عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 04-06-2015, 02:19 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
العمر: 61
المشاركات: 4,132
معدل تقييم المستوى: 15
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

الفائزون في رمضان



الشيخ إبراهيم الدويش


هذه الصور وهذه المواقف، وقفتُ عليها بأمِّ عيني، فإلى هذه الصور:
الصورة الأولى: في صلاة التَّراويح والقيام:
كنتُ في طريقي لأحد المساجد لصلاة التراويح، وقبل الأذان بِدَقائق، مَرَرْت بمسجد آخر، ورأيت ذلك الرَّجل الكبير، يَتَّكِئُ على عكازتينِ، ويدب على الأرض بِمهل شديد، يسحب قدميه فتخط في الأرض خطًّا، وكان واضحًا أن المرض أنهكه، وأن التَّعَب بلغ منه مبلغه، ومع ذلك خرج، لماذا؟

خرج من أجل صلاة الجَمَاعة، ومِن أجل صلاة التراويح، فذكرتُ عندها قول ابن مسعود - رضي الله عنه - وفيه: "ولقد كان الرجل يؤتى بها يُهَادى بين الرَّجُلين[7]، حتى يُقَام في الصَّف" [8]، ولا أنسى تلك العجوز، محدوبة الظهر، متقاربة الخطا، مُتَسارعة الأنفاس، وهي تزحف إلى المسجد زحفًا، والعجب أنها صَلَّت واقفة، رفضتِ الجلوس.


إيه، أيتها النفوس، أين أنت وهذه الصور، أليس ذلك معتبر؟ فما ملكت نفسي إلاَّ ودمعة تسيل على الخد، وأنا أُرَدِّد اللهُمَّ أَعِنْها، اللهُمَّ يَسِّر عليها، اللهم تَقَبل منها، اللهم إن لم يكن هؤلاءِ منَ الفائزين برمضان، فمَنْ؟


أهمُ الكُسَالى من أصحاب السواعد الفتيَّة؟ فأين أنتَ يا بن العشرين؟ أين أنت يا بن الثلاثين والأربعين من هؤلاءِ؟


هذه صور وما أكثر صور تلك الآباء والأمهات، الذين تعجب مِن حِرْصهم، رغم الأيدي المرتعشة، والعِظام الواهنة؟


واللهِ إنَّ الإنسان لَيَحْتَقِر نفسه وعمله، وهو يرى هؤلاءِ الكِبار مِن رجال ونساء، وكيف يتحامَلُون على أنفسهم على عجز، وثقل، ومرض، وَلأْوَاء، ومع ذلك قلوبُهم مُتَعَلِّقة بالمساجد، فهم - إن شاء الله - في ظِلِّ الله يوم لا ظِل إلاَّ ظِله، كما في حديث السَّبعة [9] - وربَّما أصاب الإنسان منا التَّعَب والإرهاق في صلاة التَّراويح والقِيام، فإذا شاهد هؤلاءِ الآباء ونشاطهم على ما هم فيه، كأنما نشط من عقال، أفلا تسجل مواقفهم، وتسطر لِيَعِيَها الأجيال؟ اللهُمَّ تقبَّل منهم، واجْعَلهم منَ الفائزين برمضان؟


الصورة الثانية:

رجل وَسَّع الله عليه بِمَاله، وحسن سمعته، ودماثة خلقه، فهو ينفق إنفاق مَن لا يخشى الفقر، ذات يوم بحثتُ عنه عصرًا في رمضان، توجهت إلى محلاته فلم أجده، سألتُ عنه، فلم أجد جوابًا، فقيل لي: ربما وجدته في الجامع، دخلت الجامع فوجدت العجب، وجدت الموائد ممدودة بالطول والعرض، حتى أنك لا تجد مكانًا لموضع قدميك، وفيها ما لَذَّ وطاب من أنواع المأكولات.

بحثت عن صاحبي وجدته يصول ويجول بين تلك الموائد، لحظات قبل الغروب، فإذا بمئات من المسلمين الصائمين تَتَوَافد على الجامع من كل صوب، ألفًا أو يزيدون.


قلتُ: سبحان الله في الوقت الذي انشغل أهل الأموال بِبَيْعهم وشرائهم، فعصر رمضان موسم تجاري لا يعوض.


أمَّا هذا الرجل فهو في تجارة أخرى، تجارة مع الله، فلم يكفه أن دفع المال لتفطير الصائمين؛ بل وقف بنفسه وعمل بيده، ولم يعتذر يوم أن دعيَ للإنفاق في مشروع ثانٍ، بل وثالث ورابع... وعاشر من تلك المشاريع الخَيِّرة، التي يَتَسابَق فيها أهل الخير والصلاح، مما لا نعلمه؛ ولكن الله يعلمه، عنده ذكرت حديث أبي كبشة، عمرو بن سعد الأنماري، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ثلاث أقسم عليهنَّ، ما نقص مال عبد مِن صدقة))[10]، الحديث.


حَدَّثت صاحبي هذا، والأنس والبشر على محياه، يعلم الله ما فقدت الابتسامة من وجهه يومًا منَ الأيام، الجميع يشهد له بالفضل، والإحسان، والوَرَع، وحسن الخُلُق، وكَثْرة العِبادة، هكذا نحسبه ولا نزكي على الله أحدًا.


خرجتُ منَ الجامع بِصُعوبة بالغة؛ لكثرة الحاضرين منَ الصائمين والمساكين، خرجت وأنا أرددت عند الغروب: اللهُمَّ تَقَبل منه، اللهُمَّ وَسِّع عليه في ماله وولده، اللهُمَّ بارك له وَزِدْه، وأعطه ولا تحرمه، فإن لم يكن هذا منَ الفائزين برمضان، فمَن إذًا؟ هل هم الذين يكنزون الأموال ويقبضون أيديهم؟


عندها تَذَكَّرتُ حديثًا لأسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لاَ تُوكِي فَيُوكَى عَلَيْكِ))[11]؛ أي: لا تمنعي ما في يدكِ خشية النفاذ، فيقطع الله عليك مادة الرِّزق.


وذكرت قول الملكين اللذين ينزلان في كل صباح، فيقول أحدهما: ((اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تَلَفًا))[12].


وذكرتُ قول الحق - عَزَّ وجَلَّ - كما في الحديث القدسي: ((أنفق يا بن آدم، ينفق عليك))[13]، وحديث: ((أنفق يا بلال، ولا تخشَ من ذي العرش إقلالاً))[14].


ولا شك أنَّ الموفَّق مَن وَفَّقه الله - عَزَّ وجل - علمًا بأنَّ هناك مَن تذهب نفسه حسرات، أن لو كان يملك لينفق ويتصدق؛ ولكنه لا يجد القليل فينفقه مع أنه أحوج الناس إليه.


وبعضهم يسمع عن هذه الفضائل، فلا يجد ما يَتَصدق به سوى الدمعة تسيل على الخدينِ أن لو كان ذا مال فيتصدق... عندما ذكرت قول الحق - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 91، 92].
يتبع


رد مع اقتباس