الإيمان وأثره في النفوس[1]
الشيخ طه محمد الساكت
والعلامة الثالثة والرابعة: الصدق والمراقبة، وإن شئتم فقولوا: (الإخلاص والمحاسبة)، ترون المؤمن صادق القول وصادق الفعل؛ لا يَكذِب إذا حدَّث، ولا يُخلِف إذا وعد، ولا يخون إذا اؤتمن، ولا يَغدِر إذا عاهَد، يُعطي لله ويَمنع لله، ويحبُّ لله، ويُبغِض لله، قد أحبَّ الله وأحبَّه الله؛ كما أخرج أحمد والطبراني والبيهقي في شُعَب الإيمان عن معاذ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله تعالى: وجبتْ محبَّتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتباذلين فيَّ، والمتزاورين فيَّ))، ترون المؤمن صادق النية، طاهر السريرة، لا يأتي باطنًا ما لا يرضاه ظاهرًا، ولا يفعل سرًّا ما يَستنكِره جَهْرًا، لا يُشرِك بعبادة ربه أحدًا؛ لأنه علِم أن ربه أغنى الأغنياء عن الشرك، فخاف الرياء خوف العبد الذليل، لربه العَلِي الجليل, أن يُحبِط عملَه ويَكِله إلى مَن سواه، فهو يُخلِص لربه سرًّا وجهرًا، وليتَّهمْ على إخلاص نفسه، ويرى أنه لو رأى الإخلاص منها لراءى، ولو راءى لذهب عملُه هباءً، وما أحوجنا إلى الإخلاص - أيها السادة - في زمن كَثُرت فيه المظاهر، واجتمعت الناس فيه على الظواهر، واغتروا بأنفسهم لما خدعتهم، وغرُّوا غيرهم بزينتهم لما فتَنتهم، وظنُّوا أنهم يُعجِزون العليم الخبير الذي: ﴿ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [المجادلة: 7]، وهو سبحانه في الدنيا فاضحهم ومُخزيهم ومُطلِع هؤلاء الذين غرُّوهم على خبْث نواياهم، وقُبْح طواياهم.
ما أحوجنا إلى الإخلاص - أيها السادة - في زمن تتابعت فيه الفتنُ، وتوالت فيه المحن، وعاد فيه الدِّين غريبًا كما بدأ، وكأنه الذي عناه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم؛ إذ يقول فيما أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي ثَعْلبة: ((ائتمروا بالمعروف، وانتهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتم شُحًّا مُطاعًا، وهوًى مُتَّبعًا، ودنيا مؤثَرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، ودع عنك أمرَ العوام، فإن مِن ورائكم أيامًا، الصبرُ فيهنَّ كالقبض على الجمر، للعامل فيهنَّ مِثْل أجر خمسين رجلاً يعملون مِثل عملكم))، وكأن ما نحن فيه من الفتن هو ما عناه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ يقول فيما أخرجه مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((بادِروا بالأعمال فِتنًا كقِطَع الليل المُظلِم، يُصبح الرجل مؤمنًا ويُمْسي كافرًا، ويُمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعَرَض من الدنيا)).
المؤمن يتَّقي الله ويخشاه، ويعلم أن مَن صدَق الله صدقه، ومَن حفِظ الله حفظه، ومن تعرَّف إليه في الرخاء عرَفه في الشدة، وأن مَن توكَّل عليه كان حسْبه ووكيله، وكفى بالله وكيلاً وكفى بالله حسيبًا، يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإنه يعلم سرَّه ونجواه، فيستحي منه حق الحياء، ويتأدَّب معه حقَّ الأدب، ثم هو بعد هذا كله يخاف عقابه، ويرجو ثوابه، ولا يأمن مكره؛ لأنه لا يأمن مكرَ الله إلا القوم الخاسرون، وكيف يأمن مكْر الله وهو لا يدري أتفضَّل الله عليه فقَبِل عملَه، أم سبق في عِلْمه أن يردَّه عليه، وإذا كان إمام المتقين وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم يقول فيما أخرجه البخاري: ((لن يُدخِل أحدَكم عملُه الجنةَ))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا إلا أن يتغمَّدني الله برحمته)).
وإذا كان أبو بكر رضي الله عنه على جلالة قَدْره وعُلوِّ مكانته يقول: "لو وضعتُ إحدى قدميَّ في الجنة والأخرى خارجها، ما أَمِنتُ مكرَ الله ألا أدخلها"، فكيف يرى المؤمن الصادق لنفسه عملاً يضمن عليه جزاءً؟ يؤمن بقول الله: ﴿ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 30] إيمانًا حقًّا، ويَعتقِد أن الله أرحم بعبده من الأم الحنون بولدها، ولكن لا يرى نفسه قد أحسنت عملاً وتَستحِق عليه أجرًا.
وربما يَخطُر على بال الكثيرين منكم أن هذه الصفات لا تتحقَّق إلا فيمن انقطع عن الدنيا وتفرَّغ للآخرة، فكيف يَعزُب عنكم أن الدنيا مطيَّة الآخرة والوسيلة إليها؟ وكيف يكون العبد صبورًا شكورًا إلا إذا تقلَّب بين نوائبها فصبر، وأصيب من هناءة عيشها فشكر؟ والدنيا التي تَصلُح للمؤمن ويَصلُح المؤمن لها، هي التي يستعين بها على الآخرة، ويتوسَّل بها إلى السعادة الحقة، فأما التي يتكالب عليها الناس لقضاء مآربهم وإشباع شهواتهم، فالمؤمنون برآء منها وأعداء لها.
وكم من هؤلاء الصادقين مَن أقبلت عليه الدنيا بخيلها ورَجِلها، فلم تُلْهه عن آخرته، ولم تَشغَله عن طاعته، بل كانت له عونًا عليها وخادمًا، وحسبنا بالسابقين الأولين ومَن اهتدى بهديهم شاهدًا، ﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ [النور: 37].
وخاتمة القول في علامات المؤمنين الصادقين: أنهم لا يحزنهم المنعُ، ولا يبطرهم العطاء، ولا تَشغَلهم النعمة عن المُنعم، ولا يَمنعهم ثناء الناس عليهم أن يَستزيدوا من أعمال البِرِّ ويُسارِعوا إليها، وأعمالُهم - على إخلاصهم فيها - لا تحول بينهم وبين أنفسهم أن يتَّهِموها ويستقصروها، وبين الله - جل وعلا - أن يخافوه ولا يأمنوا مكْره، إلا أنهم إذا دنا الأجلُ، وانقطع الأمل، وظنُّوا أنهم ملاقو ربهم، تهلَّلوا واستبشروا، وأحبُّوا لقاءَ الله وظنُّوا به خيرًا، وأيقنوا أنه عند ظنهم به، وقد أحب اللهُ لقاءهم، وكان عند ظنِّهم؛ فأمَّن خوفهم، وحقَّق رجاءهم، وأقرَّ بالبِشارة عيونهم وأمتع قلوبَهم ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ﴾ [فصلت: 30 - 32].
3- أثر الإيمان وآثار المؤمنين: قدَّمنا أن الإيمان يبدو لمعة بيضاء، فإذا عمِل العبدُ الصالحاتِ، نَمَت فزادت حتى يبيضَّ القلبُ كلُّه، فإذا ابيضَّ القلبُ دخل العبدُ في عِداد المؤمنين الكاملين، وماذا تنتظرون ممَّن شرحوا بالإسلام صدرًا، وامتلؤوا به يقينًا، وكانوا على نور من ربهم، ورُشْد من أمرهم؟
ألستم تَرجون منهم طهارةَ القلب، وسلامة الصدر، وحبَّ الخير وأهله؟ فلا حقد ولا حسد، ولا بُغْض ولا عداوة، ولا فُحْش في القول، ولا رياء في العمل، ولا تعاون إلا على البِرِّ والتقوى لا الإثم والعدوان.
تلك بعض آثار الإيمان بين المؤمنين الكاملين، بل قولوا إن شئتم: إنها بعض شُعَب الإيمان الذي يصدق صاحبه ويدخل في الصَّالحين.
غير أن هناك آثارًا لهؤلاء المؤمنين يَعُم خيرها البلادَ، وتَسعَد بها العباد، ويَنعَم العيش في الدنيا، وتتم السعادة في الآخرة.
ذلك أنهم أحبُّوا الله فجاهدوا فيه حقَّ جهاده، فنشروا الدِّين وآدابه، بأفعالهم قبل أقوالهم، وكانوا كالبنيان يَشُد بعضه بعضًا، فلم يجد أعداء الدين فيهم منفذًا يَصِل منه إليهم، بل بسطوا سلطانهم على أعدائهم، وكانت لهم السيادة العُليا عليهم، كانت الدنيا في قبضة أيديهم، والسعادة تحت أقدامهم، والخير والعدل معهم أينما كانوا وحيثما حَلُّوا، سبيلهم قويمة، وخُطَّتهم حكيمة، وسماؤهم مُغدِقة، وأرضهم مباركة، للفقير حق معلوم، وعلى الغنيِّ سَهْم محتوم، إن مَسَّ أحدَهم ضرٌّ مسَّ الجميعَ؛ لأنه عضو من جسم واحد، وإن أصابه خير أصاب الجميع؛ لأنه فرد من أسرة واحدة، فهل ترون سعادة أتمَّ من هذه السعادة؟ ونِعمة أوفى من تلك النعمة؟ ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97].
أيها السادة:
ما بالنا قد ضللْنا الطريقَ وهي واضحة، وأخطأنا السعادة وهي قريبة، وأصبحنا وأمسينا في لغوٍ من القول وبُعْد عن العمل، وكأن بيننا وبين الإخلاص سدًّا منيعًا، وحجابًا كثيفًا؟!
أحبتنا، إن السعادة تُثمِرها ألفاظ تُردِّدها الألسنة، وتخلو من معناها الضمائر، أم غفلنا عن أولئك الذين نصروا الله فنصرهم، وعمَّا أبلَوا في دين الله من البلاء الحسن، وما أوذوا فيه من الإيذاء البليغ؟!
نعم، نسينا كلَّ ذلك، ونسينا أنهم بذلوا المهجَ وأنفقوا النفوسَ، وفارقوا الديار والأوطان والأموال والأولاد، وتحمَّلوا مرارة النَّوى، والبيات على الطوى؛ غَيرةً على دينهم أن يُهان، وحبًّا في إعلاء شأن الإسلام، بل نسينا أننا أُسَراء إحسانهم، وصنائع معروفهم، ووُرَّاث ما خلَّفوا من مجدٍ بَنَوْه، وفضْل نشروه، على بُعْد ما بين السَّلف والخلف، وتَبايُن الوارث والموروث.
ولو أننا ذكرنا من ذلك شيئًا، ما أشقينا أنفسنا بأيدينا، وأضعنا بناء قام على كواهلهم، وشرفًا أُريقت فيه دماؤهم.
وهل تقوم لنا قائمة أو يصلح لنا شأن إلا إذا نبذْنا الرياءَ جانبًا، وأقبلْنا على شؤوننا بعزيمة وقوة، ورددنا تاريخ مجدِنا ومَن أسَّسه، فاقتفينا آثارهم وانتهجنا سبيلَهم، ورعينا الدين رعايتهم، وجاهدنا فيه جهادَهم؟ هنالك نُهدَى الطريق، ونَصِل إلى الغاية، ونفوز بالسعادة، ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].
[1] أُلقِيت في مساء الاثنين 20 من رجب سنة 1350، 30 من نوفمبر سنة 1931.
[2] اغترَّ بعض الغافلين بأناس طأطؤوا رؤوسهم، وخَفَتوا أصواتهم، وتكلَّفوا مظهر الصلاح والورع، وهم في الحقيقة مَن عثوا في الأرض فسادًا، وأضرُّوا أنفسهم ومَن اغتروا بهم بستار التمويه والتضليل والخداع والرياء، ذلك الستار الذي جعلوه حجابًا بينهم وبين الناس أن يَطَّلِعوا على خبثهم فيَفضحوهم ﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 9]، هؤلاء ليسوا مؤمنين إلا في نظر السَّذَجة المفتونين، والبُله الغافلين؛ إذ ليس الإيمان ظواهرَ مصطنعة، ولا أعمالاً مُتكلَّفة، ولا أثوابًا نُسِجت على منوال الرياء والخداع؛ وإنما الإيمان استواء السرِّ والعَلَن، وسلامة الصدر، وطهارة القلب، والحياء من الله في كل مكان، والخشية منه في كل آن ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الأنفال: 2 - 4].
[3] ما دخَل مِن باطن القدم فلم يصب الأرض.
[4] قال أبو السعود: الصائمون؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((سياحة أمتي الصوم))، شبِّه بها لأنه عائق عن الشهوات، أو لأنه رياضة نفسانية يتوسل بها إلى العثور على خفايا الملك والملكوت، وقيل: هم السائحون في الجهاد وطلب العلم ا. هـ.