عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 13-06-2015, 08:53 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
العمر: 61
المشاركات: 4,132
معدل تقييم المستوى: 15
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

السيرة ووجوب معرفة أحوال الجاهلية (4)



وليد بن عبدالعظيم آل سنو



ثالثًا: أدلَّة تتجلَّى من خِلال الواقع:
"الإنسان مكوَّن - كما يخبرنا العليم الخبير - من قبضةٍ من طين الأرْض ونفخةٍ من رُوح الله، فإذا كفر الإنسان وألْحد فقد أغلق النَّافذة التي يستمدُّ منها النُّور، ولم يبقَ له إلا عتامة الطين وغلاظة الحس؛ أي: لم يبق له إلا الماديات والمحسوسات، إليها يتطلع وفيها ينفق الجهد وإليها يعود، وعندئذ تجذبه ثقلة الأرض فلا يستطيع أن يتوازن إزاءها؛ لأن الذي يمنحه التوازن إزاءها هو انطلاقة الروح التي تصل قلبه بالله، وتجعله يؤمن باليوم الآخر ويعمل حسابه فى جميع أفعاله وأقواله فلا يسفل ولا يتدنى، فإذا فقدها فقَدَ توازنه وأصبح أسفل سافلين؛ كما يخبر الله عنْه في كتابِه الكريم"[1].

وتبعًا لهذه الازدواجية تختلِف القيم والمعايير، ويكون لكلّ من الإسلام والجاهليَّة معالم.

مثال: العفاف والفجور كلّ منهما يدل على معلم من معالم التجارب الإنسانية، فالعفاف هو ذرْوة الفضائل في معالم التَّجربة الإسلاميَّة.

والفجور أهمّ معالم التَّجربة الجاهليَّة مطلقًا، فكان المعْلم الأوَّل وهو "العفاف" والدعوة إليه دليلاً على صِدْق النبوَّة عند هرقل[2]، وفي قول أبي سفيان - رضي الله عنه -: "أمرَنَا بالصَّلاة والصّدق والعفاف"[3]، تستشعر القيمة العليا لتلك الحقيقة.

وكان الأمر بالعفاف في نص البيعة على الإسلام: ((بايعوني على ألاَّ تُشْرِكوا بالله ولا تزْنوا))[4]، وكان أوَّل أعمال النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - في المدينة بعد بناء المسجد هو إقامة حدِّ الزِّنا على يهوديَّين بمقتضى حكم التوراة، وكذلك كان أوَّل أوامر للنَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - في مكَّة بعد فتحِها قوله: ((لا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان))[5].

وأمَّا معْلم الجاهليَّة - الفجور - فهو: الوجه المخالف للعفاف؛ لأنَّ أهمَّ معالم الجاهلية "العرْي والعهْر والزنا"؛ ولذلك كان الهدف الأسمى لأيّ جاهليَّة هو العمل على انتِشار الفوضى بين الرّجال والنساء، وتلك هي علاقة الشيطان بالجاهليَّة.

ولذلك قال ابنُ عبَّاس - رضِي الله عنْهما -: "لَم يكفُر مَن مضى إلاَّ من قبل النّساء – أي: بسببهنَّ - ولا كفر مَن بقي إلاَّ من قِبَل النّساء".

وقال أيضًا: "الشيطان من الرجُل في ثلاثة: في نظره وقلبه وذكره، وهو من المرأة في ثلاث: في بصرها وقلبها وعجزها"[6].

يقول فضيلة الشَّيخ محمَّد المنجد - حفظه الله -: "فالقضيَّة كلها تدور على الإغْراء والإغواء بالمرأة"[7].

إنَّ نقطة تحوّل المجتمع من مجتمع أخلاقي إلى مجتمع جاهلي مع الاحتفاظ بتلك العبادة والتَّقاليد الإسلامية، وبقائه على قول: "لا إله إلا الله" - هي انتشار الفوضى ال***يَّة؛ ولذلك جاء التَّحذير الصَّريح في الحديث الصَّحيح: ((اتَّقوا الدنيا واتَّقوا النساء؛ فإن أوَّل فتنة بني إسرائيل كانت في النساء))[8]؛ وذلك لأنَّ الجاهلية تحارب "وجود أي قيمة أخلاقية"[9].

وهذا يفسّر لنا سرَّ انتشار الانحراف؛ كما قال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((ما تركت بعدي فتنة أضرَّ على رجال أمَّتي من نسائها))[10].
قال العلامة صدّيق حسن خان - رحِمه الله - في كتابِه "حسن الأسوة": "ووجه كونهنَّ فتنة لأنَّ الطباع تميل إليهنَّ كثيرًا، وتقع في الحرام لأجلهنَّ، وتسعى للقِتال والعداوة بسببهنَّ، وأقلّ ذلك أن ترغِّبه في الدنيا وإفسادها أضرّ"[11].

وقال الحافظ ابن حجر - رحِمه الله -: "ومع أنَّها ناقصة العقل والدّين فإنَّها تحمِل الرجال على تَعاطي ما في تَعاطيه نقصُ العقل والدين، كشغْلهم عن طلب أُمور الدين وحمْلِهم على التَّهالُك على طلَب أمور الدنيا".

ومن أسباب كوْن المرأة فتنة قوله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((المرْأة عورة))، كلُّها عورة لم يستثْنِ وجهًا ولا كفَّين أمام الرّجال، ((فإذا خرجتِ استشرفها الشَّيطان)).

قال المباركفوري - رحِمه الله -: "أي: زيَّنها في نظر الرجال، وقيل: أي: نظر إليها ليغْوِيها ويغوي بها، فيجعلها هدفًا منصوبًا ملفتًا لينظر إليها الرّجال، فهي وسيلته لإغواء الناس".

يقول رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية، وكل عين زانية))[12].

يقول الأستاذ المودودي - رحمه الله - في كتابة "الحجاب" تحت عنوان "فتنة الطيب": "والطيب رسول من نفس شريرة إلى نفس شريرة أخرى - يريد: إذا كان العطر من المرأة في الطريق - وهو ألطف وسائل المخابرة والمراسلة ممَّا تتهاون به النظم الأخلاقية العامَّة - يريد: غير الإسلامية - ولكن الحياء الإسلامي يبلغ من رقَّة الإحساس ألا يهْمل حتَّى هذا العامل اللَّطيف من عوامل الإغراء، فلا يسمح للمرأة المسلمة أن تمرَّ بالطُّرق أو تغشى المجالس متعطِّرة؛ لأنَّها وإن استتر جمالُها وزينتها ينتشر عطرها في الجوّ ويحرك العواطف"[13].

فهذا الانحراف ال***ي هو الخطر الأكبر على رجال الإسلام خاصة؛ لأن الرجال هم طاقة الدعوة[14].

وكذلك بين الرسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أنَّ الزّنا جريمة الكيان الإنساني كلِّه؛ فقال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((العين تزني وزناها النظر، واليد تزني وزناها اللمس، والقدم تزني وزناها المشي، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه))[15].

"وبمعنى هذا الحديث يتأكَّد لنا أنَّ الانحراف ال***ي يستهلك ويهدم الشخصية الإنسانية، ومن هنا كان حدّ الزّنا هو الرجْم بمعناه المباشر، وهو إنْهاء وجود هذا الكيان المنحرف، وخطر ال*** باق أيضًا باعتبار أنَّه يتحوَّل إلى طاقة للتحرّك بأيّ قضيَّة باطلة يعتنقها الإنسان المنحرف، ومن هنا كانت الغريزة ال***يَّة هي الطاقة الأساسيَّة للحركة الجاهليَّة"[16].

والذي يؤكد هذه الحقيقة هو دفْع النساء المشركات للرجال المشركين لقتال المسلمين في غزوة أحد بقولهنَّ:
إِنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ وَنَفْرِشِ النَّمَارِقْ أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ فِرَاقَ غَيْرِ وَامِقْ
هذا التَّصريح ال***ي هو حقيقة الجاهلية، التي تجعل المكافأة لأي عمل هو ال***؛ ولذلك جاء المقياس الصحيح للوضع الاجتماعي الأمثل في سيرة النَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وكأن السيرة هي الحماية من هذا الضغط ال***ي الجاهلي وتلك الفوضى الأخلاقية والدعوة لثقافة الجسد العاري، ففهم السيرة وفق النمط الصحيح من خلال رجال السيرة "أصحاب الرسول" يعلمنا كيفية الحماية من الانحراف، والدليل على أنَّ الجاهلية تركز على ال*** كقضيَّة أساسيَّة هو:
1- تفريغ الشباب عقائديًّا، فلا توجد في حياته قضيَّة مثالية يعيش لها؛ بمعنى: فقد القدوة المُثلى مع وجود قدوات أخرى تعمل في نفس المقتدي بالهوى والأماني، فتوافق شهواته ورغباته.
2- إشغاله بقضية الحبّ الجاهلي؛ لتصبح هذه المحبوبة هي القضية الكبرى له، يعيش من أجلها ويتعذَّب من أجلها ويبكي من أجلها، مع تصوّر أنَّ الحبَّ هو القيمة الأعلى لل***، مع أنَّ "ال*** والحبّ لم يكونا أبدًا توءمين"[17].
3- التصور الإسلامي الصَّحيح ومن خلال نتاجه الفكري الضَّخم يعدّ معضلة هائلة للسلْطة الجاهلية، حيث لا توجد لها قوة فكرية مقابلة، اللهُمَّ إلا نظريات مهترئة يعلم أهل السلْطة هزالها وسطحيَّتها، وعدم مقاومتها ولو هنيهة إذا قارن العقل البشري بيْنها وبين الفكر الإسلامي، بل وإذا نقدها فقط بمنطق الفطرة وبداهة الحق والاعتدال، ولكنَّهم مع ذلك ينشرون هذه الأفكار ويُحيون الغابر منها معتمدين على الضَّوضاء الإعلاميَّة، وكثرة التكرار لتصيد مَن تصيد من ناحية، وبتغييب الإنسان في الفقر والمجاعات من ناحية أخرى؛ حتَّى لا يقوى عقله على النقد، وإن نقد استنفدت طاقته في المعاش، فيبقى نقدًا فاقدًا للحركة والبناء الفكري والاجتماعي، ولكن كل ذلك لا يصل بالجاهليَّة إلى عمق القلوب كما يصل الإسلام إلى عمقها، والإسلام يصل بفكره إلى القلوب عن طريق العقل، ولكن الجاهلية لا تقوى على ذلك، فتلجأ إلى الدخول إلى القلوب عن طريق غير عقله - وهو ال*** - حيث يعد الانحراف ال***ي عنصرًا أساسيًّا في الحفاظ على الحكم الجاهلي من ناحيتين:
الأولى: عدم قدرة الإنسان الواقع في منهج الانحلال وفلسفة الحب الجاهلي على القيام برسالة الإسلام؛ لأنَّ ال*** يشمل كيان الإنسان كله بخلاف الغرائز والميول الأخرى، فإذا كان غير إسلامي كان كيان الإنسان كله غير قادر على القيام لله وللإسلام، وقد جعله الله سبيلاً سيئًا؛ فقال: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]؛ أي: إنه ليس عملاً فقط؛ ولكنَّه قد يكون منهجًا وسبيلاً وطريقة حياتية.

قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في التَّعليق على هذه الآية: "جعل الله - سبحانه وتعالى - سبيل الزّنا شرَّ سبيل؛ فقال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}، ومقيل أهلها في الجحيم شر مقيل، ومستقرّ أرواحهم في البرزخ في تنّور من نار تأتيهم فيها من تحتهم، فإذا أتاهم اللهب ضجّوا وارتفعوا ثمَّ يعودون إلى موضعهم، فهُم هكذا إلى يوم القِيامة كما رآهم النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - في منامه، ورُؤى الأنبياء وحي لا شكَّ فيها"[18].

ويقول الشَّيخ محمود مهدي الإستانبولي - رحمه الله -: "وقد شدد الإسلام حرصًا على كيان الأسرة عقوبة الزاني المحصن، وهي شريعة التوراة كما هي شريعة الإسلام، فما بال أعداء الإسلام يتَّهمونه بالقسوة في هذه العقوبة ولا يتهمون غيره؟! مع أنَّه جعل لها شروطًا دقيقة لا يتَّسع المقام لذكرها لتكون رادعة".

وقد سئل الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي عن حكمة رجْم الزَّاني المحصن ومثله الزَّانية، فأجاب في كتابه "وحي القلم": "لأنَّه هدم بيت؛ فيجب أن ي*** بحجارته؛ لأنَّه لا داعي إلى هذا الزِّنا ولا مبرِّر، فالرَّجل والمرأة اختار كلٌّ منهما الآخر بملء حرّيَّته"[19].

يقول الإمام ابن القيم - رحِمه الله -: "والزِّنا يجمع خلال الشَّرّ كلَّها من قلَّة الدّين وذهاب الورع، وفساد المروءة وقلَّة الغيرة، فالغدْر والكذِب، والخيانة وقلَّة الحياء، وعدم المراقبة، وعدم الأنَفة للجرم، وذهاب الغيرة من القلب - من شعبِه وموجباته.

ومنها الوحشة التي يضعها الله - سبحانه وتعالى - في قلب الزاني، ومنها ضيق الصدر وحرجه، ولو علم الفاجر ما في العفاف من اللذَّة والسُّرور، وانشِراح الصدر وطيب العَيش لرأى أنَّ الذي فاته من اللذَّة أضعاف ما حصل له، مع ربح العافية والفوْز بثواب الله وكرمِه، ومنها أنه يعرض نفسه لفوات الاستِمْتاع بالحور العين في المساكن الطيِّبة في جنَّات عدن"[20].

وقد أخبرنا الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - عن زنا العَين والسَّمع واليد والرِّجل والنفس، وهذا دليل على شمول هذه الحالة لكيان الإنسان.

الثانية: أنَّ ممارسة الحب الجاهلي تكون من خلال منهج اجتماعي وسياسي يسمونه "الحرية"، ويتشرَّب قلب الإنسان نظرية الحريَّة هذه لا عن طريق العقل؛ ولكنَّها تكون مغموسة ومندسَّة في حلاوة الانحراف ولذاذة الحبّ المحرَّم، وكلَّما مارس الانحراف مارس معه ضرورة "الحريَّة"، فتتحوَّل هذه الحريَّة في قلبه إلى عقيدة اجتماعيَّة، عنها ينافحُ منافحتَه عن عمره الجميل وصباه الباكر وغير الباكر، ولك أن تلاحظ اهتِمام بعض الحكَّام بإيصال الكهرباء في نصف القرْن الغابر إلى كلّ بقعة تقع تَحت حكْمِه ليصلَ بالتلْفاز إليْها، ولك أن تلاحظ الجاهليّين في ترْكيا وهم يحرصون على رفْض الحجاب في الجامعات حتَّى تنفض المستقيمات عن الجامعات، وتظلّ النّخبة الفاعلة في المجتمع من المؤمنات بالنَّظرية الجاهليَّة "الحرية"، وقرأت لبعضهم وقد اختار أن يتحدَّث عن استشهاديَّة فلسطينيَّة متبرِّجة، فاختار المتبرِّجة وحكى حوارها مع حبيبها في الهاتف قبل أن تفجر نفسها، وكأنَّه كان حاضرًا معهما وإن كانا متباعدين.

واليوم يخصصون مدنًا بأكملها لغير المختمرات، حيث يوجد النوابغ والنُّخبة الجادّين المنحلّين من الالتزام الإسلامي، ولك أن تندهش من إصْرار أمريكا على الدّفاع عن حقوق الشواذّ في بلاد الإسلام، بل وانزِعاج الغرْب من حالة زنا كان سيطبَّق عليْها حكم الرجْم في ماليزيا، وقام العالم على قدَم وساق لمنعها.

وإذا أردت أن تعرف خطورة الأمر فتأمَّل الأعداد الكبيرة المتظاهرة في تركيا رفضًا للحِجاب في الجامعات؛ حفاظًا على علْمانية الدولة؛ أي: حفاظًا على نمط حياة كلّ فرد منهم وعشقه لمرحلة سابقة من حياته، تشرَّب فيها الإيمان بالحرية العلْمانيَّة، وتزداد معرفتك إذا تنبَّهتَ أنَّ هؤلاء المتظاهِرين والمتظاهرات مسلمون ومسلِمات.

"واعترافنا بالحب كحقيقة إنسانيَّة واقعة إنَّما هو اعتراف مجرَّد من أي مدلول له في الواقع الجاهلي، وهذا التحفظ في غاية الأهمية؛ إذ إنَّ الحب في الواقع الجاهلي ما هو إلا ظاهرة من ظواهر الانحراف الجاهلي؛ وذلك لأنَّ الحب الجاهلي (ما هو إلاَّ محاولة لملء فراغ الإنسان الجاهلي وإثبات ذاته)؛ لأنَّ الجاهلية (في حقيقتها) واقع فراغ فكري ووجداني، وخطورة إثبات الذَّات من واقع الفراغ على علاقة الإنسان بالدَّعوة تأتي باعتِبارها استهلاكًا للخصائص الطبيعيَّة في الإنسان، والَّتي تحقّق فيه إمكانيَّات تحمل تكاليف الرِّسالة، وهي إمكانيَّات قائمة في كل إنسان، حيث إنَّ الله - سبحانه وتعالى - خلق الإنسان مهيأً بتلك الخصائص لأن يكون صاحب رسالة، ودلائل هذه الإمكانيات هي: القدرة على الحياة بقضية الرسالة وتصور الوجود من خلال تلك القضية، والقدرة على مواجهة أي واقع مخالف لهذا التصور[21].

وعندما يحب الإنسان الجاهلي من الفراغ فإنَّه بهذا الحب ينطلق نحو مَن أحبَّها بخصائص الرسالة الكامنة فيه؛ لأنه يعيش بلا قضية، فتتحوَّل تلك التي أحبها إلى قضيته التي يحيا بها، ويتصوَّر الحياة من خلاها، ويسعى إلى الارتباط بها محطمًا في سبيل ذلك أي عقبة، وآثار الحب في الواقع الجاهلي هي الدليل على هذه الظاهرة، فعندما يمارس الجاهلي حبًّا فإنه يحب إلى حدّ العبوديَّة، وعندما يفشل في حبه فإمَّا أن يصاب بالجنون بعد طغيان إحساسه بمن أحبها على عقله وواقعه، أو يصاب بالانطِواء كصورة من صور الكفر بمبدأ "العلاقة" بعد فشله في علاقته بمن أحبها، أو ينتحِر كصورة من صور الرفض لحياته التي كان لا يتصوَّرها إلاَّ من خلال علاقته التي فشلت، وهذه هي الآثار الأساسية للحب في الواقع الجاهلي، وبذلك يكون الخطر الحقيقي على الإنسان عندما يمارس حبًّا جاهليًّا هو عجزه تمامًا عن أن يكون صاحب رسالة.

واعترافنا بالحبّ كحقيقة إنسانية واقعة، وتجريد هذا الاعتراف من أي مدلول له في الواقع الجاهلي يقتضي أن نناقش حالة خطيرة في حياة الدعاة، وهي دخول الإنسان في واقع الدعوة وهو يحمل في قلبه حبًّا قد بدأه في الجاهلية، ولم يتمكَّن من التخلص منه بعد دخوله واقع الدعوة، وهذه الحالة لها ثلاث نتائج مؤكَّدة:
أوَّلاً: إما أن تكون هذه المشاعر أساسًا للدعوة من الطرف المسلم في العلاقة إلى الطرف الآخر للالتزام.
ثانيًا: وإمَّا أن تكون هذه المشاعر فتنةً للطرف المسلم في العلاقة عن دعوته ودينِه.
ثالثًا: وإمَّا أن تنتهي هذه العلاقة.

وهذا يعني أنَّ التفكير في إنهاء العلاقة إنَّما يكون بعد محاولة تحقيق النَّتيجة الأولى وهي الدعوة، وحذرًا من الوقوع في النتيجة الثانية وهي الفتنة، ونتفق ابتداءً على أنَّ الإيمان الصحيح يحمي صاحبه من الفتنة، ولكن يجب أن نتفق كذلك على أنَّ الأمر يتطلب معالجة وجدانية مباشرة، ذلك أن الإيمان الصحيح يحقق غلبة الالتزام من حيث السلوك، ولكن المشاعر تظل باقية"[22].

"إن البشرية اليوم تعاني من الخواء المرير .... تعاني من الهجير المحرق الذي تعيش فيه بعيدًا عن ذلك الظل الوارف الندي، ومن ثم تجد الشَّقاء والقلق والحيرة والاضطراب، وتحس الخواء والجوع والحرمان"[23].

"فالبشريَّة اليوم تقف على حافة الهاوية بسبب إفلاسها في عالم القيم، التي يمكن أن تنمو الحياة الإنسانيَّة في ظلالها نموًّا سليمًا وتترقى ترقِّيًا صحيحًا"[24].

فالجاهلية تسير في طريقها الشاق الذي اختارته لطمس الحق وانتشار الظلام؛ لذلك عملت على جعل ال*** يبلغ أعظم تأثير له في الكيان الإنساني، فاتَّجهت بهذا العمل إلى التعويض أو البديل فارتكزتْ كل جاهلية على ظاهرة التعويض أو البديل، فكان ال*** هو طرف التَّعويض عن الدين والانشغال التَّامّ عن القيام بحقيقة هذا الدين وحقيقة العبوديَّة؛ ليشغل ال*** موضع التأثير العميق في النفس الإنسانية.

"فكما كانت العبادة هي العلَّة الغائية للوجود الإنساني، كان ال*** هو العلة السببية لهذا الوجود؛ بمعنى: أنَّ العبادة غاية وال*** سبب، وكما كان الخروج عن الصورة الصحيحة للعبادة خروجًا عن (الغاية الأساسية) للإنسان، كان أيضًا الخروج عن (الصورة) الصَّحيحة لل*** هو خروج عن (الفطرة) الإنسانيَّة[25].

ولذلك "كان رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يؤكّد هذا التوافق، فكان يصلي في فراش عائشة، وكان يقول: ((حبِّب إليَّ من دنياكم: الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة)).

وبذلك يثبت التجانس بين العبادة وال***؛ ولذلك كانت العبادة وال*** هما المعيارين الأساسيين في تكوين الشخصية الإنسانية؛ ولكن "الجاهلية" عندما أرادت إلغاء جانب العبادة في تكوين الشخصية الإنسانية كان لا بدَّ لها أن تستبدل العبادة بالشَّهوة والفاحشة، لينشأ التضادّ الذي يذهب بالعبادة، فكانت الخطوة الأولى هي ما جاء في قول الله - سبحانه وتعالى -: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59].

ومن هنا نشأ التضادّ بين العبادة وال*** عندما يكون انحرافًا وفاحشة، وكان ذلك تفسير قول الله: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45]، وبذلك يضيع المعنى الإنساني للمعاشرة الزوجية الصحيحة حيث يتحوَّل الإنسان بالفاحشة إلى الدرك الحيواني؛ كما قال رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((فتبقى فئة تقذرُها نفس الله يتسافدون تسافُد الحمُر)).

فكلٌّ من العبادة وال*** استيعاب كامل لكيان الإنسان؛ فمن حيث العبادة قوله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - إذا قام للصلاة كما عند الإمام مسلم من حديث عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أنَّه كان إذا قام إلى الصَّلاة قال: ((وجَّهتُ وجْهي للَّذي فطر السَّماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين، إنَّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين، لا شريكَ له وبذلك أُمِرْت وأنا أوَّل المسلمين، اللَّهُمَّ أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربّي وأنا عبدُك، ظلمتُ نفْسي واعترفتُ بذنبي، فاغفِرْ لي ذنوبي جميعًا إنَّه لا يغفِر الذُّنوب إلا أنت، واهْدني لأحسنِ الأخلاق لا يَهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيِّئَها لا يصرف عنِّي سيِّئها إلاَّ أنت، لبَّيك وسعديْك والخير كلّه في يديْك والشَّرّ ليس إليك، أنا بك وإليْك تباركتَ وتعاليتَ، أستغفرك وأتوب إليك))، وإذا ركع قال: ((اللهمَّ لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخِّي وعظمي وعصبي))، وإذا رفع قال: ((اللهمَّ ربَّنا لك الحمد ملْء السَّماوات وملء الأرض وملْء ما بيْنهما، وملء ما شِئْتَ من شيء بعد))، وإذا سجد قال: ((اللهم لك سجدتُ وبك آمنت ولك أسلمت، سجد وجْهي للذي خلقه وصوَّره وشقَّ سمعه وبصره، تبارك الله أحسنُ الخالقين))، ثمَّ يكون من آخر ما يقول بين التشهُّد والتَّسليم: ((اللهمَّ اغفِر لي ما قدَّمت وما أخَّرت، وما أسررتُ وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به منِّي، أنت المقدّم وأنت المؤخِّر لا إله إلا أنت))[26].

فيتبيَّن أنَّ حقيقة العبادة استيعاب للكيان الإنساني بصورة كاملة.

يتبع


رد مع اقتباس