توجيهات وتحقيقات في الأحاديث النبوية (14)
د. عمر بن محمد عمر عبدالرحمن
الحديث الرابع عشر
عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الإسلام بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، وهو يَأرِز بين المسجدين، كما تَأْرِزُ الحيَّة في جحرها))[1].
توجيهات وتحقيقات الحديث:
قد يقال: كيف بدأ الإسلام غريبًا؟ وكيف سيعود غريبًا كما بدأ؟!
الجواب:
قيل: إن معناه أنه نشأ غريبًا في مكة؛ حيث عاداه جمهور أهلها؛ فنشأ ضعيفًا بينهم، وسيعود في النهاية إلى ضعفه كما بدأ، ويؤيِّده قول النبي صلى الله عليه وسلم بعده: ((وهو يَأرِز بين المسجدين، كما تَأْرِزُ الحيَّة في جحرها)).
وذهب الشيخ العلامة/ محمد مصطفي المراغي - شيخ الجامع الأزهر، رحمه الله - في مقدمته لكتاب "حياة محمد" للأستاذ محمد حسين هيكل، إلى أن معنى الحديث: أن الإسلام ظهر بين قوم غرباء عنه - وهم أهل المدينة - بعد الهجرة إليهم، ونصرهم له، وأنه سيعود في النهاية إلى الظهور بين قوم غرباء عنه، يهديهم الله تعالى إليه. ا.هـ.
ولا شكَّ أن هذا المعنى - الذي ذهب إليه العلامة المراغي - يبعث الآن الأمل في عودة الإسلام إلى قوته بعد ما أدركه من ضعف، ولا يُوقِعُ في اليأس من هذا كما يوقع فيه المعنى الأول، ولكنه يبعده قوله صلى الله عليه وسلم: ((وهو يَأرِز بين المسجدين، كما تَأْرِزُ الحيَّة في جحرها))، وفي رواية: ((إن الإيمانَ ليَأْرِزُ إلى المدينة، كما تَأْرِزُ الحيَّة إلى جُحرها))[2].
وقد يحمل الحديث على ما حدث عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من ارتداد العرب عن الإسلام، فقد ارتدَّ جمهورهم عنه، ولم يبقَ على الإسلام إلا أهل المدينة وأهل مكة، فعاد الإسلام غريبًا بهذا بين العرب كما بدأ، إلى أن حاربهم سيدنا أبو بكر رضي الله عنه في خلافته، وأعادهم إلى الإسلام كما كانوا، ثم ما كان من فتحهم الممالك، وإظهارهم الإسلام في الخافقين، إلى أن أدركهم الضعف بتفرقهم وانحرافهم عن دينهم، ولا مانع من أن يعودوا إلى مثل ما كانوا عليه من القوة، ويعود الإسلام إلى ما كان عليه من الظهور.
((إن الإسلام بدأ غريبًا)): أكَّد النبي صلى الله عليه وسلم الجملة للاهتمام بالخبر؛ لغرابته بعد ما كان من ظهور الإسلام حين الإخبار به، ومن الناس من يكونُ قد نسي هذا بعد طول الزمن عليه.
((وسيعود غريبًا كما بدأ)): "يعود" فعل مضارع يعمل عمل كان الناقصة، واسمه ضمير مُستتر يعود إلى الإسلام، "غريبًا" خبره، و"الكاف" جارة، و"ما" مصدرية، وهي وما بعدها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، والجار والمجرور صفة لمحذوف والتقدير: عودًا كائنًا كالبدء.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((وسيعودُ)) آثر النبيُّ صلى الله عليه وسلم السينَ على "سوف"؛ للإشارة إلى قرب زمن عودته إلى غربته، وهذا يؤيِّدُ حَمْلَ الحديث على ما حدث عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من ارتدادِ العرب عن الإسلام.
((وهو يأرز)): وصَلَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بما قبله؛ للتوسط بين الكمالين، لاتفاقهما في الخبرية لفظًا ومعنًى، ولوجود الجامع وهو الاتفاق في المسند إليه.
((بين المسجدين)): "أل" للعهد العلمي، والمرادُ بهما مسجد مكة ومسجد المدينة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام.
((كما تأرز الحيةُ في جحرها)): تشبيه تمثيلي، شبه هيئةَ الإسلام في تجمعه في المدينة ومكة بعد انتشاره منهما بهيئة تجمع الحيَّة في جُحرها بعد انتشارها منه، بجامع الانتشار والتجمع فيهما.
تتمة:
جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء))[3].
قوله صلى الله عليه وسلم: ((فطوبى للغرباء)): "طوبى" مبتدأ، وسوَّغ الابتداء به أنه صفة لموصوف محذوف؛ أي: حياة طيبة، وقيل: عَلَم على شجرة في الجنة، "للغرباء" خبرُه.
"طوبى" وزنها فُعْلى - بضم الفاء، وأصلها طُيْبَى - بضم الطاء، فقلبت الياء واوًا لوقوعها بعد ضمة، وإنما كان أصلُها طِيبَى؛ لأنها مِن طاب يَطِيب.
وجملة "فطوبى للغرباء": خبرية لفظًا إنشائية معنًى، لأنه يراد منها الدعاء.
[1] رواه الإمام مسلم (146).
[2] رواه الإمام مسلم (147).
[3] رواه الإمام مسلم (145).