أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم
أ. د. عبدالله بن مبارك آل سيف
ونوقش:
أ- أن في سنده المغيرة بن زياد [27]، وقد تكلم فيه أحمد والبخاري وأبو حاتم، وهو ممن لا يحتج بحديثه إذا انفرد به.
وأجيب عن المناقشة:
أنه قد وثقه ابن معين والعجلي وغيرهما [28].
ب- ثم في سنده الأسود بن ثعلبة [29]، وهو مجهول الحال.
وأجيب بأن الحديث له طريق أخرى صححها بعض العلماء [30].
ج- ثم هي قضية عين تحتمل عدداً من الاحتمالات والتوجيهات، فلا تعارض النصوص الدالة على الجواز [31]، ومن الاحتمالات:كونه بدأ العمل خالصاً لله فلم يرد أن يغير نيته، ويحتمل أن ذلك لكون المتعلم فقيراً من أهل الصفة.
د - أنه يحتمل أن عبادة كان غنياً غير محتاج فلم يجز له، بخلاف المحتاج فيجوز.
6- عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: علَّمت رجلاً القرآن، فأهدى إليّ قوساً فذكرت ذلك لرسول صلى الله عليه وسلم فقال: "إن أخذتها أخذت قوساً من نار ".فرددتها. أخرجه ابن ماجه [32].
والحديث دل على تحريم الهدية فمن باب أولى الأجرة المشروطة.
ونوقش:
أ- أنه قضية عين يرد عليها عدد من الاحتمالات كما في حديث عبادة.
ب- أن الحديث ضعيف، وقد حكم عليه العلماء بالاضطراب والإرسال، وحكم عليه ابن عبدالبر والبيهقي بالانقطاع، وأعله ابن القطان بجهالة أحد رجاله، وله طرق عن أبي قال ابن القطان: لا يثبت منها شيء [33].
4-5 عن سهل بن سعد الساعدي قال: خرج علينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوماً ونحن نقريء فقال: "الحمد لله، كتاب الله واحد، وفيكم الأحمر والأبيض والأسود، اقرؤه قبل أن يقرأه أقوام يقيمونه كما يقوم السهم، يتعجل أجره ولا يتأجله" أخرجه أبو داود [34]، ومثله عن جابر بن عبدالله [35].
ووجه الدلالة منهما:أنها دلاّ على أن من يتعجل أجره فإنه يحرم أجره في الآخرة، وهذا وعيد، ولا يكون إلا على محرم.
ونوقش:
أ- أن ذلك كان محرماً في أول الإسلام؛ لأن تعليم القرآن كان فرضاً بقصد نشر الدين، فلما سقط الفرض بتعليمه لفشو الإسلام لم يجب على أحد بعد ذلك على سبيل فرض العين [36].
وأجيب عن المناقشة:
أن دعوى النسخ تحتاج إلى دليل.
واعترض على هذا الجواب:
بأن الدعوى ليست نسخاً، وإنما هو حكم تغيّر بتغيّر الزمان لتغير الحال.
ب- أن المراد من اتخذ ذلك مهنة من غير حاجة، أو هو الاستئجار على القراءة لا التعليم.
6-7 عن عمران بن حصين قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من قرأ القرآن فليسأل الله به، فإنه يجيء أقوام يقرؤن القرآن يسألون الناس به" أخرجه أحمد والترمذي [37]، ومثله حديث عبدالرحمن بن شبل [38] بمعناه [39].
ونوقش:
أ- أن الترمذي قال في حديث عمران: هذا حديث حسن، ليس إسناده بذاك. يشير لوجود ضعف فيه [40].
ب- ثم إنه محمول على الاستئجار على التلاوة لا على التعليم [41].
8- عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" أخرجه البخاري [42].
ووجه الدلالة منه: أن دل على أن تبليغ القرآن والسنة فرض، والفرض لا يجوز أخذ الأجرة عليه.
ونوقش:
أ- أن الجهاد فرض في ساحة القتال، ومع ذلك جاز أخذ الغنيمة.
ب- أن المراد من النهي مَنْ قصد الدنيا استقلالاً، أما من عمل لله وأراد بالأجر التفرغ للعبادة فلا حرج.
9- عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: "من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" أخرجه أبو داود [43].
ووجه الدلالة منه: أنه دل على أن التعلم والتعليم يشترط فيه الإخلاص، وأخذ الأجرة عليه ينافي ذلك [44].
ونوقش:
أ- أن أخذ الأجرة لا ينافي الإخلاص كما في الجهاد.
ب- أن المراد بالنهي هو من تمحض قصده للدنيا، أما من أراد الآخرة وأراد التفرغ لعمل الخير وإغناء نفسه عن التكسب فلا حرج عليه بذلك [45].
ثالثاً: من الآثار:
فقد ورد عن عدد من الصحابة أنهم امتنعوا عن أخذ الأجرة وكرهوها أو منعوا منها، كما ورد عن عبادة وغيره، وعن عبدالله بن شقيق الأنصاري قال: "يكره أرش المعلم، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكرهونه ويرونه شديداً" أخرجه ابن أبي شيبة [46]، وساق ابن حزم في ذلك آثاراً كثيرة [47].
ونوقش:
أ- ما ورد من الآثار الدالة على الجواز كما سيأتي في أدلة المخالف، وقول الصحابي ليس بحجة إذا خالفه غيره.
ب- ثم يمكن حملها على مَنْ قصد بذلك الدنيا فقط ولم يحتسب فيها.
رابعاً: من المعقول:
1- أن تعليم القرآن فرض عين، وفرض العين لا يجوز أخذ الأجرة عليه كالصلاة والصيام [48].
ونوقش:
أ- أن قياسه على الصلاة ليس بأولى من قياسه على الجهاد، بل الجهاد أولى، لأن الجهاد فرض كفاية ومثله التعليم، أما الصلاة فلا تكون إلا فرض عين [49].
ب- أن قياسه على الصلاة قياس فاسد الاعتبار،من جهة أن النص قد ثبت بجواز أخذ الأجرة كما سيأتي.
ج- ثم لا نسلم أن تعليمها فرض عين، بل هو على الكفاية.
د- سلمنا المنع، لكن الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة، وإذا لم يتفرغ لذلك المعلمون ضاع الطلاب وقلَّ التعليم.
2- أن أخذ الأجرة سبب لتنفير الناس عن العلم؛ لأن ثقل الأجر يمنعهم من ذلك كما في قوله تعالى: ﴿ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ﴾ [50].
ونوقش:
أنها مفسدة ممكنة معارضة بمفسدة أخرى في عدم أخذ الأجر، إذ يقل المعلِّمون وينتشر الجهل، وهذه مفسدة أعظم [51].
3- أنه لا يصح استئجار الأجير، والمعلم أجير ينتفع بعمله والأجر من الله، وهو قد عمل لنفسه فلا يستحق أجرة أخرى.
ونوقش:
أ- أن هذا منقوض بالجهاد، حيث يحصل الأجر والمغنم.
ب- أن الأجر من الله مقابل نيته واحتسابه، والأجرة مقابل انقطاعه عن التكسب [52].
4- أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث معلماً وهادياً، ولم يأخذ على ذلك أجراً، وهو قدوة لمن بعده.
ونوقش:
أ- أنه قياس مع الفارق؛ لأن المنع هنا من الأجر لحماية مقام النبوة من تهمة طلب الدنيا، بخلاف غيره.
ب- ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ من أجرة أبي سعيد في الرقية كما سيأتي [53].
أدلة القول الثاني:
أولاً: من السنة:
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بماء فيهم لديغ، فعرض لهم رجل من أهل الماء، فقال: هل فيكم من راقٍ؟ إن في الماء رجلاً لديغاً أو سليماً، فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاءٍ فبرأ، فجاء بالشاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك، وقالوا: أخذت على كتاب الله أجراً حتى قدموا المدينة فقالوا: يا رسول الله، أخذ على كتاب الله أجراً، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله" أخرجه البخاري [54].
2- ومثله حديث أبي سعيد مرفوعاً: وفيه: "وما أدراك أنها رقية؟ خذوها واضربوا لي بسهم" أخرجه البخاري [55].
3- ومثله حديث خارجة بن الصلت [56] بلفظ: "كل فلعمري من أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق" [57] أخرجه أحمد وأبو داود.
ونوقش:
أ - أن المراد بالأجر هنا الثواب.
وأجيب عن المناقشة:
أن سياق القصة يخالف هذا، حيث أخذوا عرضاً على الرقية، ولفظ الحديث عام.
ب- أن الحديث منسوخ بما ورد من نصوص الوعيد في أخذ الأجرة.
وأجيب عن المناقشة:
أن النسخ لابد له من دليل والأصل عدم النسخ،خاصة مع إمكان الجمع [58].
ج - أن القوم كفار، فجاز أخذ أموالهم كالفيء.
وأجيب عن المناقشة:
أن ما أخذوه على سبيل الرقية لا على سبيل الغصب.
د - أن حق الضيافة واجب وهم لم يضيفوهم.
وأجيب عن المناقشة:
بأنهم غير مخاطبين بالفروع، وإن خوطبوا فلا يصح إلا بشرطه وهو النية ومن شرطها: الإسلام.
هـ – أنهم أخذوه للحاجة حيث كانوا في سفر فجاز لهم.
وأجيب عن المناقشة:
بأنه لو كان كذلك لما قال: اقسموا لي منه.
و - أن الرقية نوع من التداوي، فهي من الأمور المباحة، وليست مثل التعليم إذ هو عبادة، فالقياس عليها قياس مع الفارق.
وأجيب عن المناقشة:
أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ز - أن هذه جعالة، والجعالة بابها أوسع من الإجارة.
وأجيب عن المناقشة:
أن الحديث صريح بلفظ الإجارة، والعبرة بعموم اللفظ [59].
4- عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالت: إنني وهبت من نفسي، فقامت طويلاً، فقال رجل: زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة، فقال عليه الصلاة والسلام: "هل عندك من شيء تصدقها"؟. قال: ما عندي إلا إزاري. فقال: "إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك فالتمس شيئاً " فقال: ما أجد شيئاً. فقال: "التمس ولو كان خاتماً من حديد" فلم يجد. فقال: "أمعك من القرآن شيء؟" قال: نعم، سورة كذا وسورة كذا لسور سماها. فقال: "زوجناكها بما معك من القرآن" أخرجه البخاري ومسلم [60].
ووجه الدلالة منه: أنه دل على جواز المعاوضة على تعليم القرآن بالثمن وما في معناه [61].