الفائزون في رمضان
الشيخ إبراهيم الدويش
الصورة الخامسة:
في العَشْر الأَوَاخر، وفي صلاة القيام في آخر الليل، وفي جلسة الاستراحة، أنظر للمصلين وأحوالهم.
هذا يقرأ القرآن، وهذا لسانه يلهج بالذكر والاستغفار، وذاك رفع يديه بالدعاء وعلامات الانكسار، والتَّذَلُّل على محياه، ورابع قد سالت دموعه على خَدَّيه، وخامس يركع ويسجد، وسادس يغالب النوم، هجر فراشه وحرم عينيه.
أَرْوَاحُهُم خَشَعَتْ للهِ فِي أَدَبِ قُلُوبُهُمْ مِن جَلالِ اللهِ فِي وَجَلِ
نَجْوَاهُمُ رَبَّنا جِئْنَاكَ طَائِعَةً نُفُوسُنا وَعَصَيْنَا خَادِعَ الأَمَلِ
إِذَا سجى اللَّيْلُ قَامُوهُ وَأَعينهُمْ مِن خَشْيَةِ اللهِ مِثْل الجَائد الهَطِلِ
هُمُ الرِّجَالُ فَلاَ يَلهِيهُمُ لَعِبٌ عَنِ الصَّلاةِ وَلاَ أُكْذُوبة الكَسَلِ
رياح الأسحار تحمل أنين المذنبين، وأنفاس المحبين، وقصص التائبين، شابٌّ في زاوية منَ المسجد وقد عرفته بِفِسْقه، وشدة غفلته، وضع وجهه بين يديه، والدَّمع يسيل على خَدّيه، وقد أجهش بالبكاء، لعله تلطخ بمعصية، أو تذكر ما سلف من الذنوب والمعاصي.
أَثَارَ التَّذَكُّر أَحْزَانَهُ فَثَارَ وَأَبْدَى لَنَا شَانَهُ
وَقَامَ وَسِتْر الدُّجَى مُسْبَلُ فَأَسْبَلَ بِالدَّمْعِ أَجْفَانَه
وَبَكى ذُنُوبًا لَهُ قَدْ مَضَتْ فَأَبْكَى عَدَاه وَخِلانَه
وَمَنْ لَمْ يَكُنْ قَلْبُهُ جَمْرَةً فَهَذَا لعَمْرُكَ قَدْ كَانَ هُوْ
ومَن ذَا أَحَق بِهَا مِنْ جَهُول تَحَقَّق للهِ عِصْيَانُه
وأَخْلَق في اللَّهْو جُسْمَانه كَمَا أَخْلَق الذَّنْب إِيمانُه
فَلَوْلا تَفَضّلُ مَنْ فَضْلُه عَرَفْناه قدمًا وَعِرْفَانَهُ
لعنى [18] عَلَى وَجْهِه أية تَكُونُ عَلَى الخِزْي عُنْوَانهُ
شدني إليه شدة مناجاته لربه، علم أنَّ له ربًّا يغفر الذنب فاستغفره، أسرع يقرع الباب لعلمه أن الله سريع الحساب، فذل، وانكسر لغافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، تمنيت لو ضممته وقلت له: هنيئًا لك بالتَّوبة والاستغفار.
هنيئًا لك بِعَيْنَيْك اللتينِ ذرفتا الدموع من خشية الله، هنيئًا لك بصيامكَ وقيامك، تمنيت لو ذكرته بقول الحق - عز وجل -: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
يَا رَبِّ عَبْدُكَ قد أَتَاكَ وَقَدْ أَسَاءَ وَقَدْ هَفَا
يَكْفِيهِ مِنْكَ حَيَاؤُه مِن سُوءِ مَا قَدْ أَسْلَفَا
حَمَل الذُّنوبَ عَلَى الذُّنوبِ المُوبِقَاتِ وَأَسْرفَا
وَقَدِ اسْتَجَارَ بِذَيْلِ عَفْوِكَ مِنْ عِقَابِكَ مُلْحفَا
يَا رَبِّ فَاعْفُ وعَافِهِ فَلأَنْتَ أَوْلَى مَنْ عَفَا
وأسأله - سبحانه وتعالى - وهو صاحب الفضل والمن - أن يلحقك بِرِكاب الفائزين برمضان.
الصورة السادسة:
حريصة على صغارها، فهي معهم ترقبهم وتلحظهم، تعلم هذا، وتوجه ذاك، ومع هذا فقلبها يهفو لصلاة التراويح ومع المسلمين، لكن هيهات، فتُصَلِّي في بيتها.
تريد أن تَخْشعَ، وأن يَرِقَّ قلبها، أن تشعر بِلَذَّة المُنَاجاة لِرَبِّها؛ لكن الأصوات والضَّحكات والتّعَلُّق بثوبها من صغارها حرمها كل ذلك، فما ملكت سوى الدمعات والعبرات على ليالي رمضان.
ثم جاءت العشر الأخير، فإذا بها تُهَدْهِد صبيانها وتخادع صغارها حتى ناموا، ثم قامت فانسلت في هدوء وحذر، فجَهَّزَتْ سحورها، ورَتَّبَتْ أمورها، ثم توضأت وتلحفت بِجِلْبابها، ثم سارت إلى مسجد حَيِّها والظلام يلفها، فركعت وسجدت، وقامت فَبَكَتْ وخشعت، وربما تذكرت صغارها، فرجعت وصلت في بيتها وبجوار صغارها، وهي تسمع صوت الإمام يردد: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 60، 61].
فقلتُ لها: أبْشِري - أيتها الصالحة - أنتِ على خير؛ لكن احرصي وأخلصي، واحْتَسبي الأجر على الله، ولن يخيب ظنك، وهو أعلم بحالك، ثم إني أهمسُ إليك بهذا الحديث: ((مَنِ ابتلي من هذه البنات بشيء، فأحسن إليهن، كن له سترًا منَ النار))[19].
فأسأل الله اللطيف المَنَّان أن يجعلكَ منَ الفائزين برمضان، فإن لم تكونِي أنتِ فمَن؟ أهيَ تلك الولاجة الخراجة الجوالة في الأسواق، التي لم ترع حق ولد ولا تلد؟ أم تلك السافرة الساهرة أمام الأفلام والمسلسلات العاهرة؟!
فَكَمْ بَيْنَ مَشْغُولٍ بِطَاعَةِ رَبِّهِ وَآخَر بِالذَّنْبِ الثَّقِيلِ مُقَيَّد
فَهَذَا سَعِيدٌ بِالجِنَانِ مُنَعَّمُ وَذَاكَ فِي الجَحِيمِ مُخَلَّدُ
كَأَنِّي بِنَفْسِي فِي القِيَامَةِ وَاقِفُ وَقَدْ فَاضَ دَمْعِي وَالمَفَاصِلُ ترعَدُ
ثناء لِتِلْك المَرأة الصالحة التي عرفت فضائل هذا الشَّهر، فحرصت على استغلال ساعاته، فهي محافظة على الصَّلوات في أوقاتها، جالِسة بعد الصَّلوات في مُصَلاها، تقرأ القرآن، ثم إلى الذِّكر والتَّسبيح والتَّهليل، والتَّكبير والتَّحميد.
وتقديرٌ لها يوم أن كانت خلف كل عمل صالح في بيتها، فهي خلف أبنائها وإخوانها بالمُحافظة على الصَّلوات، فتوقظ هذا، وتنبه ذاك، وهي خلفهم تدفعهم وتشجعهم لقراءة القرآن، وصلاة القيام، وصيام رمضان، تلهب الحماس، وتُقَوي العزائم، بالكلمة الطيبة تارة، وبالشريط النافع تارة، وبالهدية المشجعة تارة أخرى.
ووفاء لتلك الزَّوجة الوفيَّة يوم أن كانت لزوجها حقًّا وفيَّة، أصبحت وجه سعد على زوجها، أنارتْ جَنَبات بيتها، فهي وراء زَوْجها بالتَّذكير والتَّنبيه إن نام أو غفل، وهي مُعِينة له إن ذكر، فلا تقطع عليه ساعات الطاعة في ذلك السَّهر بِكَثرة طلباتها، ولا تُعَرّضه لِفِتن المتبرجات السافرات في شهر الفضل والإحسان، وفي أعظم الأيام "العشر الأواخر" بِكَثْرة دخولها وخروجها للأسواق.
وهي وفيَّة لِزَوْجها يوم أن قالتْ: إنَّ الذِّكر وقراءة القرآن واستغلال رمضان، لا يجتمعان أبدًا في بيتٍ مع ملاهِي الشيطان، فقُم وتوكّل على الله، وطهر البيت لتحل علينا ملائكة الرَّحمن، ويرحل مَرَدة الجانّ، وما هيَ إلا عزيمة وإرادة، وخوف وتوبة، ومَن ترك شيئًا لله عَوَّضه الله خيرًا منه.
وإعجاب وإكبار لك - أيُّتها الصالحة - وأنت في المدرسة والعمل، فها أنت قد حرصت كل الحرص على إتقان العمل وإخلاصه لله ليتم صومك، فأنت تخافين من خيانة الأمة التي وكلها الله لك.
فكلنا إعجاب وإكبار يوم أن جاءت بناتنا وأخواتنا ليُحَدثن أنك تكلمت عن فضائل هذا الشهر، وكيفية استغلاله والحرص عليه.
وأنك قُمت بِوَضع مسابقة رمضانيَّة لتَفقيه الطالبات بأحكام الصيام.
وأنك أهديت لكل واحدة منهن شريطًا لتعليم آداب الصيام وأحكامه.
وأنت ما تفتئين تذكرينَ بثمرة الصيام وسره العظيم تقوى الله، ومراقبته في السر والعلن، وأنها العبادة الوحيدة التي خصها الله لنفسه؛ لأنها عبادة خفية بينك وبينه، فلا أحد يعلم عن حقيقة صومك.
إنك - أيتها المخلصة - لا تَتَصَوَّرين عظيم فرحتي، وأنا أسمع هذه الكلمات تَتَرَدَّد على ألسنة البنات.
إعجاب أُسَطِّره لك - أيتها المعلمة - وأنا أرى أختي وابنتي، وقد حرصن على الصيام في رمضان، وعلى الصلاة والقيام وكثرة الأعمال، فيحضرني قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الدال على الخير كفاعله))[20]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فوالله، لئن يهدي الله بك رجلاً واحدًا، خيرٌ لك من حمر النعم))[21]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ومَن سَنَّ في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر مَن عمل بها من بعده)) [22].
فما أملك إلاَّ أن أرفع يدي قائلاً: اللهُمَّ لا تحرم تلك المعلمة أجر تلك الأعمال، فتتوارد الأدعية لك أيتها الصادقة، وتفيض تلك الدمعة لِحُسن رعايتك للأمانة.
وحملك همَّ إصلاح الأخريات، فشكر الله سعيك، وبارك فيك، وأَجْزل لك المثوبة، فأنت أهل لذلك، فأبْشِري بالقبول بإذْن الله، قبول الصيام والقيام والعتق منَ النيران، ودخول الجنان والفوز بِرَمضان.
كل ذلك بِفَضل ورحمة منَ الكريم المنان، ثم بِفَضل ما فعلت وقدمت، ابتغاء وجه الله، وهكذا فلتكن المرأة المسلمة في رمضان.
يتبع