عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 04-06-2015, 08:30 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
العمر: 61
المشاركات: 4,132
معدل تقييم المستوى: 15
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

الواضح في التفسير


(الحلقة الخامسة)



أ. محمد خير رمضان يوسف


الجزء الثاني
سورة البقرة
( الآيات 142 – 173 )

{سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة : 142].

142- أُمِرَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أن يستقبلَ في صلاتهِ الصخرةَ من بيتِ المقدسِ أوَّلاً، فكانَ هو والمسلمونَ على ذلك، ستةَ عشرَ أو سبعةَ عشرَ شهراً، كما في صحيحِ البخاري. وكان عليه الصلاةُ والسلامُ يبتهلُ إلى الله أن يجعلَ قِبْلَتَهُ الكعبة، قبلةَ إبراهيمَ عليه السلام، فأُجيبَ إلى ذلك، فحصلَ شكٌّ وزيغٌ عن الحقِّ من أهلِ النفاقِ والريبِ والكفرةِ من اليهود، وقالوا: ما الذي صرفهمْ عن قِبلتهم الأولى؟ وخاصَّةً أن اليهودَ كانوا يتذرَّعونَ بأن الاتجاهَ إلى بيتِ المقدسِ يعني أن دينَهمْ هو الأصل، وأنه هو الصحيح. فصاروا يُلقونَ بذورَ الشكِّ والشائعاتِ في صفوفِ المجتمعِ الإسلاميّ، حولَ مصيرِ صلواتِهم السابقة، وسببِ الانتقالِ من قِبلةٍ إلى أخرى، بأنه يدلُّ على عدمِ السدادِ، فليس بوحي...!
فسمّاهمُ اللهُ تعالى "السفهاء"، وهم الذين خفَّتْ عقولُهم، وامتهنوها بالتقليدِ والإعراضِ عن التدبُّرِ والنظر، أو أن السفيهَ هو الكذّابُ المتعمِّدُ خلافَ ما يعلم، أو الظلومُ الجَهول. فإن اللهَ تعالى له مطلقُ الحكمِ والتصرُّفِ في الأمر، فلهُ المشرقُ والمغرب، الجهاتُ كلُّها له، فأينما حدَّدَ يتوجَّهُ المؤمنونَ إليه دونَ اعتراض، ما عليهم إلا الطاعةُ وامتثالُ الأمر. والكعبةُ أشرفُ بيوتِ الله في الأرض، فهي بناءُ إبراهيمَ عليه السلام. ويهدي اللهُ من شاءَ من عبادهِ إلى نهجهِ الصحيحِ إذا رأى فيهم نيَّةً وتوجُّهاً إليه، أما السفهاءُ ففي الغيِّ والضلالِ يتخبَّطون.

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [البقرة : 143].

143- وكذلكَ جعلناكمْ –يا أمَّةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم- خيارَ الأمم، لتكونوا بذلك شهداءَ عليهم يومَ القيامة، لأن الجميعَ يعترفونَ بفضلكم، فأنتم الذين تُبلِّغونَ الحق، لأن دينَكم هو الحقُّ من بين أديانِ الأممِ ومذاهبها؛ ولذلك وجَّهكمُ اللهُ إلى قبلةِ إبراهيمَ أبي الأنبياء، وخصَّكم بأكملِ الشرائع، وأقومِ المناهج، وأوضحِ المذاهب. ثم يكونُ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- شهيداً عليكم يومَ القيامة، فيزكِّيكم ويشهدُ بعدالتكم.
وقد كانَ الأمرُ باستقبالِ المسجدِ الأقصى أولاً امتحاناً، ليتبيَّنَ من يطيعُ الله ومن يخالفه، وخاصَّةً أن العربَ كانوا متعلِّقينَ بالبيتِ كيفما كان، وكان التحوُّلُ منه صعباً عليهم، فأرادَ اللهُ أن يصرفَ قلوبَ من أسلمَ منهم إلى الطاعةِ المطلقة، والتخلُّصِ من الرواسبِ الجاهلية، مهما كانَ شأنها، حتى تأخذَ هذه التربيةُ مأخذها من النفوسِ وتتدرَّب على الطاعةِ والامتثال... وهو وإنْ كان عظيماً على النفوس، إلا أنه سهلٌ على القلوبِ المؤمنةِ المهتدية، التي أيقنتْ بتصديقِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وأنَّ ما جاءَ به هو الحقُّ الذي لا شكَّ فيه، وأن الله يفعلُ ما يشاءُ ويحكمُ ما يريد، فما على المسلمِ إلا الطاعةُ والامتثال.
وما كان الله ليُضِيعَ صلواتِكم التي توجَّهتم فيها إلى بيتِ المقدسِ سابقاً، فلا يَضِيعُ ثوابُها عنده، إنه رؤوفٌ رحيمٌ بعباده، يوصلُ إليهم النعمةَ الصافيةَ بفضلهِ ورحمته.

{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة : 144].

144- كان الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- يحبُّ أن يُوَجَّهَ إلى الكعبة، كما في صحيحِ البخاري، فقالَ له ربُّه: لنعطينَّكَ طلبك، ولنمكننَّكَ من استقبالِ القبلةِ التي تحبُّها وتشتاقُ إليها، فحوِّلْ وجهكَ نحوَ المسجدِ الحرام، وحيثما كنتُم أيها المسلمونَ في أنحاءِ الأرضِ جميعاً اتَّجهوا إلى هذه القبلة، إلى أن يرثَ الله الأرضَ ومن عليها.
وإن اليهودَ والنصارى يعلمونَ أن توجُّهَكم إلى البيتِ هو الحقّ، بما في كتبهم من صفةِ النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وأمَّته، ولعلمهمْ أن الكعبةَ هي بيتُ اللهِ الأول، الذي بنى قواعدَهُ واتجهَ إليه إبراهيمُ عليه السلام، ولكنهم لا يقتنعونَ بالأدلَّة، ويكتمونَ ما في كتبهم من علمٍ ولا يُظهرونه، واللهُ ليس بغافلٍ عمّا يعملون، وسوفَ يُجازيهم في الدنيا والآخرةِ على ذلك. وهو سبحانَهُ ليس بغافلٍ عن ثوابِ المؤمنينَ وجزائهم.

{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة : 145].

145- فلو أقمتَ لليهودِ والنصارى الحُجَّةَ تلوَ الحُجَّةِ على صحَّةِ ما جئتَ به، وأيَّدكَ اللهُ بالمعجزاتِ في ذلك، لما تركوا أهواءَهم واتَّجهوا إلى القبلةِ التي ولاّكها ربُّك. ولن تتَّجهَ إلى قبلتهم أيضاً، ولن تتَّبعَ أهواءهم؛ لمتابعتِكَ أمرَ الله، وطلبِكَ رضاه. ولن يتَّبعَ اليهودُ قبلةَ النصارى، ولا النصارى يتبعونَ قبلةَ اليهود، فالعداوةُ بينهما شديدة. ولو أنكَ اتَّبعتَ مرادَهم بعد الذي وجَّهكَ الله إليه ورضيَهُ لك من القبلةِ الحقّ، لكنتَ مؤثراً الباطلَ على الحقّ.
وهو على الفَرَضِ والتقدير، وتحذيرٌ للأمَّةِ من أهواءِ أهلِ الكتابِ وأضاليلهم.

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة : 146].

146- إن أهلَ الكتابِ من اليهودِ والنصارى يعرفونَ محمَّداً -صلى الله عليه وسلم_ وصحَّةَ ما جاءَ به كما يعرفُ أحدُهم ابنَه! وهو مثلٌ يُضْرَبُ في صحَّةِ الشيءِ والتيقُّنِ منه تماماً، فمعرفةُ الابنِ هي قمَّةُ المعرفة؛ وذلك لوصفِ الرسولِ محمَّدٍ –صلى الله عليه وسلم- الدقيقِ في كتبهم، وصفةِ أمَّته، وما إلى ذلك، ومنها القبلةُ التي يتوجَّهونَ إليها. لكنَّ فريقاً منهم مع هذا التحقُّقِ والتاكدِِ في معرفته، يكتمونَ الناسَ ما في كتبهم من ذلك، وهم يعلمونه.

{الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة : 147].

147- فما جاءَ به الرسولُ صلى الله عليه وسلم هو الحقُّ الذي علَّمَهُ ربُّه، لا مريةَ فيه ولا شكّ، فلا تكنْ من الشاكِّينَ في ذلك أيُّها النبيّ.
وهو إيحاءٌ من ربِّ العزَّةِ إلى أمَّةِ محمدٍ –صلى الله عليه وسلم- بعدمِ التأثُّرِ بأباطيلِ اليهود، وبالتنبُّهِ إلى أحابيلهم.

{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة : 148].

148- ولكلِّ أهلِ دينٍ من الأديانِ قِبلةٌ يتوجَّهونَ إليها ويرضونَ بها، ولن يتَّبعوا قبلةَ بعضِهم البعض، فما على المسلمينَ سوى التوجُّهِ إلى عملِ الخير، والتنافسِ في رضا الله، والانصرافِ إلى ما يُفيدُ ويُثمر، والابتعادِ عن شُبَهِ الأعداءِ وأفكارِهم المنحرفة، وإن الله سبحانَهُ سيجمعُ الموافِقَ والمخالِفَ منكم، وإن تفرَّقتْ أبدانُهم، وهو قادرٌ على الإماتةِ والإحياءِ والجمع، لا يُعجزهُ شيء.

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة : 149].

149- وهذا أمرٌ فيه تأكيد، فحيثُما خرجتَ وأينما كنتَ أيها الرسول. توجَّهْ في صلاتِكَ نحو المسجدِ الحرام، فإنه القبلةُ الخالصةُ التي رضيَها الله لكم، وهو الثابتُ الموافِقُ للحكمة، وليس اللهُ بغافلٍ عن امتثالكم وطاعتكم، ولسوفَ يُجازيكم بذلكَ أحسنَ جزاء.

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة : 150].

150- ثم تجديدٌ وتأكيدٌ للمرَّةِ الثالثةِ لأهميته، ولقطعِ الطريقِ على الشُّبَهِ والتشكيكاتِ التي زادَ سعيرُها في المجتمعِ الإسلاميِّ الجديدِ من قِبَلِ الأعداءِ المتربِّصينَ به للقضاءِ عليه وهو ما زالَ في أوَّله، ولقطعِ النظرِ كذلكَ عن أيِّ شيءٍ ممّا عداه، فهي القبلةُ الأخيرةُ لمن أسلمَ وجهَهُ للهِ إلى أن تقومَ القيامة. فكلَّما خرجتَ وأينما كنتَ أيها النبيُّ اتجهْ نحوَ المسجدِ الحرام، وأينما كنتُمْ أيها المسلمونَ جميعاً توجَّهوا نحوه؛ حتى لا يبقى أدنى شكٍّ عند أهلِ الكتاب أنكم أمَّةُ محمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- الموعودة، حيث يجدونَ عندهم أن قِبلتكم ستكونُ الكعبة، ولو أنهم فقدوا ذلك منكم لاحتجُّوا بما يقولونَ من أنكم لستُم تلكَ الأمَّة.
وحتى لا يكونَ لأيِّ مشركٍ أو كافرٍ تأثيرٌ عليكم في جدالهم وعنادهم معكم وما يبثُّونَهُ من شُبَهٍ وشائعاتٍ لغرضٍ في نفوسهم، كقولِ بعضِهم لكم: ما دمتُم استقبلتُم البيتَ فسترجعونَ إلى دينِ آبائكم! فلا تحسبوا حساباً لهم ولا لأقاويلهم، فلا سلطانَ لهم عليكم ولن يضرُّوكم، بل اتَّقوا ربَّكم واخشوهُ في السرِّ والعلن، فهو الضارُّ النافع، وأهلٌ لأنْ يُخشى، وبيدهِ الأمرُ كلُّه. وحتى أُكمِلَ نعمتي عليكم فيما شرعتُ لكم من استقبالِ القِبلة. ولعلكم بهذا تهتدونَ إلى ما ضلَّتْ عنه الأمم، فهديناكم إليه وخصصناكم به، ولذلك كنتم أشرفَ الأممِ وأفضلَها.

{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} [البقرة : 151].

151- ومع نعمةِ القِبلةِ اذكروا أيها المسلمونَ بعثةَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم فيكم، يقرأ عليكم كلامَ الله العظيم، ويطهِّرُكم من رذائلِ الأخلاق، وأفعالِ الجاهلية، ودنسِ النفوس، ويُخرجُكم من الظلماتِ إلى النور، ويعلِّمُكمُ القرآنَ والسنَّة. وبينما كنتم في الجاهليةِ على جهلٍ وعداوةٍ وشِقاق، أبدلَكمُ اللهُ بذلكَ ما لم تكونوا تعلمون، وما لم يكنْ لكمْ به سابقُ علم، فصارَ منكمُ العلماء، والصِّدِّيقون، والأولياء، والقادةُ الفاتحون، والدعاةُ المبشِّرونَ بالدِّينِ العظيم.

{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة : 152].

152- فلا تنسَوا هذه النعمَ العظيمةَ التي أنعمتُ بها عليكم، اذكروني بالطاعةِ أذكُرْكم بالثواب، واشكروا لي هذه النعمَ ولا تجحدوها، يزدْكم بذلك نعمةً وفضلاً.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة : 153].

153- وإذا كان الشكرُ من آدابِ المؤمنين، فإنه لا بدَّ لهم من الصبرِ أيضاً، فعليكم به، فإنه خيرُ صفةٍ تتحلَّون بها لتحمُّلِ البلايا والرزايا ومشاقِّ الدعوة، والعزمِ على الطاعةِ والقُربات، وتركِ المآثمِ والمحرَّمات.
وكذا الصلاةُ، التي تشدُّ العزيمة، وتجدِّدُ الطاقة، وتملأ القلبَ نوراً، ولذلك كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَهُ أمرٌ –أي هجمَ عليه أو غلبَهُ- صلَّى، كما في حديثٍ حسنٍ رواهُ أحمدُ وأبو داود.
ذلك أن اللهَ مع الصابرين، يؤنسهم، ويؤيِّدهم، ويثبِّتهم، ويزيدُ من قوَّتهم الضعيفة.

{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} [البقرة : 154].

154- ولا يقدرُ على الجهادِ إلا الصابرونَ وذوو العزائم، وهؤلاءِ إذا سقطوا شهداءَ في ساحةِ المعركة، فلا تظنوا أنهم قد ماتوا، بل هم أحياءٌ عند ربِّهم، يُطعمهم ويَسقيهم؛ جزاءَ تضحيِتهم بأرواحِهم، ولكنكم لا تشعرونَ بهم، فهم في حياةٍِ أخرى (برزخيَّةٍ) غيرِ التي أنتم فيها.

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة : 155].

155- وسوفَ نختبرُكمْ ونمتحنُكمْ أيها المسلمون، لتظهرَ حقيقةُ إيمانِكم ومدى ثباتِكم على أمرِ دينكم، سيصيبكم شيءٌ من الخوفِ وأنتم تخوضونَ معاركَ ضدَّ الباطل، وشيءٌ من الجوعِ كالفقرِ ، ونقصٌ من الأموالِ، كأن يصيَبها جائحةٌ أو غرقٌ أو ضياع، ويُقْتَلُ أو يموتُ من أهلكم وأحبابكم، ويقلُّ شيءٌ من زروعِكم وثماركِم ببردٍ أو حرقٍ أو آفةٍ سماوية. فإذا صبرتُم ورضيتُم بقضاءِ الله فزتُم وحزتُم الأجر.

{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} [البقرة : 156].

156- إن الحائزينَ على درجةِ الصبرِ بحقٍّ هم الذين إذا ابتُلوا بمصيبةٍ آمنوا فصبروا، وتسلَّوا واسترجعوا، وقالوا: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، لعلمهم بأنهم مُلْكٌ لله، يتصرَّفُ في عبيدهِ كما يشاء، وأنه لا يَضِيعُ عندهُ شيءٌ يومَ القيامة.

{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة : 157].

157- فعلى هؤلاءِ الصابرينَ ثناءُ الله، ولهم مغفرتهُ وعليهم رحمته، فهم الذين اهتدَوا إلى الحقِّ والصواب، بصبرهم واسترجاعهم.

{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة : 158].

158- إن الطوافَ بين جبلي الصفا والمروة –وهما داخلانِ في حدودِ المسجدِ الحرامِ الآن- هو ممّا شرعَهُ الله تعالى لإبراهيمَ عليه السلام في مناسكِ الحجّ، فمن نوى حجًّا أو عمرةً فليجعلْ ذلك من مناسكه، ومن زاد َفي السعي بينهما، أو زادَ من نفل، فإن الله يُثيبهُ عليه، وهو عليمٌ بما يستحقُّهُ من الجزاء، ولا ينقصُ أحداً ثوابَ عمله.

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة : 159].

159- إن أهلَ الكتاب، وخاصَّةً اليهود، يُخفونَ ما أنزلنا على الرسلِ من الدلالاتِ البيِّنةِ على حقائقَ مهمَّة، وما جاؤوا به من الهدي النافعِ للقلوب، كالإيمانِ بمبعثِ الرسولِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ووجوبِ اتِّباعه، حيثُ بيَّنَهُ الله تعالى في الكتبِ التي أنزلها.
قال أبو السعود في تفسيره: "والمرادُ بكتمهِ إزالتُه ووضعُ غيرهِ في موضعه، فإنهم محَوا نعتَهُ -عليه الصلاةُ والسلامُ- وكتبوا مكانَهُ ما يُخالفه". وقد جعلَ الكتمَ بهذا من أنواعِ التحريفِ والتبديل.
فهؤلاءِ الساكتونَ عن الحقّ، الكاتمونَ ما أنزلَ الله من خيرٍ وهُدى، يطردُهم الله ويُبعدهم من رحمته، كما يلعنهم كلُّ من يتأتَّى منهم اللعنُ والدعاءُ عليهم، من الملائكةِ ومؤمني الجنِّ والإنس، فهم منبوذونَ من ِأهلِ الحقِّ كلِّهم.

{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة : 160].

160- ويُستثنى من أهلِ الكتابِ المذكورين، الذين تابوا إلى الله ورجعوا عمّا كانوا فيه، وأعلنوا الحقَّ واعترفوا به، وأصلحوا ما أفسدوا وحرَّفوا، وبيَّنوا للناسِ ما كانوا كتموه، فهؤلاءِ أقبلُ توبتهم، وأنا كثيرُ قبولِ التوبةِ ونشرِ الرحمة.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة : 161].

161- أما الذين كفروا وأصرُّوا على كفرهم، وكتموا الحقَّ ولم يتوبوا، فإنَّ مصيرَهم الطردُ من رحمة الله، فيلعنهم الله، وملائكته، وجميعُ الناس، لعنٌ ثابتٌ بعد لعنٍ متجدِّد، في الدنيا، مستمرًّا إلى الآخرة.

{خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} [البقرة : 162].

162- وسوفَ يُخلَّدونَ في نارِ جهنَّم، لا يُنْقَصُ عمّا هم فيه من عذاب، ولا يُغَيَّرُ عنهم ساعةً واحدة، فهو متواصلٌ دائم.

{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة : 163].

163- إن المعبودَ الذي يتوجَّهُ له الخلقُ في عبادتهم وطاعتهم واحدٌ لا شريكَ له، وهو رؤوفٌ رحيمٌ بالناس، ورحمتهُ كبيرةٌ واسعةٌ دائمة.

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة : 164].

164- إن مشاهدَ الخلقِ في الكونِ عظيمةٌ دقيقة، ينبغي أن يُنظرَ فيها بتعمُّقٍ وتبحُّرٍ من جوانبها العلميةِ والحِكْمية، ليُستدلَّ بها على الخالقِ الأعظم.
فهذه السماواتُ بارتفاعها، وإحكامِ خَلْقها، وما فيها من شموسٍ وكواكب، وصخورٍ وذرَّات، وجاذبيةٍ ودوران، وبُعدها عن الأرض أو عن بعضها البعضِ بمسافاتٍ لا تكادُ تتخيَّل، كملايينِ السنواتِ الضوئيةِ وما يُقالُ في هذا، عدا ما لم يكتشفْ منها.

والأرضُ في جبالها ووهادها، وبحارها وأنهارها، وخصبها وصحرائها، وإنسِها وجنِّها، وحيواناتها وجمادها، ونباتاتها وأشجارها، بملايينِ أصنافها وأنواعها، الدقيقةِ والعجيبة، وأحيائها المائيةِ في سلوكِها ومعيشتها، وما فيها من منافع، من معادنَ ولآلئ، وماءٍ وهواء، وكلِّ ما سُخِّر للإنسان.


ومجيءُ النهارِ يتلوهُ الليل، ثم يتلوهُ النهارُ وهكذا، من تعاقبِ النورِ والظلمة، في استمراريةٍ ودقَّةٍ متناهية.


وهذه السفنُ والبواخرُ والأساطيلُ التي تجري في البحر، سخَّرَهُ الله للناسِ هكذا لينتفعوا به في أسفارهم، ونقلِ بضائعهم من مكانٍ إلى آخر، وليستخرجوا منه ما ينفعُهم من مؤونةٍ وميرةٍ وتجارة.


وهكذا المطرُ الذي ينزلُ من السحابِ بأمرِ الله، فتحيا به زروعٌ وثمار، وأناسيُّ وحيوانات، تُفَجَّرُ به عيون، ويُخَزَّنُ منه في الأرضِ للآبار، بعد أن كانتِ الأرضُ يابسةً لا حياةَ فيها.


وما نُشِرَ في الأرضِ من كلِّ حيّ، عاقلٍ وغيرِ عاقل، على اختلافِ أشكالها وألوانها ومنافعها، وصغرها وكبرها.


وهذه الرياحُ بأنواعها واتجاهاتها، وما هو منها للرحمةِ وما هو منها للعذاب، وما تجمعهُ أو تفرِّقهُ من السُّحب، فتقفُ بها في مكانٍ أو تسوقُها إلى حيثُ أمرها الله، أو ما تحملُ من بذورٍ فتفرِّقها في مناطقَ جديدةٍ أو تنثرُها على ثمارها لقاحاً.


وهذه الغيومُ المنتشرةُ فوق الأرض، في تشكيلها وأنواعها ودلالاتها، وحركتها وتسخيرها وانتقالها.


كلُّ هذا وغيرهُ حقائقُ عظيمةٌ ودلالاتٌ بيِّنةٌ على وجودِ الله ووحدانيته، وقدرتهِ وحكمته، هذا إذا تفكَّرَ بها الإنسان، وألقى عن عقلهِ بلادةَ الأُلفةِ وغشاوةَ الغفلة، ونظرَ في هذه المخلوقاتِ بفكرٍ متعمِّقٍ وحسٍّ متجدِّد، وقلبٍ متطلِّعٍ إلى الحق.


{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة: 165].

165- وعلى الرغمِ من الدلالاتِ السابقةِ على وحدانيةِ الله وتفرُّدهِ بالخلقِ والتدبير، إلا أن هناكَ صنفاً من الناسِ أشركوا بالله، وصاروا يعبدونَ معه نظراءَ وأمثالاً، على هوى أنفسهم وما تسوِّلُ لهم الشياطين، في تقليدٍ جاهلٍ أو حُمقٍ فاضح، كعبادةٍ أحجارٍ وأشجار، أو نجومٍ وكواكب، ويدافعونَ عنها ويحاربونَ عليها، ويحبُّونها كمحبَّتهم الله! وهو الواحدُ الأحد، الذي لم يتَّخذْ صاحبةً ولا ولداً، ولا مثيلَ له ولا نظير.
أما المؤمنون، فإنهم يعبدونَ الله على نورٍ من ربِّهم وبرهان، ويحبُّونَهُ حبًّا خالصاً لا شائبةَ فيه، وهم أكثرُ حبًّا له من أنفسهم وما يملكون؛ وذلك لتمامِ معرفتهم به، وتوحيدِهم وتعظيمِهم له، ولجوئهم إليه وحسنِ توكلهم عليه.
ولو عاينَ هؤلاءِ المشركونَ ومن تابعهم ما أُعِدَّ لهم من العذابِ يومَ القيامة، لعلموا أن جميعَ الأشياءِ تحت قهرهِ وسلطانه، وأن القوَّةَ والتصرُّفَ له وحده، وأن عذابَهُ شديدٌ مؤلم، وإذاً لانتهوا عمّا هم فيه من ضلال.

{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة: 166].

166- وهؤلاءِ الذين كانوا أعلاماً في الكفرِ والضلالِ والدَّعواتِ الهدَّامة، ولهم أنصارٌ وتابعون، عندما يُكشَفُ لهم الحساب، ولا يرونَ أمامهم سوى النار، التي لا مناصَ لهم منها، يتبرَّؤونَ من تابعيهم، لأن ذلك يزيدُهم عذاباً، ويقولونَ لهم: لا علاقةَ لنا بكم، ولم نجبرْكُم على متابعتنا، وكانتْ لكم عقولٌ فلمَ خُدِعتُم وشاركتمونا؟
وتنقطعُ بينهم الأواصرُ والعلاقاتُ السابقة، وتنقلبُ إلى حقدٍ وعداوةٍ وتخاصم، حيث انتهتِ الأعمال، وحانَ وقتُ الجزاء.

{وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة : 167].

167- وقال التابعونَ المقلِّدون، المناصرونَ للضلالِ وأهله، بعد أن انتكستْ أعلامُ الآلهةِ الفارغة، وانكشفتِِ الخِدَع، وظهرتِ الحقائق: لو كانتْ عندنا فرصةٌ للعودةِ إلى الدنيا حتى نتبرَّأ من هؤلاءِ فلا نتَّبعهم ولا نوافقهم على أفكارهم، ولا نكونَ لهم كالعبيدِ فنهتفَ لهم ولمبادئهم المضلِّلة، بعد أن تبرّؤوا هم منّا وقالوا لا علاقةَ لنا بكم ولم نجبرْكُم على اتِّباعنا. وهم كاذبون، فلوا أنهم أُعيدوا لعادوا. وإنما يريدُ الله ببيانِ أعمالهم أمامهم ليزدادوا كمداً وندامة، فيكونَ نصيبُهم حسراتٍ وحسرات. ولسوفَ يبقونَ في النارِ يعذَّبون.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة : 168].

168- أيها الناس، كلوا مما خلقَ الله لكم في الأرضِ من الحلالِ الطيِّب، الذي لا يعتلُّ به جسمٌ ولا يختلُّ به عقل، ولا تقتدوا بالشياطين، ولا تتبعوا مسالكَهُ وطرائقَهُ التي ضلَّ بها أتباعه، من تحريمِ ما أحلَّ اللهُ وتحليلِ ما حرَّمَ، فإنه ظاهرُ العداوةِ لكم عند أهلِ البصيرةِ منكم، وقد حذَّركم الله منه.

{إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة : 169].

169- إنما يأمركم الشيطانُ بالمعاصي وبالأعمالِ السيِّئةِ والفواحشِ الدنيئة، وأن تَفتَرُوا على الله الكذب، بأنْ تقولوا إنه حرَّمَ شيئاً، وهو ما لا تعلمونَ أنه حرَّمه.

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة : 170].

170- وإذا طُلِبَ من المشركينَ وأهلِ الكتابِ أن يتَّبعوا كتابَ الله الذي أنزلَهُ على رسولهِ محمّدٍ -صلى الله عليه وسلم- قالوا: لا نتَّبعه، بل نتَّبعُ ما وجدْنا عليه آباءَنا، لأنهم كانوا خيراً منا!
أيقتدونَ بهم ويقتفونَ أثرهم ولو كانوا لا يفهمونَ شيئاً ولا يهتدونَ إلى الصواب؟ ولو كانوا غافلينَ وجاهلينَ ضالِّين؟

{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [البقرة : 171].

171- إن مَثَلَ الذين كفروا في غيِّهم وضلالِهم وجهلِهم وعدمِ تدبُّرهم فيما أُلقيَ إليهم من الآيات، كالبهائمِ التي لا تفقَهُ ما يُقالُ لها، فإذا دعاها أو هتفَ بها راعيها لا تفهمه، إنما تسمعُ لحنَهُ ودويَّ صوته.
فهم صُمٌّ عن سماعِ الحقّ، وخُرسٌ لا يتفوَّهونَ به، وعُميٌ عن رؤيةِ طريقه، ولو كانتْ لهم حواسُّ ظاهرة، ما داموا لا ينتفعونَ بها. إنهم لا يفهمونَ شيئاً لأنهم لا يتدبَّرونَ الآياتِ والحقائق، ولا يتأمَّلونَ فيما يرونَهُ من الدلائلِ الواضحةِ والأمورِ النافعة.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة : 172].

172- أيها المؤمنون، كُلوا من الحلالِ الطيِّبِ الطاهرِ المستلذِّ الذي رزقكم الله، واشكروهُ على ذلك إنْ كنتُم تعبدونَهُ حقَّ العبادة، فإن الشكرَ من العبادة، وإنه من أسبابِ قبولها والجزاءِ عليها.

{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة : 173].

173- وخذوا أحكامَ الحلالِ والحرامِ من الله الخالقِ الرازق، فإنه لا يُحلُّ إلا طيِّباً، ولا يحرِّمُ إلا ما خبثَ وكان فيه ضرر.
وقد حرَّمَ عليكم أكلَ الميتة التي لم تُ***، ما عدا السمكَ والجراد. وكذلك حرَّمَ الدم، ولحمَ الخنزير، سواءٌ ذُبحَ أو ماتَ حتفَ أنفه، وما ذُبحَ على غيرِ اسمِ الله، من الأصنامِ والطواغيتِ ونحوها.
ومن ألجأتْهُ الضرورةُ إلى أكلِها وفقدَ غيرَها من الأطعمة، فلا بأسَ من أكلها، من غيرِ بغيٍ ولا اعتداء: من غيرِ أن يُؤْثِرَ نفسَهُ في هذه الضرورةِ على مضطرٍّ آخرَ مثلِه، ولا أن يأكلَ زيادةً على سدٍّ جوعته.

فالله يغفرُ له عندئذٍ ما أكلَ من الحرام، وهو رحيمٌ إذْ أحلَّ له ذلك في حالِ الاضطرار.


رد مع اقتباس