
07-06-2015, 03:09 PM
|
 |
عضو خبير
|
|
تاريخ التسجيل: Jun 2014
المشاركات: 724
معدل تقييم المستوى: 12
|
|
الاربع والعشرون ساعة الاخيرة
سبتمبر / أيلول
====================
بقلم : محمد حسنين هيكل
====================
كان البحر الأبيض - قلب الدنيا وبؤرة التاريخ - كان يستعد يومها لحدثٍ كبير.
كأن مأساة عنيفة - مما روى تاريخ الإغريق - كانت تحوم حول آفاقه، وتوشك
أن تنزل على شواطئه كالزلزال.. ترجه رجاً من الأعماق السحيقة، إلى قمم
الموج العالية: - فى شرق البحر الأبيض، فى عمان، كان القتال مازال محتدماً
بشدة وقسوة، وكانت دبابات الجيش الأردنى، من طراز باتون، تركز هجماتها
على منطقة الأشرفية تريد أن تخلع منها بقايا
جيوب المقاومة الفلسطينية فى عمان، وكان مستشفى الأشرفية - بالذات -
هدف تركيز شديد، فقد كان معروفاً أن قيادة المقاومة اتخذت منه - فى وقت
من أوقات الصراع - مقراً لها، توجه منه عملياتها. وكان الدمار فى أبشع صوره
قد حل بكل شوارع العاصمة الأردنية القائمة على سبعة تلال، وكان ال***ى
تحت الأنقاض بالمئات، وكان الجرحى بالآلاف، تتعالى أناتهم وصرخاتهم تطلب
النجدة أو تطلب الرحمة، وكان الجوع والعطش يمسكان المدينة بقبضة عذاب
أليم، لا عاصم منه ولا مغيث. ... الأخ يسفك دم أخيه، ورفاق السلاح لا يقاتلون
عدوهم ولكن يقتتلون فيما بينهم!. - فى شرق البحر الأبيض أيضاً، فى القدس
المحتلة، كان التدبير الأمريكى - الإسرائيلى قد أعد مخططاته كاملةً للتدخل فى
أزمة الأردن، ولم يكن باقياً إلا صدور الأمر فى اللحظة التى تقتضى التدخل، من
وجهة نظر المدبرين المتواطئين. كانت خطة التدخل، كما يقول "بنجامين ويلز"،
الصحفى العليم بدخائل الأمور فى واشنطن، قد تم وضعها يوم 21 سبتمبر، بعد
مشاورات متصلة بين واشنطن وتل أبيب، وهى مشاورات جرت فى البيت الأبيض
نفسه.. واشترك فيها مع الرئيس ريتشارد نيكسون كل من "ويليام روجرز" وزير
الخارجية، و"جوزيف سيسكو" مساعد وزير الخارجية لشئون الشرق الأوسط،
و"هنرى كيسنجر" مستشار نيكسون لشئون الأمن القومى و"ريتشارد هيلمز"
مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، و"الأدميرال توماس مور" رئيس هيئة
أركان الحرب المشتركة للقوات المسلحة الأمريكية، و"الجنرال إيزاك رابين" سفير
إسرائيل فى واشنطن ورئيس هيئة أركان حربها السابق، ومساعده السياسى
فى السفارة الإسرائيلية "شلومو آرجوف"... كانت اجتماعاتهم تعقد فى غرفة
العمليات فى البيت الأبيض وكانت خرائط المنطقة من حولهم، وكانت المعلومات
التفصيلية تتدفق على غرفة العمليات من مصدرين يحددهما بنجامين ويلز بأنهما
:المخابرات الأمريكية والمخابرات الإسرائيلية. وتقرر بينهم أن تكون ساعة الصفر فى
التدخل، هى اللحظة التى يزيد فيها عدد الدبابات السورية التى تدخل الأردن - كما
يقولون - على مجموعة اللواءين التى قالوا أنها دخلت فعلاً إلى شمال الأردن، وهى
اللحظة التى يبدو فيها أن زحف هذه الدبابات قد تجاوز منطقة الرمثا. وكانت الخطة
التى تم الاتفاق عليها، أن تبدأ العملية بضربة جوية، يقوم بها الطيران الإسرائيلى ضد
المدرعات السورية، فإذا لم تحقق هذه الضربة هدفها، تقدم طابور مدرع إسرائيلى
لمحاصرة القوات السورية وإبادتها، مع احتلال مثلث الرمثا - أربد - جرش. وفى نفس
الوقت، كانت الخطة تتضمن إنزال كتيبة مظلات من الفرقة الثامنة الأمريكية - المتمركزة
فى "مينز" بألمانيا الغربية - لتحتل مطار عمّان الدولى، وتقيم من حوله نطاق دفاعات
يسمح بإنزال لواء من المشاة محمول على طائرات النقل، على أن يتولى الأسطول
الأمريكى السادس، بطائراته، حماية التدخل الإسرائيلى - الأمريكى، ضد أى عمل قد
تقوم به مصر، أو قد يفكر فيه الاتحاد السوفيتى. - وفى شمال البحر الأبيض، كان الرئيس
ريتشارد نيكسون قد وصل بنفسه إلى نابولى، وكانت أقوى قطع الأسطول السادس
الأمريكى أمامه تحيط بجزيرة كابرى. ثلاث من حاملات الطائرات هى "ساراتوجا"
و"اندبندانس" و"جون كيندى" وعلى ظهرها قرابة ثلاثمائة طائرة قاذفة مقاتلة، أكثرها من
طراز فانتوم وعليها مجموعة من بطاريات المدفعية وقواعد إطلاق الصواريخ، تمثل قوة نيران
رهيبة، وتتقدم هذه الحاملات مجموعة من البوارج والطرادات الصاروخية. يتقدمها الطرادان
"جوام" و"سبرنجفيلد" ثم أسطول جرار من قوارب الطوربيد والغواصات وكاسحات الألغام.
وكان مقرراً لهذه القوة البحرية أن تقوم بمناورة، تكون بمثابة مظاهرة بالنار. وكان مقرراً أن
يشهد نيكسون هذه المناورة من جسر حاملة الطائرات ساراتوجا المعقود لها لواء القيادة
فى الأسطول الأمريكى السادس فى البحر الأبيض، وكان المقصود من هذه العملية كلها،
على حد ما يقول الصحفى المشهور "ماكس فرانكل" - من كبار محررى النيويورك تايمز -
وكان مع الرئيس نيكسون على ظهر حاملة الطائرات ساراتوجا - شيئاً واحداً: "أن يسمع
جمال عبد الناصر فى القاهرة، دوى مدافع الأسطول الأمريكى السادس!" ... وكان الموعد
المقرر لبدء المناورة هو الساعة العاشرة من مساء يوم 28سبتمبر!. - وفى جنوب البحر
الأبيض، فى القاهرة، كان جمال عبد الناصر فى لحظة من أروع لحظات حياته ونضاله،
يحاول ولا يكل، من أجل السلام العربى، ومن أجل السلامة العربية، لكى تظل أمته فى
وضع القدرة على مواجهة التحدى المستمر، ولكى يتوقف نزيف الدم المتدفق من قلبها.
كان جهده مركزاً أشد ما يكون التركيز. وكان فكره رائقاً، صافياً، محدداً، وكانت كلمته،
طوال الوقت، لكل الأطراف: "ما هو الهدف؟... يجب ألا ننسى أنفسنا وسط التفاصيل
والاتهامات المتبادلة... ما هو الهدف؟ هذا هو السؤال الذى يتعين علينا أن نجيب عليه،
ونتصرف وفق متطلباته، والباقى كله حسابات سهلة يمكن تسويتها فيما بعد... ما هو
الهدف؟ هذا سؤالى لكم دائماً". وكان عمله متواصلاً لا ينقطع. وكانت صورة كل ما يجرى
حول شواطئ البحر الأبيض واضحة أمامه، بالعلم وبالفهم وبالضرورة القصوى لحفظ قوى
النضال العربى كشرط لازم لاستمرار المعركة ضد إسرائيل. وأهم من هذا كله.. أن ذلك
الإنسان العظيم - وسط ما كان من حوله ودوره هو فيه - كان يعرف حقيقة ما به، وكان
يدرك مخاطر ما يقوم به من عمل وما يعانيه من انفعالات، على صحته المثقلة بالألم،
وعلى قلبه الجريح من جلطة جاءته تحذيراً فى سبتمبر سنة 1969. وأقول لنفسى الآن،
ولم تعد هناك جدوى من أى قول: "كأنه كان يعرف."
وأقول لنفسى الآن، وقد فات الأوان:
"كيف لم أفهم؟ وكيف فاتنى المعنى الحقيقى لإشارات سمعتها منه، وكان يجب أن أتوقع
منها ما حدث، ولا أفاجأ بلحظة الرحيل، وأجدنى أياماً بعدها عاجزاً عن التصديق، وأياماً
تليها، عاجزاً عن التصور"؟!.
وتجيش فى أعماقى الآن مشاعر متناقضة ملتاعة، وأنا أتذكر بعض ما سمعت من إشاراته،
وأنظر إليها على خلفية ما أعطى من جهد وأعصاب فى أيام الأزمة فى الأردن:
* قوله مرة، وكنت أحدثه عن عمله، الذى يفوق طاقة احتمال صحته... بل طاقة أى بشر،
حتى وإن كان فى تمام صحته، وكان قوله:
..."فى مثل ظروفى، لا أستطيع أن أتصرف إلا كما أتصرف الآن... وعلى أن أتحمل النتائج
كيفما تكون!". وقوله مرة أخرى، وكنا نتحدث فيما بعد الحرب، وعن اعتزال السياسة عندما
يتحقق النصر، وكيف يجب أن نجلس معاً ونحن شيوخ لكى نكتب مذكراتنا عن قصة جيلنا، وحتى
تبقى للأجيال، وكان قوله:
"لا تعتمد على فى ذلك... لا تنتظرنى فى الشيخوخة... إن من يعيش الحياة التى أعيشها
لا يطول به العمر".
ثم يستطرد:
"لا أظننى سأصل إلى الشيخوخة... لا تنتظرنى هناك!".
* وقوله مرة ثالثة، بعد النوبة القلبية الأولى، وكان حديث الاعتزال يتردد بين وقت وآخر فى
خواطره بصوت عال أمامى، وكان قوله:
"أحياناً أفكر... هل أستطيع أن أعتزل... لا أعرف!... يخيل إلى أنه ليس أمامى خيار... إما
أن أكون هنا فى المسئولية، أو أكون هناك فى القبر!".
* وقوله مرة رابعة، فى أعقاب خطابه فى المؤتمر القومى الأخير، يوم 23 يوليو، وكان قد عاد
إلى بيته واتصل بى تليفونياً، وتصورت أنه سوف يتحدث عن أصعب ما كان فى خطابه ذلك
اليوم، وهو قبوله لمشروع روجرز، ولكنه بدأ بشىء آخر، وكان قوله:
"لقد كنت متأثراً اليوم وأنا أعلن انتهاء بناء السد العالى... كنت أتمنى أن أعيش إلى اليوم
الذى أعلن ذلك فيه... إن السد العالى كان يعنينى كرمز، وإتمام بنائه يعنى بالنسبة لى
شيئاً كبيراً".
ثم يضيف بالحرف:
- "يستطيع الواحد أن يموت غداً مطمئناً إلى أن "الناس" هنا يستطيعون تحمل كل شىء،
ويستطيعون تحقيق كل شىء!"
* وقوله مرة خامسة، فى أواخر الأيام، وكنا فى فندق هيلتون أثناء أزمة الأردن، وكنا جلوساً
على الغداء، وكان معنا أنور السادات وحسين الشافعى وعلى صبرى، وكان حديثنا عما
يجرى فى الاجتماعات، وتساءلت أنا:هل سيجىء يوم نكتب فيه وقائع هذه الأيام كما نراها
أمامنا.. والتفت ناحيتى على مسمع من الكل، وكان قوله:
" أنت المسئول عن ذلك فى يوم من الأيام... إنك تعرف كل شىء... وأنا لم أحتفظ بأوراق
خاصة لى... وأنت تتحدث عن الإحساس بالتاريخ دائماً، والكتابة صناعتك... ولك أن تتصرف
كما تشاء". والتفت يشهد الآخرين على ما يقوله. ووجدتنى أقول بسرعة:
"مازال أمامنا وقت طويل قبل أن يجىء أوان الكتابة عن هذه الأيام".
وكان رده على:
- أريد أن أخلى مسئوليتى أمام التاريخ... ثم "ليطمئن قلبى"!.
* ثم قوله فى اليوم الأخير... يوم الرحيل. وكان قد اتصل بى تليفونياً فى الساعة الواحدة ظهراً.
وأحسست أنه منهك مجهد. وسألته عما إذا كان من الضرورى أن يذهب إلى المطار لوداع أمير
الكويت، وكان آخر المسافرين من القاهرة بعد إنهاء اجتماعها الكبير، وكان قوله:
"لابد أن أقوم بالواجب إلى النهاية... وعلى أى حال فهذا هو الوداع الأخير...".
وأحسست بعبارته تغرس فى قلبى كأنها سكين، وشعرت بضيق غريب. ووجدتنى أقوله له:
"تقصد أنه وداع آخر واحد من الملوك والرؤساء العرب الموجودين فى القاهرة".
وقال:
"ما هو الفارق بين ما قلته أنا، وما قلته أنت..؟".
ولم أشأ أن أفصح عما أحسست به، واكتفيت أن أقول:
"لا شىء فى الواقع".
وأترك هذه الإشارات وأعود إلى ما كنا فيه.
|