تابع
لماذا تبقى أزمات العملة في مصر طويلًا؟
في المؤتمر الصحفي الذي تلا قرار التعويم الأخير في 3 نوفمبر 2016، ظهر طارق عامر للرد على الاستفسارات الخاصة بتداعيات التعويم وأسبابه وما إلى ذلك.
استهل عامر إجابته عن سؤالين مختلفين بطلبه أن يقرأ الصحفيون ميزان المدفوعات حتى يستطيعوا فهم مجريات الأمور، أو حتى لا يسألوا أسئلة ساذجة. سأل عامر الصحفي بشكل مباشر: «انت قريت ميزان المدفوعات؟ … يا جماعة اقروا ميزان المدفوعات… إحنا عايزينكو تحللوا بقي مش تقولو كلام وخلاص». أحد هذه الأسئلة التي استدعى عامر ميزان المدفوعات للرد عليها، كان عن توقع المركزي لحصيلة تحويلات العاملين بالخارج بعد قرار التعويم. وإليك إجابة عامر بالنص:
«آه.. أنا عايز أفهمكو حاجة بقى.. مغلوطة.. (وعدل من جلسته على المقعد بطريقة متوترة أو للإيحاء بأن الكلام القادم مهم) لو بصيتو على ميزان المدفوعات، لا تحويلات العاملين بالخارج راحت، ولا الاستثمار الأجنبي راح، إنتو يا جماعة (يهز رأسه باستياء).. مش بنقرا.. والناس بتقعد تتكلم ويقولك الاستثمار مابيجيش، أولًا إحنا محققين أعلى رقم استثمار أجنبي مباشر منذ عشرة سنوات؛ السنة دي 6.8 مليار دولار.. (يقاطعه أحد الأصوات في القاعة فيسكته عامر) لا معلش ثانية واحدة عشان إحنا النهاردا بنكلّم الإعلام العالمي كله.. نمرة اتنين تحويلات المصريين العاملين بالخارج كانت قبل الثورة في 2010 تقريبًا تسعة مليار طلعت تدريجيا أصبحت 19 مليار.. (الشخص الذي يجلس بجواره على المنصة يهز رأسه بعنف دليلًا على الموافقة العنيفة ويقول «بالظبط» ثم يكمل عامر) إحنا عارفين إن الدول الخليجية السنة دي بتعاني من انخفاض أسعار البترول فانخفضت – يقصد قيمة تحويلات العاملين بالخارج هذه السنة – بقيمة 2 مليار دولار.. يعني لا علاقة لها بأي شيء.» قال عامر هذه الجمل في 51 ثانية.
وأعتقد أن هذه الـ51 ثانية قد تنافس بقوة على جائزة أكثر 51 ثانية تحتوي على مغالطات في التاريخ.
أزمة العملة المصرية الحالية والسابقة مرتبطة بشكل أساسي بندرة الدولارات في الجهاز المصرفي – هو لا يستقبل دولارات وبالتالي لا يستطيع أن يعطي دولارات، فتزدهر السوق السوداء – وبالتالي لكي تستطيع متابعة أزمة العملة المصرية يجب أن تتابع قدرة الجهاز المصرفي على إعطاء الدولارات للمستوردين مثلًا، وهذه القدرة مرتبطة بقدرته على جذب دولارات جديدة من الفاعلين الاقتصاديين كالعاملين بالخارج أو المصدَّرين. ولأن الأرقام الواردة بميزان المدفوعات المصري تصور الدولارات الداخلة والخارجة إلى مصر، وليس إلى الجهاز المصرفي، فإن متابعة أرقام ميزان المدفوعات لا تفضي إلى فهم دقيق لما يحدث للعملة المصرية.
من أكثر الأمور التي تُحدث لبسًا – وهو اللبس الذي يحاول عامر إحداثه عمدًا – في فهم طبيعة أزمات العملة في مصر ومدى قوتها هو تصور أن الفجوة بين الدولار الداخل والوارد إلى مصر هي ما تحرك أسعار الصرف، بينما تشير البيانات والمشاهدات الواقعية إلى أن الفجوة بين الدولار الخارج والوارد إلى الجهاز المصرفي أقدر على تفسير سبب استمرار الأزمات طويلًا أو سبب قوتها. فنسبة تنازل حاملي الدولار، مثل العاملين بالخارج أو المصدَّرين، عن دولاراتهم للجهاز المصرفي (يُقصد بالتنازل قبول صرف دولاراتهم بالسعر الرسمي في البنوك) تقل جدًا في وقت تحرك الدولار بعنف في السوق الموازية، وبالتالي قد تجد ارتفاعًا في تحويلات المصريين العاملين بالخارج أو ارتفاعًا في حصيلة الصادرات في ميزان المدفوعات، ورغم ذلك تبقى أزمة العملة المصرية قائمة أو تشتد قوتها رغم التحسن في الاقتصاد العيني، أو رغم أن التدهور في الاقتصاد العيني ليس بهذا العنف.
فنسب تنازل حائزي الدولار من مصدرين وعاملين بالخارج وقطاع السياحة عن دولاراتهم للجهاز المصرفي تختلف كثيرًا عن نسب صعود أو هبوط هذه الإيرادات في ميزان المدفوعات.
في المؤتمر الصحفي السابق ذكره امتنع عامر عن الإجابة عن أي سؤال مرتبط بحصيلة البنوك من الدولار، فهذه «أسرارهم» على حد تعبيره عندما قال مثلًا: «ارتفعت حصيلة البنوك من الدولار ثمانية أضعاف الحصيلة اليومية بعد قرار التعويم»، وعندما سأله أحدهم: «يعني كام الحصيلة؟» امتنع عن الإجابة قائلًا: «هذه أسرارنا»، كما امتنع عن إجابة أي سؤال عن نسب التنازل أو حصيلة البنوك السابقة أو الحالية من الدولارات. لم يكن يحيل إلا لميزان المدفوعات المصري، وليس ميزان مدفوعات الجهاز المصرفي.
لا يريد عامر، ولا أي ممن يتبنون سياسته النقدية، أن تعرف شيئًا عن التغير الذي يحدث في نسب تنازل حائزي الدولار عن دولاراتهم للجهاز المصرفي عند تحرير سعر الصرف. هو أكبر مأزق أو الفعل الأكثر حمقًا الذي تقوم به سياسات التعويم أو سياسات إيقاظ مضاربي الضوضاء.
لنعد لتجار الضوضاء لمتابعة ما يحدث في تدفقات الدولار في الجهاز المصرفي، ولنخض في الأرقام التي يراها عامر «أسرارهم». هذه الأسرار التي تؤكد أن التعويم الحالي لن يكون نهاية قصة هزيمة المركزي و هزيمتنا معه أمام تجار الضوضاء.
قريبًا نكمل هذه القصة لنعرف هل سيخرجنا التعويم منها، أو كيف سنخرج منها بعد فشل التعويم، في مقال أآخر
انتهى المقال الاول
ويتم اتباعه بالمقال الثانى
تابعونا