سبع ساعات، إذا كان الطعام يحتوي على شحومٍ، ومواد دهنية كثيرة[87]، فعلى هذا ينبغي على الإنسان إذا أكل وجبةً متوسطةً، يستغرق هضمها ما بين أربع إلى ست ساعات، ألا يأكلَ طعامًا آخرَ في أثناء هضم الطعام الأول، بل ينبغي عليه أن يريحَ المعدة أيضًا، بعد عملية الهضم لمدةِ ساعتَينِ أو ثلاثًا؛ حتى تستعيدَ قوتها، ونشاطها، وترتاح من عناء الهضم الذي استغرق خمس أو ست ساعات متواصِلة، لكن المُشاهَد في حياة كثيرٍ من الناس، أنه إذا تناول وجبةً صفتها كالذي ذكرته، ثم زار صديقًا، أو دُعِيَ إلى وليمةِ عُرْسٍ، أو عقيقة، أو مناسبة، فإنه لا يتردَّد في الأكل؛ إما شرهًا، أو استحياء، وهذا هو المُضِرُّ بجسم الإنسان وصحته، فقد سُئِلَ الحارث بن كلدة عن الداء الدويِّ[88] الذي *** البرية وأهلك السباع في البرية، فقال: إدخال الطعام على الطعام قبل الانهضام[89]، وسُئِلَ جالينوس: مالَكَ لا تمرضُ؟ فقال: لأني لم أدخل طعامًا على طعام[90]، وأوصى أحد الأطباء المأمون الخليفةَ العباسي بخصالٍ مَنْ حفظها، وعمل بها، فهو جديرٌ ألا يمرض إلا مرض الموت، فذكر منها: لا تأكل طعامًا، وفي معدتك طعامٌ.
ومما قيل في ذلك شعرًا ما رُوِيَ عن الإمام الشافعي- رحمه الله تعالى- قوله:
ثَلاَثٌ هُنَّ مُهْلِكَةُ الأَنَامِ 
وَدَاعِيَةُ الصَّحِيحِ إِلَى السِّقَامِ 
دَوَامُ مُدَامَةٍ وَدَوَامُ وَطْءٍ 
وَإِدْخَالُ الطَّعَامِ عَلَى الطَّعَامِ [91]
واعلم أنه لم يردْ في الشرع الحكيمِ- لا في الكتاب ولا في السُّنَّة- تحديدُ عدد وجباتِ اليوم الواحد، وقد أورد الإمام الغزالي- رحمه الله- تعالى بعض الأحاديث التي تحدِّدُ عدد الأكلات في اليوم والليلة، ولكنها أحاديث لم تثْبت عن رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- أو أنها أحاديث ضعيفة، كما أشار إلى ذلك الحافظ العراقي في تعليقه عليها[92]، وقد ذكر الإمام الغزالي- رحمه الله- أيضًا: أن عادة السلف أنهم كانوا لا يأكلون إلا أكلةً واحدة في اليوم، فالله أعلم بصحة ذلك[93]، فإن كان صحيحًا، فربما يُعلل لشدة فقرهم وضيق الحال في تلك الأزمان، والله أعلم، وقيل لسهل التُّستَري: الرجل يأكل في اليوم مرة؟ قال: أكل الصِّدِّيقين، قيل: فمرَّتين، قال: أكل المؤمنين[94].
وقال الحكماءُ: الأصلح في كل يومَين وليلتين ثلاث أكلاتٍ وقت البرد، وقال بعضهم: في كل يوم وليلة أكلةٌ، وهي عند إفطار الصائم، ولا بأس بما تعوَّد عليه الناس من الغداء والعشاء، بكرة وعشيًّا، مع القدر اليسير من المطاعم[95].
وقد ذكر لي أحدُ الفُضَلاء ممن درس في أمريكا، عندما كنت أُلقِي بعض الدروس العلمية عن هذا الموضوع، فقال: لقد أجرى الأمريكان تجربةً على قردَين تَوْءَمَيْن في تنظيم الوجبات، وأثر ذلك على صحة الحيوانات، حيث وُضِعَ هذان التوءَمان في قفصين متجاورَينِ لمدَّة خمس سنوات: أما أحدهما فكان يُكَبُّ له الطعامُ كبًّا، حتى يكون متوفرًا له في كل وقت وحين، يأكل منه متى شاء، وكيفما شاء، وأما الآخر فكان يوضع له ثلاث وجبات بقدرٍ معلوم، في زمن محدد مقدر: صباحًا، وظهرًا، وليلاً، وبعد نهاية المدة كان القرد الأول كجد أخيه شكلاً، ونشاطًا، وحيويةً، فقد انحنى ظهره، وسال لُعابُه على فمه، وضَعُفَت حركته، وقلَّ نشاطه، وأما الآخر فكان كثيرَ الحركةِ، معتدلَ الجسم، مفعمًا بالحيوية والنشاط، فقلتُ: إن في ذلك لذكرى، فقد يتعلم الإنسان شيئًا من تدبير أمور حياته ومعاشه من الحيوان.
القاعدة الخامسة: اختيار أفضل أنواع الطعام، وتجنُّب أردئه:
هذه القاعدة مما يهمله أيضًا كثيرٌ من الناس؛ لعدم معرفتهم بما يفيد من الطعام لجسم الإنسان وصحته، وإن كان طعامه أحيانًا ليس فيه مما في كثيرٍ من المطعومات من حلاوة طعم، أو نضارة منظر، أو شكل أو نكهة، أو رائحة تخلب العقل، وتُهيِّج الطبع، ومن المعلوم لدى العُقَلاء أن الإسلام اعتبر الطعام والغذاء وسيلةً لا غايةً، فالغذاء والطعام وسيلةٌ ضروريةٌ لا بد منها لحياة الإنسان، والقصد منها بناءُ جسم الإنسان؛ لتعويضه ما يفقده؛ بسبب مجهوداته المختلفة، والمحافظة على نموه نموًّا سليمًا، ولحفظه من الأمراض التي تعترض حياة الإنسان، ثم إعطاء الجسم القدرة والقوة الكافية؛ للمحافظة على أجهزته وأعماله[96].
وقد قسَّم الأطبَّاء علماءُ التغذية وظائفَ الطعام في جسم الإنسان إلى ثلاثِ وظائف رئيسيةٍ هي:
1-الحصول على الطاقة والحرارة.
2-بناء وتعويض أنسجة الجسم.
3- تنظيم أعمال الجسم الداخلية، والوقاية من الأمراض.
وهذه الحاجات لا يمكن سدُّها إلا عندما تتوفر في الغذاء عناصرُ رئيسية، وهي ستة أنواع:
1- الكربوهيدرات.
2- البروتينات.
3- الدهون.
4- الأملاح المعدنية.
5- الفيتامينات.
6- الماء.
وهذه العناصر الرئيسية في الطعام والغذاء، موجودة في الأنواع الآتية من الأطعمة:
1- الكربوهيدرات، موجودة في: السكريات، والنشويات.
2-البروتينات، موجودة في: الحبوب، واللحوم، والكبد، والعسل الأسود.
3- الدهون، وتوجد في: الشحم الأسود، والزبد، والسمن، والبيض، وزيت الزيتون، والسمسم.
4- الأملاح المعدنية، وتتوفَّر في: الحليب، ومشتقاته.
5- الفيتامينات، وتوجد في: الكبد، والكُلَى، والحليب، والقشدة والخضروات، والفواكه، لا سيما الطازج منها والطري.
6- الماء[97].
وهذه العناصر الستة التي يجب أن تتوفر في أنواع الطعام والغذاء لسد حاجة الجسم، قد عرفها الأقدمون من علمائنا- رحمهم الله تعالى- فقد ذكر الإمام الغزاليُّ- رحمه الله تعالى- في أنواع الطعام فقال: أعلى الطعام مخُّ البُرِّ[98]، فإن نُخِلَ، فهو غاية الترفُّه، وأوسطه شعيرٌ منخولٌ، وأدناه شعير لم ينخل، وأعلى الأدم اللحمُ والحلاوةُ، وأدناه الملح والخل، وأوسطه المزورات بالأدهان من غير لحم[99].
ولو تأمَّلنا طعامَ رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- لوجدناه يحتوي على جُلِّ ما سبق ذكره، قال ابن القيم في "زاد المعاد": كان- صلَّى الله عليه وسلَّم- يأكل ما جرت عادة أهل بلده، بأكله من اللحم، والفاكهة، والخبز، والتمر، وغيره، وكان يأكل الرُّطَبَ والبِطِّيخَ، وإذا عافت نفسُه شيئًا لم يأكلْه، ولم يحمِّلْها إياه على كُرْهٍ، وهذا أصلٌ عظيمٌ في حفظ الصحة[100]، وكان يحب الحلواء، والعسل، وهذه الثلاثة- أعني: اللحم، والعسل، والحلواء- من أفضل الأغذية، وأنفعها للبدن، والكبد، والأعضاء، وللاغتذاء بها نفعٌ عظيم في حفظ الصحة والقوة[101]، وكان يأكل الخبز مأدومًا، ما وجد له إدامًا، فتارةً يأكله باللحم، ويقول: ((هو سيد طعام أهل الدنيا والآخرة))[102]، وتارة بالبطيخ، وتارة بالتمر، وتارة بالخل[103]، ولو رجعنا إلى باب الأطعمة في بعض كتب السنة: كصحيحي البخاري[104]، ومسلم[105]، وسنن أبي داود[106]، والترمذي[107]، وسنن ابن ماجه[108]، في نوع مطعومات ومآكل رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- لوجدنا ما ذكره ابن القيم- رحمه الله تعالى.
هيئة الجلوس للطعام مما يساعد، أو يعيق في هضْم الطعام وأكله، وهو أدبٌ من الآداب الإسلامية التي راعاها الإسلام، ونبَّه عليها صفوةُ الخلق رسولُنا محمد- عليه الصلاة والسلام- وقد ذكر العلَّامة ابن القيم- رحمه الله تعالى- في كتابه القيم "الطب النبوي" فصلين مختصرين عن ذلك[109]، وأنا أورد هنا خلاصتهما.
قال ابن القيم- رحمه الله تعالى-: بابٌ في هديه- صلَّى الله عليه وسلَّم- في هيئة الجلوس للأكل.
صَحَّ عنه- صلَّى الله عليه وسلَّم- أنه قال: ((لا آكل متكئًا))[110]، قال ابن القيم- رحمه الله تعالى-: وقد فُسِّر الاتكاءُ بالتربُّع، وفسر الاتكاءُ على الشيء: وهو الاعتمادُ عليه، وفسر الاتكاء على الجنب، والأنواع الثلاثة من الاتكاء، فنوعٌ منها يضرُّ بالأكل، وهو الاتكاء على الجنب، فإنه يمنع مجرى الطعام الطبيعي عن هيئته، ويعوقه عن سرعة نفوذه إلى المعدة، ويضغط المعدة فلا يستحكم فتحها للغذاء، وأيضًا فإنها تميل، ولا تبقى منتصبةً فلا يصلُ إليها الغذاءُ بسهولةٍ[111].
وروي عنه- عليه الصلاة والسلام- أنه: "نهى أن يأكل الرجل وهو منبطحٌ على وجهة"[112]، وقال ابن القيم- رحمه الله تعالى-: ويذكر عنه- صلَّى الله عليه وسلَّم- أنه كان يجلس للأكل متورِّكًا على ركبتَيْهِ، ويضع بطن قدمه اليُسرَى على ظهر قدمه اليمنى؛ تواضعًا لربه- عز وجل- وأدبًا بين يديه؛ لأن الأعضاء كلها تكون على وضعها الطبيعي الذي خلقها الله- سبحانه- عليه مع ما فيه من الهيئة الأدبية.
وأجود ما اغتذى عليه الإنسان إذا كانت أعضاؤه على وضعها الطبيعي، ولا يكون كذلك إلا إذا كان الإنسان منتصبًا الانتصابَ الطبيعي، وأردأ الجلسات للأكل الاتكاءُ على الجنب؛ لأن المرِّيء وأعضاءَ الازدراد تضيق عند هذه الهيئة، والمعدة لا تَبْقَى على وضعها الطبيعي؛ لأنها تنعصر مما يلي البطن بالأرض، ومما يلي الظهر بالحجاب الفاصل بين آلات الغذاء، وآلات النفس[113]، وقال الحافظ ابن حجر[114] في "الفتح": حكى ابن الأثير في "النهاية": أن من فسَّر الاتكاء بالميل على أحد الشقَّين تأوَّله على مذهب الطب، بأنه لا ينحدر في مجاري الطعام سهلاً، ولا يسيغه هنيئًا وربما تأذَّى به، وقال أيضًا: واختلف العلماء في عِلَّة الكراهة، وأقوى ما ورد في ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة، من طريق إبراهيم النخعي قال: "كانوا يكرهون أن يأكلوا اتِّكاءة؛ مخافةَ أن تعظم بطونهم"[115].
يتبع
|