رد الدكتور مالك عونى مدير تحرير مجلة السياسة الدولية على السعودي إياد مدني
مما لا يعرفه الكثير من المصريين عما يسمى عام الرمادة والذي تزامن ذكره في كتب التاريخ مع العام الذي غزا فيه عرب شبه الجزيرة مصر، أنه لم يكن وواقعة المجاعة التي أصابت هذه المناطق القفر من البسيطة، حدثا استثنائيا في تاريخ قبائل شبه الجزيرة بل كان ظاهرة تتكرر حين يقسو الطقس على تلك القبائل ولا تجد ما تقتات عليه. ما جعل هذا العام مشهورا في التاريخ هو فتح مصر والشروع في نهبها، حيث أرسل الخليفة عمر يطالب واليه على مصر عمرو بن العاص بأن يوسع على قبائل شبه الجزيرة من خير مصر الذي ليس لعرب شبه الجزيرة فضل فيه بل هو نتاج هذه الأرض الطيبة ونتاج كد أهلها وجدهم.
واشتهر ما دار بين عمر وعمرو في كتب التأريخ الإسلامي نظرا لما كاله كلا منهما لصاحبه من اتهامات بالفساد وبالخيانة، لكن الأمر انتهى بأن أرسل عمرو للجائعين في شبه الجزيرة من خير مصر ما يتجاوز حتى حد العون والغوث، حيث أرسل لهم قوافل أولها في المدينة وآخرها في مصر وهو ما يفوق بكثير وقطعا حاجة هذه المئات المحدودة الجائعة التي اجتمعت حول يثرِب. لكن هذه المبالغة في إرسال خير مصر لم يكن لها من هدف سوى تكريس سلطة الخليفة وتبرير عبء الغزو للبلدان المجاورة وأخيرا تجاوز الخلاف الحاد الذي نشب بين العمرين وكاد يشي بالكثير من المستور بينهما.
لكن ما تم كان في التحليل الأخير نهبا صريحا لخير مصر ولكد المصريين وتعبهم الذي لم يسهم فيه العرب الغزاة بشيء، بل على حد ما ذكره عمرو بن العاص فإن سياسة الخليفة عمر في المطالبة بالإسراع في نهب مصر قبل الحصاد، كانت تنذر بخراب مصر وضياع خيرها.
ورغم أن مثل عام الرمادة لم يرد ذكره في التاريخ بعد ذلك، فقد طلب الخليفة عمر شق قناة بين النيل والبحر الأحمر لكي يسهل نقل خير مصر بعد ذلك إلى الجائعين في شبه الجزيرة، وهو ما يفسر سبب عدم تكرار ذكر الرمادة في التاريخ بعد ذلك. لقد نمت دولة العرب وازدهرت استنادا إلى نهب خير مصر وغيرها من البلاد التي تم غزوها. وليس في ذلك في الواقع بدع من الفعل، فذلك كان منطق العصر وسلوك كل القوى المستعمرة، ليس لقيم ولا لأخلاق من تأثير في منعه أو حتى تهذيبه. تلك كانت سياسة القوة والقهر ومنطقها ليس إلا.
ورغم رفض المصريين آنذاك إخبار عمرو بن العاص بموقع قناة سيزوستريس القديمة كي يحفر قناته مكانها، كي لا يتسع نطاق النهب ويعظم، فقد لعبت الخيانة دورها الحقير وأطلعه بعض المقيمين على أطراف الوادي على موقع القناة مقابل إعفاء من الجزية، وليس عن قناعة بعقيدة أو تأييد لحكم.
كان ذلك حال نهب مصر في العصور الوسطى والذي دفع المصريين ليكونوا أول الثوار في دولة العرب الناشئة. لكن حتى في العصور الحديثة لم يتوقف عطاء مصر للجائعين في شبه الجزيرة قرونا عدة متواصلة، مع قوافل المحمل والحجيج التي كان ينتظرها الجائعين في شبه الجزيرة مثلما كان ينتظرها أجدادهم، وصاحبها أفواج أالمعلمين والمهندسين والأطباء والعلماء والأساتذة في كل مجال الذين كانت الدولة المصرية تسدد رواتبهم إعانة لجائعي شبه الجزيرة.
أما الفلاح المصري فلم يسع يوما لنهب، وكان حين تقسو عليه الظروف يتقشف مثلما أشار الرئيس السيسي ويعاود دورة كده وجده ويعيد إنتاج خير هذه الأرض. وحتى حين اختلت الموازين وازدادت إيرادات البترول الريعية في شبه الجزيرة، لم يسع المصريون لنهبها مثلما تعرضت بلادهم قديما، بل أسهموا في عمران شبه الجزيرة ونمائها لأن هذا هو فقط ما تعلّموه من آلاف السنين.
ليست سخرية السعودي إياد مدني من دعوة الرئيس السيسي للمصريين لاستعادة ذاكرة التقشف إلا مسلك من يشبع بعد جوع لكن الأهم هو تعبير عن إحباط المأزومين وراء أسوار القصور السعودية جراء تيقنهم من عدم إمكانية شراء الدور المصري.