أسرار لم يذكرها البرادعى فى بيانه الأخير
د. عمار علي حسن
- من النسخة الورقية
- سألت البرادعى عما إذا كان قد قرأ عن تاريخ الإخوان فأجاب بالنفى.. فنصحته أن يلتقى كمال الهلباوى ومختار نوح
- أرسلت للبرادعى وحجازى رسالة بعد زيارة جون ماكين إلى مصر نصها «ما تفعلونه قد يؤدى إلى تدويل القضية»
- البرادعى قال لى إن الثورة على الإخوان كانت حتمية وأن تدخل الجيش كان ضرورة.. لكنه أظهر تخوفه من فض الاعتصامات بالقوة
فى بيانه الذى صدر قبل أيام لم يأت الدكتور محمد البرادعى على ذكر محاولته فتح باب للتفاوض مع الإخوان حول فض اعتصام رابعة والنهضة سلميا من دون جدوى، وهو الذى ترك الجميع لما يزيد على ثلاث سنوات فى تساؤلات عن خلفيات استقالته من منصبه كنائب لرئيس الجمهورية.
فالبرادعى لاذ بالصمت، كل هذه المدة، ولم يبح المقربون منه بشىء عن هذه اللحظة التى انسحب فيها صامتا، وعاد يجلس أمام حاسوبه ينقر بأصابعه من جديد، لينتج تغريدات جديدة لا تشفى الغليل. فهل كان لدى البرادعى طريقة أخرى لمعالجة الأمور غير فض تجمعى رابعة والنهضة بالقوة؟ وهل طرح هذه الطريقة وتم رفضها؟ أم اكتفى بتضييع الوقت حتى حانت اللحظة التى تؤكد السلطة الحالية أنها لم تجد بديلا عنها فى ظل إصرار الإخوان على رفض ما ترتب على ثورة 30 يونيو وتأكيدها الذى جاء ظاهرا فى 3 يوليو و26 يوليو؟ وهل البرادعى كان يضع فصلا جديدا فى رحلته السياسية القصيرة التى اعتاد فيها الهروب والاكتفاء بالنقد اللاذع والاتصال عن بعد بمن يعولون عليه؟ أم كان يبتعد قليلا ليعود من جديد؟
ربما لدىّ بعض ما أقوله فى هذا المقام، وهو قد لا يجيب عن السؤال إجابة كافية شافية، لكنه يضىء جانبا لا يزال معتما، بفعل إنكار الإخوان، وصمت البرادعى، وتداعى الأحداث سريعا لتردم هذه اللحظة الفارقة.
والبداية كانت يوم 30 يوليو، حيث كنت متوجها لحضور لقاء لمناقشة الوضع الحرج الذى كان وقتها يضنى النفوس ويدمى القلوب ويحير العقول، بصحبة الدكتور محمد سعيد إدريس، الخبير السياسى المعروف، والأستاذ عبد الخالق فاروق، الخبير الاقتصادى المعروف أيضا، بمقر المجلس الوطنى، فى حى المنيرة، حين اتصل بى أحد الشباب وقال لى إن هناك أخبارا عن اعتزام البرادعى تقديم استقالته. فما كان منى إلا أن طلبت الرجل لأستفهم منه عما إذا كانت هذه الأخبار حقيقية أم هى محض شائعات مثل تلك التى لحقت به بغزارة منذ أن جاء إلى مصر قبل ثورة يناير؟
كان البرادعى قد اتصل بى قبل هذا بأسبوعين تقريبا ليعرض علىّ تولى منصب وزير الشباب فى حكومة الدكتور حازم الببلاوى، لكنى اعتذرت له، مثلما اعتذرت للدكتور مصطفى حجازى مستشار رئيس الجمهورية للشئون السياسية والاستراتيجية. وكان تبريرى وقتها أن المعركة الأساسية ضد الإخوان هى معركة فكرية، وليست أمنية، وأن دورى كباحث مختص بدراسة الحركة الإسلامية خصوصا، وعلم الاجتماع السياسى عموما، يجب أن يستمر فى هذا الاتجاه، وقبول الوزارة سيمنعنى من الاستمرار، وبعد رحيل الحكومة المؤقتة، ستكون شهادتى أو أقوالى مجروحة إلى حد كبير. ويومها أخبرت الدكتور البرادعى بأننى أبديت فى برنامج على قناة دريم، رفضى لتوليه منصب رئيس الوزارة، وفضلت أن يتولى منصب نائب رئيس الجمهورية لشئون التحول الديمقراطى والعدالة الانتقالية، أو للشئون الدولية والخارجية. وتفهم الرجل وجهة نظرى. وأخبرنى أنه أيضا يفضل ذلك، لأنه غير مستعد للاشتباك مع القضايا التفصيلية والملحة المرتبطة بالخدمات التى تقدم للمواطنين من تموين وصحة وتعليم وغيره.
اتصل الدكتور البرادعى بى فى وقت كنت أتلقى فيه مكالمة هاتفية من أحد الصحفيين، وبعد انتهائها وجدت رقما لا أعرفه،، إذ لم يكن رقم البرادعى مسجلا فى هاتفى الجديد، ولذا اتصل بى الكاتب الكبير الأستاذ إبراهيم عيسى ليخبرنى بأن الدكتور البرادعى يريد الاتصال بى ليعرض على وزارة الشباب. وجرى الاتصال بالفعل، وحدث فيه ما ذكرته، وزدت عليه مناقشة أسماء أخرى مع الرجل منهم الدكتور عمرو الشوبكى والأستاذ عبد الخالق فاروق والأستاذة جميلة إسماعيل، لكن الأمر آل إلى غير هذه الأسماء الثلاثة كما نعرف.
لهذه الملابسات ربما رد البرادعى على سريعا حين هاتفته يوم 30 يوليو لأستوضح صحة خبر استقالته من عدمه. يومها قال لى: هذا كلام عار تماما عن الصحة، وأنه يقع ضمن الشائعات التى تلاحقه، مبديا غضبه الشديد من بعض المقالات التى نشرت فى الصحف عنه، تهاجمه، وتحط من قدره، وتغمز فى قناته وتلمز، متهمة إياه بخيانة ثورة 30 يونيو، والتنسيق مع أطراف أجنبية ضد مصر، أو قيادة ما سموه الطابور الخامس لتفتيت السلطة، واحتضان الإخوان من جديد.
وقلت له: إنه لم يكن يمثل نفسه حين حضر إطلاق خريطة الطريق يوم الثالث من يوليو، إنما اختير من قبل القوى السياسية المدنية كلها، وخصوصا جبهة الإنقاذ، وأن وجوده فى السلطة حاليا هو امتداد لهذه الصيغة، ومن ثم فإن قرار استقالته قد لا يخصه هو فقط، إنما يعنى شركاءه، ويجب الرجوع إليهم فى هذا الصدد. وأبدى الرجل تفهمه لهذا الكلام، وقال إن الثورة على الإخوان كانت حتمية، وإن تدخل الجيش كان ضرورة، وإن مرسى وجماعته لم يحققوا مطالب ثورة يناير إنما خطفوها لصالحهم، وإنه وجد فى خريطة الطريق، وبعدها فى «السلطة» من أجل إعادة الأمور إلى نصابها، بحيث نبدأ بــ«الدستور أولا» كما كان يطلب دوما. لكنه أظهر تخوفه من نتائج أى تدخل أمنى لفض تجمعى رابعة والنهضة بالقوة، منحازا إلى ما سماه «فتح حوار» مع الإخوان لإنهاء تجمعهم بطريقة سلمية.
فقلت له: لا أحد يريد دماء، لكن التعامل مع الإخوان يتطلب معرفتهم جيدا، وسألته إن كان قد قرأ شيئا عن تاريخهم، فأجاب بالنفى. وأخبرنى إبراهيم عيسى بعدها بأنه نصحه بهذا، وجهز له بعض كتب فى هذا الصدد، لكن البرادعى لم ينشغل بالأمر، أو يأخذه على نحو جدى فى زحمة انشغالاته.
يومها أخبرنى البرادعى بوجهة نظره، لكنه لم يكن لديه طريقة لتحقيق هدفه، فنصحته بأن يجلس مع بعض العارفين بالإخوان ممن يثق الناس بهم، واقترحت عليه الدكتور كمال الهلباوى والأستاذ مختار نوح، فطلب منى رقميهما، فأرسلت له رسالة على الهاتف تحمل ما طلب. قبلها قلت له: إن كنت تريد إبراء ذمتك فلا بأس، لكن المسألة تحتاج إلى جهد مضن، لأن الإخوان يسعون إلى صناعة مظلومية جديدة، حتى يحافظوا على تماسك تنظيمهم، مهما كان الثمن.
وفى حوار مع الإعلامى شريف عامر على قناة الحياة يوم 4 أغسطس 2013 تحدث البرادعى عن اتصالى به، لكنه مسه خفيفا، مؤكدا وقتها أن المسألة بالنسبة له ليست إبراء ذمة إنما بحث عن حل لمعضلة حقيقية، وقال جملة معبرة مفادها: «ما أسهل إنى أؤيد فض الاعتصام بالقوة وأشارك فى إراقة الدم، لكنى أرفض العنف.. ودور أى شخص فى المسئولية إنه يقود مش يقاد».
وانقطعت علاقتى بالأمر، إلا من رسالة هاتفية بعثتها إليه يوم أن جاء جون ماكين إلى مصر، وأظهر انحيازه للإخوان ولوّح بمساندة أمريكية لهم. كان مضمون الرسالة، التى أعدت إرسالها إلى الدكتور مصطفى حجازى: «ما تفعلونه قد يؤدى إلى تدويل القضية وهذا ما يسعى إليه الإخوان»، ولم يرد أيهما على رسالتى، التى كنت أعلم بأنهما غير غافلين عن مضمونها، وأردت فقط تذكيرهما بما تسير إليه الأمور.
بعد استقالة البرادعى المفاجئة سألت الدكتور الهلباوى عما إذا كان البرادعى قد جلس معه من أجل فتح باب لفض طوعى لتجمعى رابعة النهضة، فقال: نعم. وشرح: اتصل بى وقابلته أنا ومختار نوح، وأطلعنا على وجهة نظره، وطلب فتح باب للجلوس مع قيادات الإخوان للتوصل إلى حل، وذهبت بالفعل وعقدت جلسات متتابعة، وكنا نسابق الزمن، مع عناصر فاعلة من الإخوان فى نادى «المقاولون العرب» على كورنيش النيل، لكن محاولتى باءت بالفشل لإصرار الإخوان على تراجع الفريق أول عبد الفتاح السيسى عن خريطة الطريق وإعادة مرسى إلى الحكم. وسألت الهلباوى: هل أبلغت البرادعى بهذه النتيجة؟ فأجاب: حاولت أن أصل إليه فلم أفلح. مرة رد على مدير مكتبه بالرئاسة وأبلغنى أنه لم يحضر اليوم، ومرات لم يرد أحد. ولهذا لم يجد الهلباوى سبيلا إلى إكمال ما بدأ، أو إبلاغ البرادعى بنتائج ما بذل من جهد، فى سبيل إنهاء الأمر بغير طريق القوة.
وهنا نعود إلى أشواك الأسئلة من جديد: ما الذى منع البرادعى من إتمام ما بدأه؟ هل قالت له جهة معنية: توقف فلا جدوى مما تفعل؟ أم أن البرادعى تصرف كالعادة، ووقف فى منتصف المسافة، مترددا عاجزا ساخطا؟ أم جاءه رد بطريقة معينة من قيادات الإخوان كان فظا غليظا متعجرفا مثلما فعلوا مع مبادرة الدكتور أحمد كمال أبو المجد أو غيره، فبلع الرجل لسانه؟ وما الذى جعل البرادعى بعد أن قال فى حوار شهير بجريدة «الشرق الأوسط» إنه يوافق على فض الاعتصام بالقوة إذا تصلب الإخوان ولم يفضوه طواعية يعود ويغضب لما جرى ويستقيل؟ وهل كان خلافه مع الرئيس ووزيرى الدفاع والداخلية حول التفاصيل فقط أم ماذا؟ ولماذا لا يرد البرادعى على من زعموا بأن تعليمات خارجية قد جاءته: انسحب، فنفذ على الفور؟ أم تلك التى تقول: لم تكن تعليمات من أحد إنما الرجل قيم أمره على رد الفعل الأولى للغرب على فض رابعة والنهضة فلما وجد غضبا وتجهما بنى حساباته على أن الانسحاب الآن أفضل له على المستوى السياسى؟
ستظل هذه الأسئلة معروضة ومطروحة بلا إجابات شافية حتى بعد بيان البرادعى الأخير، وربما يصمت، لأسباب عديدة، فتستمر العتمة راقدة فى كل المساحات التى تراجع عنها الرجل، ومنها ثورة 30 يونيو التى كانت قد أعادت إليه جمهورا فقده، فترك الحابل والنابل، وعبر المتوسط إلى القارة العجوز، ولا يزال هناك.