الموضوع
:
حروف الهجاء من خلال الشعر
عرض مشاركة واحدة
#
3
29-05-2015, 11:33 AM
ابو وليد البحيرى
عضو لامع
تاريخ التسجيل: Apr 2015
العمر: 61
المشاركات: 4,132
معدل تقييم المستوى:
15
حروف الهجاء من خلال الشعر
محيي الدين صالح
وهاكم نصَّ القصيدة:
قَدْ عَاشَ بِأَيَّامِ الرُّومَانْ
إِنْسَانٌ مِنْ خَيْرِ الْحُكَمَاءْ
كَرِهَ الإِسْرَافَ بِكُلِّ مَكَانْ
وَاللَّهْوَ وَإِيذَاءَ الضُّعَفَاءْ
وَبِلَيْلٍ، وَدَّعَ أَصْحَابَهْ
لَمْ يَصْحَبْ مِنْهُمْ إِنْسَانَا
وَوَحِيدًا سَارَ إِلَى الغَابَهْ
لاَ يَمْلِكُ إِلاَّ الإِيمَانَا
وَهُنَاكَ رَأَى أَسَدًا يَزْأَرْ
يَتَلَوَّى، يَصْرُخُ يَتَوَجَّعْ
وَالشَّوْكَةُ غَاصَتْ كَالْخِنْجَرْ
يَا زَاهِدُ قُلْ: مَاذَا تَصْنَعْ؟
الزَّاهِدُ لَمْ يَخْشَ الأَسَدَا
بَلْ نَزَعَ الشَّوْكَةَ مِنْ قَدَمِهْ
وَالأَسَدُ الشَّاكِي قَدْ سَعِدَا
وَالزَّاهِدُ خَفَّفَ مِنْ أَلَمِهْ
وَرِجَالُ القَيْصَرِ قَدْ جَاؤُوا
لِلغَابَةِ فِي زَهْوٍ وَغُرُورْ
وَأَهَانُوا الزَّاهِدَ وَأسَاؤُوا
مِسْكِينٌ صَاحِبُنَا، مَأْسُورْ
وَبِيَوْمِ العِيدِ أَتَى الرُّومَانْ
لِيَرَوْا مَا يُصْنَعُ بِالسُّجَنَاءْ
أُمَمٌ جَاءَتْ مِنْ كُلِّ مَكَانْ
وَالزَّاهِدُ مُنْتَظِرٌ بِإِبَاءْ
الْحَارِسُ قَدْ نَفَخَ النَّاقُورْ
كَيْ يَنْطَلِقَ الأَسَدُ الْجَوْعَانْ
وَتَعَالَتْ أَصْوَاتُ الْجُمْهُورْ
وَالزَّاهِدُ يَنْظُرُ بِاطْمِئْنَانْ
وَيُرَدِّدُ فِي صَبْرٍ وَجَلاَلْ
يَا رَبَّ الرَّحْمَةِ وَاللُّطْفِ
أَنْقِذْنِي مِنْ هَذِي الأَهْوَالْ
حَتَّى أَعْلُوَ فَوْقَ الْخَوْفِ
الأَسَدُ عَرَفْنَاهُ رَهِيبًا
يَبْطِشُ، يَتَحَدَّى، وَيُعَانِدْ
قَدْ صَارَ أَلِيفًا وَحَبِيبًا
يَتَمَسَّحُ بِثِيَابِ الزَّاهِدْ
قَدْ رَوَّضْنَا الأَسَدَ الْجَبَّارْ
بِالعَمَلِ الطَّيِّبِ وَالإِحْسَانْ
الْخَيْرُ سَيَبْقَى شَمْسَ نَهَارْ
يَهْدِي الأَكْوَانَ بِكُلِّ زَمَانْ
والصِّياغة الشِّعرية كما نرى جذَّابة، استطاع الشَّاعر من خلالها أن يبسِّط تلك القصَّةَ المعروفة عن بَطْش الرُّومان إلى مستوى تلقِّي الأطفال بسهولة ويُسْر.
والعلاقات الأُسَرية وأهَمِّيتها وكيفيَّتها، هي من صميم المَسائل التي يجب أن يَعتني بها كلُّ من يتصدَّر للكتابة للأطفال؛ فهي أساسُ كلِّ المعارف وعليها تُبْنَى المُجتمعات؛ لذلك كانت القصيدة الثَّانية في الجزء الأول - وعلى حرف (الألف) أيضًا - من نصيب هذه العلاقة، فقصيدة "أخي وأختي والجيران" تتناول المعاني النَّبيلةَ لهذه العلاقة وتطوّرها؛ لتشمل كلَّ المجتمع الإسلاميِّ الذي جعله القرآنُ الكريم إخوةً؛
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ
[الحجرات: 10]، والقصيدة تدعو إلى ما دعَتْ إليه الأديانُ من إيثارٍ، وإخاء، وصفاء، وحُب متبادَلٍ بين الناس.
وحينما يقول "شعراوي" في هذه القصيدة:
مَا فَرَّقَتْ مِنَّا الأَلْوَانْ
وَإِنْ تَعَدَّدَتِ الأَوْطَانْ
فَهَكَذَا شَأْنُ الأَدْيَانْ
تُحْيِي الإِخَاءَ بِكُلِّ زَمَانْ
فإنَّ كل كلمةٍ في صياغة هذه الأبيات تأتي صادقةً، أو نابعةً من أعماقه، فالذي يتحدَّث عن تعدُّد الأوطان وعدم تأثير ذلك في الأخُوَّة الصادقة بين الجيران والمُجتمع بِأَسره، هو شاعرٌ طافَ كثيرًا من البلاد، واختلط بأجناسٍ متعدِّدة من البشَر، وتفاعل وتجاوب معهم جميعًا، وأضاف إلى كلِّ ذلك قراءاتِه المتنوِّعةَ في آداب الشُّعوب الأخرى التي رُبَّما لم يختلط بهم بالقدر الكافي.
وكلُّ هذه العلاقات بالإضافة إلى أنَّها أضافت كثيرًا إلى رصيده الثَّقافي، فقد أثْرَتْ عنده الأبعاد الاجتماعيَّة، خاصَّة أنه أديبُ أطفال، يَمْلك رهافة حسٍّ وقوَّة ملاحظة، شأنه شأن كلِّ أدباء الطِّفل الذين يجيدون رَصْد كلِّ ما حولهم من الأمور التي قد لا يلتَفِت إليها كثيرٌ من النَّاس، و"شعراوي" أتى من أقصى جنوب مصر بلونه الأسمر وملامحه النوبيَّة الإفريقيَّة، ولم يَشْعر أن هذا اللَّون وهذه الملامح كانت حائلاً بينه وبين أقرانه، وهو يؤكِّد على هذه المعاني في كلِّ أشعاره سواء كانت للكِبار أم للصِّغار، وكما قال في قصيدة (يا نبي):
أَنَا نُوبِيٌّ وَفِي نُوبِيَّتِي
شِفَةُ الزَّنْجِ وَأَنْفُ الْحَبَشِيّ
يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ عَلَّمْتَنِي
أَنَّ فِي الأَجْنَاسِ لاَ فَضْلَ عَلَيّ
وهذه المعاني الإسلامية النبيلة، هي التي يؤكدها "شعراوي" في كتابته للأطفال عندما يقول:
مَا فَرَّقَتْ مِنَّا الأَلْوَانْ
وَإِنْ تَعَدَّدَتِ الأَوْطَانْ
فهو صادق مع نفسه، ويعبِّر عن مكنوناته بدون تحفُّظ، وما يقوله للكبار بالمستوى اللُّغوي المتين، يقوله أيضًا للأطفال بالأسلوب اللُّغوي الذي يُناسبهم ويتوافق مع مدارِكهم واهتماماتِهم.
وإن كان في قصيدة "يا نبي" يستمدُّ البلاغة النبويَّة، كما في قوله:
أَنَّ فِي الأَجْنَاسِ لاَ فَضْلَ عَلَيّ
فإنَّ نفس المعنى هو ما صاغه بأسلوب مبسَّط للأطفال عندما قال:
فَهَكَذَا شَأْنُ الأَدْيَانْ
تُحْيِي الإِخَاءَ بِكُلِّ زَمَانْ
وإذا كان تعدُّد الأمكنة لم يؤثِّر على العلاقات الطيِّبة بين أبناء الأُسْرة الواحدة في الأُمَّة العربيَّة والإسلاميَّة، فإنَّ تعاقُبَ الزَّمان أيضًا لا يُفْسِد هذه العلاقاتِ الأخويَّة.
وفي قصيدة عن حرف (الياء) في الجزء الرَّابع من هذه السِّلسلة، نجد كلَّ معاني الوُدِّ الأسري المتبادَل؛ حيث إنَّ القصيدة عنوانها (أبي)، ومحورها ذلك الأب العطوف الذي يهتمُّ بتربية ولده صحيًّا ودينيًّا، فيغذِّي جسمه ويغذِّي فهمه، ويعلِّمه الصلاة والصيام، وحُبَّ الأدب والدِّين والاختراع، والناس جميعًا.
وقد أتيتُ بهذه القصيدة من موضعها في نهاية الحروف (الياء)، وقرَنْتُها مع قصيدة حرف (الألف)؛ للتوافق الموضوعيِّ بينهما، ومع نسيج الأسرة التي يسعى "شعراوي" إلى توطيد أواصر الصِّلَة بين أبنائها، وتقوية وشائج الارتباط بين أفرادها، و"شعراوي" في هذه القصيدة، وكأنه يطمئن الصِّغار أن الأب مصدرٌ رئيسي من مصادر الحنان والعطف، حتَّى وإن بدَتْ عليه أحيانًا بعض ملامح الغضب والثورة، فالأب هو القدوة وهو المعلِّم الأول لأبنائه:
وَهْوَ بِعِلْمِهِ يُغَذِّي فَهْمِي
وَلَيْسَ يَنْسَى أَنْ يُغَذِّي جِسْمِي
حَنَانُهُ غَيْرُ حَنَانِ أُمِّي
فِي رِقَّةٍ قَدْ غُلِّفَتْ بِالْحَزْمِ
وهذه الأبيات - رغم قِلَّتها - لها مدلولاتٌ كثيرة؛ فهي من ناحيةٍ تؤكِّد أنَّ الأسلوب التربويَّ الذي نشأ عليه جيل "إبراهيم شعراوي" في ريف مصر في بدايات القرن العشرين، كان هو الأسلوبَ الأمثل الذي ترك بصماتِه واضحةً في نفوس الأبناء، ومن ناحية أخرى، توضِّح أن التنازل عن الاهتمام الفطريِّ بالطُّفولة كان سببًا مباشرًا في التفكُّك الأسري الذي يعاني منه بعض المجتمعات المدنيَّة الحديثة، ولذلك فإنَّ "شعراوي" يُحاول بكلِّ طاقته أن يحفظَ تلك العلاقة الأسريَّة مِن عبث الأيام، فيشبِّه الأب بالبستان الذي فيه الزُّهور والعطور التي تعطي للحياةِ جمالَها وعبيرها:
كَأَنَّهُ حَدِيقَةٌ لِلزَّهْرِ
يَسِيلُ فِيهَا سَلْسَبِيلُ العِطْرِ
والطبيعة الخلاَّبة التي تُداعب خيالات الطِّفل، ما كان لها أن تغيب في إبداعات "شعراوي" الَّتي صاغها للأطفال، فنجد أغنية "البلبل" في قصيدة عن حرف "الباء"، كما نجد حديثًا عذبًا عن "الزهرة والفراشات" في قصيدة عن حرف "التاء"، وذلك في الجزء الأول، وفي هذه القصيدة إظهارٌ لقيمة الاجتهاد والعمل، بأسلوبٍ يناسب الطفل تمامًا؛ فهي تتحدَّث عن فراشاتٍ تبحث عن زهورٍ لتمتصَّ رحيقها، والفراشة التي ظلَّت تطير هنا وهناك هي التي وجدت زهورًا كثيرة، وحقَّقت أملَها في الخير الوفير:
مِنْ زَهْرِ التِّينِ، وَزَهْرِ التُّوتْ
مَنْ يَبْذُلْ جُهْدًا يَجِدِ القُوتْ
يَا صَحْبِي، وَالكَسْلاَنُ يَمُوتْ
ثم تُطالعنا في الجزء الثالث قصيدةٌ في حبِّ الوطن والانتماء إليه في قصيدةٍ على حرف "الضَّاد" وعن البطولة والفداء في قصيدة "الجنديِّ المجهول" على حرف "القاف"، وفي الجزء الرَّابع نجد قصيدةً عن الصَّداقة، ومميِّزات التَّعاوُن بين الأصدقاء في قصيدةٍ عن حرف "الواو"، حتَّى الفكاهة والتَّسامُر لها مساحةٌ معقولة، كما في قصيدةٍ عن حرف "الجيم" في الجزء الأول عن (المهرِّج) المشهور بكثرة دعاباته وحكاياته بعنوان "جحا والجحش المغنِّي"، هذا بالإضافة إلى كثيرٍ من القصص المشوِّقة في مختلِف الأمور التي تدعم مسيرة الارتقاء بمفاهيم الأطفال، وتنميتها، بما يتوافَق مع الهُوِيَّة العربية الإسلاميَّة، وأصالتها وأخلاقياتها.
وهكذا نجد أنَّ الأديب الشاعر "إبراهيم شعراوي"، قد سلك كلَّ السُّبل التي توصِّل إلى قلوب الأطفال، من خلال سِفْرِه الأدبي القيِّم "حكايات وأغانٍ على حروف الهجاء"، ملتزمًا الجانب الأخلاقي، ومتمسِّكًا بالمنهج الإسلامي القويم.
[1] من كتاب " أشتات مجتمعات في اللغة والأدب " عباس محمود العقاد ص 43.
[2] رواه الترمذي.
[3] من كتاب "النصِّ الأدبي للأطفال"؛ للدكتور سعد أبو الرضا، مطبوعات رابطة الأدب الإسلاميِّ العالمية.
ابو وليد البحيرى
مشاهدة ملفه الشخصي
البحث عن المشاركات التي كتبها ابو وليد البحيرى