وأرسلنا الرياح لواقح
د. عبدالمحسن صالح
وقد يتساءل متسائل: لكن أنَّى لبللورات الملح أن تتعلق في الهواء، وتَسريَ فيه، لتُصبح من اللواقح المؤدية لتكوين السحاب؟
الواقع أنها بللورات جدُّ دقيقة، وهي تنتج من الرذاذ الخفيف الناتج من أمواج البحار والمُحيطات، خاصة الأمواجَ العالية التي تضرب شواطئ الأرض، وعندما يحمل الهواء هذا الرذاذ، فسرعان ما يتبخر ماؤه، تاركًا وراءه بللورة ملح دقيقة غاية الدقة (أصغر من الميكروب الذي لا يُرى إلا بالميكروسكوب)، فتَنتشِر مع الهواء في كل أرجاء المَعمورة، ولقد تأكَّد العلماء من وجودها، حتى في الهواء الذي يَسري فوق القارات وداخلها بعيدًا عن البحار بمئات وآلاف الأميال، وهي من أكفأ اللواقح في تكوين حُبيبات الماء الدقيقة من البخار؛ فمِن خواصِّها أنها ذات نهم لتجميع جزيئات الماء الشاردة في الهواء، المُشبع بالبخار، وطبيعي أن مياه الأمطار بها عذوبة، لكنها لا تخلو من نسبة ضئيلة من الملح المذاب، وهذه تُضفي عليها طعمَها المستساغ.
وطبيعي أن الظروف الجوية تلعب بعد ذلك دورًا فعالاً في تجميع حبيبات الماء الدقيقة في حبيبات أكبر وأكبر، وإلى هنا تظهر قوتان مُتضادتان؛ قوة الجاذبية، وقوة صعود التيارات الهوائية إلى أعلى، أيهما يتغلَّب يؤدِّي إلى سقوط الأمطار أو إبقائها مُعلَّقة، لكن مما لا شكَّ فيه أن حجم قطرات الماء يَصل إلى الدرجة التي لا مناص منها عن هطول الأمطار بدرجات مُتفاوتة.
لكن القصة لم تنته عند هذا الحد؛ فاللواقح لا تُساعد فقط على تكوين قطرات الماء الدقيقة لتَصير سحابًا، بل هي قد تتداخل بين القطرات لتجمَعَها في قطرات أكبر، وتُساعد بذلك على سقوط الأمطار، والواقع أن المُشاهَدات الكثيرة التي سجَّلها العلماء، والتجارب العديدة التي أرادوا بها محاكاة الطبيعة في شرائعها، قد أوضحَت بجلاءٍ ما انطوت عليه آيتُنا الكريمة من عطاء.
فعندما تَجتاح النيران مساحات كبيرة من الغابات، وتُطلق في الهواء سناجها أو هبابها أو رمادها، وعندما تثور الرياح، وتُثير من الأرض والصحاري غبارها ورمالها، وعندما تتساقط الشهب بكثرة مُخلِّفةً وراءها جسيماتها... إلخ، فإنه من الملاحظ عادةً أن تُسقِط السحُب أمطارها؛ لأن اللواقح الناتجة من النيران والرياح والشهُب تكون قد تخلَّلت ما يقابلها من سحب، فجعلتها تُسقط أحمالها، فإذا بها تصير أمطارًا.
ولقد قام العلماء بعد ذلك بتلقيح السحاب بمَساحيق من أملاح مُختلفة بواسطة الطائرات، أو برشِّه ببلورات دقيقة من الثلج، أو بتلويثه بالغبار، ولم تمضِ إلا فترة، حتى حدَث تغيُّر في تَكوين السحاب، وبدا يُسقِط أمطاره.
هذه إذًا نُبَذ قصية مِن علومنا الحديثة التي حقَّقت ما جاءت به الآية الكريمة منذ أربعة عشر قرنًا، أو بتعبير أدق نقول: إن القرآن كان له السبق فيما تحقَّق بعد ذلك بمئات كثيرة من الأعوام.
﴿ فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ ﴾!
والواقع أن هذه الكلمة أيضًا - أي ﴿ فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ ﴾ - تَطوي معنى آخر كبيرًا؛ إذ ربما هي تشير إلى دورة المياه في الطبيعة؛ لأن كل ماء على هذا الكوكب ليس صالحًا للشرب؛ فالبحار والمحيطات تحوي الجانب الأكبر من الماء، لكنه ليس مناسبًا لحياة الإنسان والحيوان والنبات، أو كل ما يعيش على اليابسة، إنه صالح فقط لحياة الكائنات البحرية، فهذه قد تأقلَمت عليه، وتكيَّفت به، فنحن مثلاً لا نستطيع أن نأخذ سمكة من أنهار عذبة، ونضعها في بحار مالِحة أو العكس، ولو فعلنا لما عاشت هذه أو تلك.
كما أنَّنا لا نستطيع أن نشرب مياه البحار، ولو فعلنا لسحبَت هذه المياه المالحة بعض مياه أجسامنا، فتَزيد عطشًا على عطشٍ، وقد يؤدِّي ذلك إلى الهلاك المبين.
ولكي تيسّر لنا الأمور كان لا بد مِن عملية بخر جبارة، أو تقطير للمياه المالحة، وجاءت الشمس بحرارتها لتتسلَّط على البحار والمحيطات، فترفع منها سنويًّا كميات من الماء (على هيئة بخار) تَصِل إلى 95 ألف ميل مكعَّب، هذا ويحتوي الميل المكعب على حوالي أربعة آلاف مليون طن من الماء، اضرب هذا في ذاك، لتتَّضح ضخامة هذه العملية الهائلة التي لا يقدر عليها كل البشر حتى ولو اجتمعوا لها!
ولا بدَّ لهذه الكميات الضخمة من البخار من لواقح تَجمعها في قطرات دقيقة، لواقح تُسقِطها أمطارًا غزيرة، وقد كان - كما سبق أن أسلفنا - ثم تتوزع الأمطار لتسقط على البحار وعلى اليابسة (المعروف أن حوالي 70 % من مساحة كوكبنا تُغطِّيها البحار والمحيطات)، فيخص البحار منها 71 ألف ميل مكعب، ثم تفقد الأرض من أمطارها بعد ذلك بالبخر 15 ألف ميل مكعَّب لتعود إلى الهواء، وعندئذ لا يتبقَّى إلا تسعة آلاف ميل مكعب، لكنها مع ذلك تكفي الإنسان والزرع والضرع، بدليل أن جميع الأنهار في كل القارات بها تفيض، ومنها تتكوَّن البحيرات العذبة، وتعوِّض المياه الجوفية مخزونها... إلخ.
ومن هذه الدورة التي قدِّرت تقديرًا قامت على الأرض الحياة، فأورقَت الأشجار، وتفتَّحت الزهور، وغرَّدت الطيور، وحلَّقت الفراشات، وانطلقَت الحيوانات، وسعى الإنسان لينقِّب ويعمِّر ويتطلَّع إلى جلال الله في كل ما خلق فقدَّر فهدى، حتى ولو كان ذلك في لواقح لا نقيم لها وزنًا، رغم أنها النواة التي فاضت بها الأنهار، وجرَت الينابيع، وتغذَّت الآبار، لتسقي الإنسان وسائر أنواع النبات والحيوان؛ ﴿ خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ﴾ [لقمان: 10].
﴿ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾
لكن... ماذا يعني حقًّا هذا الجزء الأخير من الآية؟
يبدو أن فيه معنى ظاهرًا وآخر باطنًا، ولقد عدْنا إلى عدد مِن التفاسير القرآنية، فوجدنا أن بعضها لم يُعلِّق بشيء، في حين أن البعض الآخر قد تعرَّض لظاهر الآية، أو فسَّرها التفسير التقليدي الذي وقر في العقول، أي أن الإنسان لا يَستطيع أن يتصرَّف في الماء أو يتحكَّم فيه، لكن ما نظنُّ أن ذلك هو المقصود، فلقد بنت سبأ سد مأرب من آلاف السنين لتستعين به في تخزين الأمطار، كما قام الرومان بإنشاء الآبار الرومانية المشهورة لتحتجز فيها الماء، ثم إن معظم دول العالم الآن قد أقامت السدود ليكون لها في التخزين مأرب... إلخ.
وتفسيرنا الذي سنُقدِّمه هنا من باب الاجتهاد؛ إذ يبدو - والله أعلم - أن ورود التخزين بعد الإشارة إلى شراب الماء - أو بتعبير الآية: ﴿ فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ ﴾ - يرجع إلى حكمة الماء في أجسام الإنسان وكل المخلوقات، فإذا شربْنا الماء فلا تملك له تصريفًا، ولا نستطيع له تخزينًا؛ لأن الذي يتحكَّم فيه أجهزة بيولوجية مُتكاملة على درجة عظيمة من الكفاءة والتعقيد.
فرغم أن 60 % من وزن الجسم ماءٌ، فإن الحد الفاصل بين الموت والحياة يتمثَّل لنا في عدة أكواب من الماء، فإذا نقصَت معايير الماء في دمائنا وأنسجتِنا، أو زادت عن حدودها المقدَّرة، وجدت لها موازين مضبوطة لتُعيد كل شيء إلى حدوده، وكل هذا يدل على قدرة الله الذي خلق كل شيء بحساب وتقدير، حتى ولو كان ذلك في جرعة ماء.
فالماء الذي نشربه لا يُمكن الاحتفاظ به أو تخزينه؛ فجزء منه يخرج مع التنفس بخارًا، وجزء يفرَز عرقًا، وجزء ينطلق بولاً، وعلى قدر ما نتجرَّع ماءً على قدر ما تنطلِق الأحكام التي قدَّرها الخالق في أجسامنا لتتصرَّف فيما تجرَّعْنا!
ففي قاع المخِّ توجد منطقة صغيرة يُطلِق العلماء عليها: "تحت المهاد" أو: "تحت سرير المخ"، وهي المَنوطة بمهام مختلفة، منها أنها تُعاير نسبة الماء والأملاح في الدماء ليلَ نهار، فإذا نقَص الماء، وزادت الأملاح، أوحت إلينا بالعطَش؛ لنُعوِّض ما فُقد، وإن زاد الماء، وخفَّت الأملاح، أرسلت أوامرها العصبية إلى غدّة تحتها مُباشرة تُعرف باسم الغدة النخامية، وكأنما هي تنبئها بطريقة لا ندري أسرارها أن تتَّخذ أمرًا كان مفعولاً، فتقوم الغدة بإفراز هرمون في الدم، الهرمون يتوجه إلى الكُلى فتستجيب له، وتفتح العيار قليلاً أو كثيرًا (على حسب كمية الماء الموجودة في الدم) فيخرج الماء الزائد حتى تعود الأمور إلى مجاريها، وتتوازن الدماء بمائها وأملاحها ومركباتها الكثيرة.
وطبيعي أن عملية الترشيح من الكلى عملية مهمة وخطيرة؛ لأنها تُخلِّص الدم من النفايات التي تخرج من الخلايا والأنسجة، وفي الوقت ذاته تتخلَّص من الأملاح الزائدة، وكل هذا يحتاج إلى ماء لتذوب فيه، وتخرج معه على هيئة بول، ولو توقَّفت هذه العملية، لتوقَّفت الحياة تبعًا لذلك، ومِن أجل هذا وضع الخالقُ النظم الكفيلة التي تنظِّم ما يدخل الجسم وما يَخرج منه، حتى ولو كان ذلك في جرعة ماء أسقانا الله إياها من ماء أشار إليه في أول الآية، وهو المتصرِّف فيه كما ورد في آخر الآية؛ إذ ليس لنا على الماء من سلطان، ولا نستطيع له تخزينًا، فهذا شيء خارج عن حدودنا وإرادتنا.
فإن كنا قد أصبْنا في اجتهادنا هذا فذلك فضل مِن الله، وإن أخطأنا فالله غفور رحيم، ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85].