عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 06-06-2015, 12:32 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
العمر: 61
المشاركات: 4,132
معدل تقييم المستوى: 15
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

توجيهات وتحقيقات في الأحاديث النبوية (6)


د. عمر بن محمد عمر عبدالرحمن

الحديث السادس


عن سالم بن عبدالله، عن أبيه، أنه أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشَّمس، أوتي أهل التَّوراة التَّوراةَ، فعملوا، حتى إذا انتصف النَّهار عجزوا، فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثمَّ أوتي أهل الإنجيلِ الإنجيلَ، فعملوا إلى صلاة العصر، ثمَّ عجزوا، فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثمَّ أوتينا القرآن، فعملنا إلى غروب الشمس، فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتابين: أي ربَّنا، أعطيتَ هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطًا قيراطًا، ونحن كنَّا أكثر عملاً؟ قال: قال الله عز وجل: هل ظلمتكم مِن أجركم من شيءٍ؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء))[1].
تحقيقات وتوجيهات الحديث:
((إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم)) حرف الجرِّ "في" في قوله صلى الله عليه وسلم ((فِيمَا)) قيل: إنَّه بمعنى "إلى"، والتقدير: إنما نسبة زمن بقائكم إلى زمن ما سلَف قلبكم من الأمم، كنسبةِ الزمن الذي بين صلاةِ العصر وغروب الشمس إلى بقيَّة النهار، ولا يخفى ما في هذا التقدير من التكلُّف، والأولى أن تكون "في" للمقايسة؛ كما في قوله تعالى: ﴿ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [التوبة: 38]، ولا يحتاج مع هذا إلى تقديرِ تلك المضافات.
وقد استغرب البعض استعمال النبي صلوات الله وسلامه عليه "ما" في قوله: ((فيما سَلَف قبلَكم)) مع وقوعها على مَن يَعْقِل؟!
والجواب على ذلك: أن "ما" قد ترد في حق مَنْ يعقل؛ كما ورد ذلك في قوله تعالى: ﴿ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ [النساء: 3]، وكما في هذا الحديث.
الحصر في قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما بقاؤكم)) قصرٌ حقيقي ادعائي؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه قصر فيه بقاءهم على مشابهةِ ما بين صلاة العصر وغروب الشمس.
((كما بين صلاة العصر إلى غروب الشَّمس)) تقدير الكلام: كما بين أوقاتِ صلاة العصر ممتدًّا إلى غروب الشمس؛ لأنَّ "بين" لا تضاف إلاَّ إلى متعدِّد؛ أي: كالبقاء الذي بين هذه الأوقات؛ فـ "ما" واقعة على بقاء؛ ليكون فيه تشبيه بقاءٍ ببقاء.
((مِنَ الأمَمِ)) "ال" عهدية؛ لأنَّ المراد من الأمم اليهود والنصارى، بدليل باقي الحديث؛ فهي للعهد العلميِّ؛ وإنما خصَّ اليهود والنصارى من الأمم السابقة؛ لبقائهم إلى زمن المسلمين.
((أوتي أهل التَّوراةِ)) فصَله النبيُّ صلى الله عليه وسلم عمَّا قبله؛ لشبه كمال الاتصال؛ لأنه واقعٌ في جواب سؤالٍ مقدَّرٍ، كأنه قيل: كيف كان بقاؤنا كذلك؟ فأجيبوا بذلك.
وقد يقال: كيف نسبَ إليهم العجز مع أنهم عملوا ما أمروا به ولم يكَلَّفوا بما بعده حتى يعجزوا عنه؟!
والجواب: أن المراد عجزهم عن إدراكِ الأجر الثاني دون الأول، أو: أنَّ الله تعالى علمَ عجزَهم عنه إذا كلِّفوا به؛ لعدم استعدادهم له.
قوله صلى الله عليه وسلم: ((قِيراطًا)) الثاني؛ إمَّا أنْ يكون معطوفًا على الأول بتقدير حرف العطف، والتقدير: فأعطوا قيراطًا وقيراطًا، وإمَّا أن يكون التقدير: فأعطوا قيراطًا بعد قيراطٍ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
غيَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم الأسلوبَ في قوله: ((ثمَّ أوتينا)) - إلى التكلم - بعد قوله: ((إنما بقاؤكم)) - على الخطاب، وهذا من الالتفات من الخطاب إلى التكلم، وفيه فائدة الالتفات؛ من تجديد نشاط السامع ونحوه، مع إظهار الاهتمام بما أوتوه.
آثروا في ندائهم: ((أي ربَّنا)) "أي" التي لنداءِ القريب على "يا" التي لنداء البعيد؛ لأنهم قصدوا أن يكونوا في منزلةِ القرب منه استجلابًا لعطفه عليهم حتى يسوِّيهم في الأجر بغيرهم.
قوله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيتَ هؤلاء قيراطين)) هو إنشاء؛ لأنه على حذف أداة الاستفهام، والتقدير: أأعطيتَ هؤلاء قيراطين؟ والاستفهام في هذا تعجبيٌّ؛ لأنهم يتعجَّبون من إعطائهم قيراطين دونهم.
وقد يقال: هل تخصيصهم بمشقَّة العمل دون المسلمين لقوَّتهم وضعف المسلمين؟
والجواب: لا؛ لأنَّ المسلمين كانوا أقوى من اليهودِ والنصارى، كما يدلُّ عليه القرآن في اليهود حينما أمرهم موسى عيله السلام بقتال أعدائِهم فجَبنوا عنه، والنصارى الذين ابتدعوا في دينهم الرهبانية ونحوها، ممَّا صعَّبوا به على أنفسهم، أمَّا المسلمون فقاتلوا أعداءَهم حتى انتصروا عليهم، ولم يصعَّب عليهم برهبانيَّة ونحوها.
وقيل: لماذا أجابهم الله بهذا الجواب الذي يسكتهم من غير أن يكون فيه بيان حكمة تفضيلِ المسلمين عليهم كما أرادوا من سؤالهم؟!
والجواب: أن الله تبارك وتعالى أجابهم بهذا؛ لِما في سؤالِهم من شائبة الاعتراض على فِعله، فلم يكونوا أهلاً لبيان الحكمة، وكان المناسب لهم هذا الجواب الذي فيه شيءٌ من التوبيخ لهم على خفاءِ حكمته عليهم.
أمَّا الحكمة في ذلك:
فهي أنَّ الأجر لا يلزم أن يكونَ بقدر المشقَّة في العمل؛ لأنَّ من الأعمال الشاقَّة ما يكون أجرها أقلَّ من غيرها؛ لأنَّه أرقى منها، وإن كان دونها مشقَّة، وشريعة المسلمين أرقى من غيرها من الشرائع؛ ولهذا ضوعِف لهم الأجر عليها، ولأنهم أيضًا يؤمنون بنبيهم ومَن قبله من الأنبياء؛ فأعطوا أجرًا على إيمانهم به صلى الله عليه وسلم، وأجرًا على إيمانهم بمن قبله من الأنبياء عليهم السلام.


[1] رواه البخاري في صحيحه (557)، (7467).

رد مع اقتباس