عرض مشاركة واحدة
  #11  
قديم 29-01-2017, 12:38 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 26,986
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond repute
افتراضي

المبحث الثالث

مقصود الطلاق والحكمة من مشروعيته


يحرص الفقهاء على دراسة مقاصد العقود والحكمة من مشروعيتها لتفسير ما يغمض عليهم من مسائل تلك العقود على ضوء مقاصدها المستنبطة ومعانيها الظاهرة التي ينحازون إليها عند تعارض دلالات النصوص الشرعية. وتختلف مقاصد الطلاق ومعاني مشروعيته باختلاف نظرة الفقيه وجهة استنباطه، ويمكن أن نجمل ذلك في اتجاهين.

الاتجاه الأول: يرى أن مقصود الطلاق هو إبقاء المعروف علامة مميزة له كما كان الزواج علامة مميزة له؛ لأن المعروف هو المقصد العام في علائق الناس كما قال تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا" (الحجرات:13). وإذا كان المعروف هو الراية التي تجمع الإنسانية في العموم فإنه الأشد مقصدًا في العلاقات الأسرية كما قال تعالى: "وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارًا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه" (البقرة:231). وقال تعالى: "وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير" (البقرة:237).

أما الحكمة من الطلاق فهي تمكين كل واحد من الزوجين بعد فكاك رباط زواجهما من تدبير شأنه مستقبلًا دون عائق أو ضرر، ودون تقديم مصلحة أحدهما على مصلحة الآخر، فليست إحدى المصلحتين أولى بالرعاية من الأخرى، كما قال تعالى: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحًا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف" (البقرة:228)، وقال تعالى: "وإن يتفرقا يغن الله كلًا من سعته وكان الله واسعًا حكيمًا" (النساء:130). ويكون انصراف كل من الزوجين إلى حال سبيله بعد استحالة العشرة بينهما، ولذلك جعل الله تعالى الطلاق على مراحل في قوله تعالى: "الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" (البقرة:229)، وجاءت الدعوة القرآنية للزوجين ببذل محاولات الصبر عند ابتداء الكراهية فقال تعالى: "وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا" (النساء:19).

الاتجاه الثاني: يرى أن مقصود الطلاق هو تعظيم الرضا في العقود واستمراره، فقد أقام الدين أمر العقود على التراضي لسيادة الناس على أنفسهم، كما قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم" (النساء:29)، وأخرج ابن عدي في "الكامل" بإسناد حسن وصححه السبكي في "طبقات الشافعية" عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل بني آدم سيد، فالرجل سيد أهله والمرأة سيدة بيتها". وإذا كان التراضي هو أساس العقود في معاملات الناس فإنه الأشد اعتبارًا في العلاقات الأسرية كما قال تعالى: "لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالًا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما" (البقرة: 233)، وقال سبحانه: "وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا" (النساء:4)، وقال جل شأنه: "فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها" (البقرة:229).

أما الحكمة من الطلاق فهي إراحة الزوج وتخليصه من رباط كرهه أو سئمه لرفع الضرر عنه. وقد نص الفقهاء على أن رفع الضرر من القواعد الفقهية التي يدل عليها الكتاب والسنة، ومن ذلك عموم قوله تعالى: "ولا يضار كاتب ولا شهيد" (البقرة:282)، وقوله تعالى: "لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده" (البقرة:233). وقد أخرج أحمد وابن ماجه والطبراني بسند له شواهد تصححه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضرر ولا ضرار". وأخرج الطبراني وعبد الرزاق عن لقيط بن صبرة أنه قال: يا رسول الله إن لي امرأة فذكر من طول لسانها وبذائها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "طلقها". قال: يارسول الله إنها ذات صحبة وولد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أمسكها أأمرها فإن يكن فيها خير فستفعل، ولا تضرب ظعينتك ضربك أمتك"، وأخرج أبو داود والبزار برجال ثقات عن ابن عباس أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن امرأتي لا ترد يد لامس؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "غربها". قال: أخاف أن تتبعها نفسي؟ قال: "فاستمتع بها". وأخرجه النسائي عن ابن عباس بلفظ:قال: "طلقها". قال: لا أصبر عنها؟ قال: "فأمسكها".

وتطبيقًا لهذين الاتجاهين في مقصود الطلاق والحكمة من مشروعيته نأخذ على سبيل المثال قوله تعالى: "يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم" (الطلاق:1). هنا يمكن للفقيه أن يحكن بعدم احتساب الطلاق إذا وقع في زمن لا تبدأ فيه العدة، كما إذا أوقعه الزوج في فترة حيض الزوجة أو في طهر مسها فيه كما هو مذهب الظاهرية وأخذ به ابن تيمية وابن القيم؛ حتى لا تطول مدة العدة على المطلقة. كما يمكن للفقيه أن يحكم باحتساب الطلاق إذا وقع في كل زمن حتى ولو كان قبل احتساب العدة مما يطيل مدتها على المطلقة، كما هو مذهب الجمهور.

والترجيح بين هذين القولين يرجع إلى انحياز الفقيه إلى المقصد من الطلاق في نظره، والحكمة من مشروعيته. فمن نظر إلى أن المقصد من الطلاق هو الفراق بالمعروف إبقاءًا للمعروف، وأن الحكمة من الطلاق هي تمكين الزوجين بعد فكاك رباطهما من أن يشق كل منهما طريقه مستقبلًا دون عائق أو ضرر انحاز إلى تفسير قوله تعالى: "فطلقوهن لعدتهن" على ضرورة أن يتم الطلاق على رأس العدة، وهو اليوم الذي تبدأ منه المطلقة احتساب عدتها حتى لا تطول عليها، فإن وقع الطلاق قبل هذا اليوم لم يكن طلاقًا لمخالفته مقصود الطلاق وهو إبقاء المعروف، ومخالفته الحكمة من مشروعية الطلاق وهي شق طريق المستقبل دون عائق أو ضرر. وبهذا نقيد وقوع الطلاق؛ عملًا بما أخرجه الحاكم وصححه، كما أخرجه أبو داود وابن ماجه بسند ضعيف عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أبغض الحلال عند الله الطلاق". ومن نظر إلى أن المقصود من الطلاق هو تعظيم الرضا في العقود واستمراره فلا يكره الزوج على إمساك العصمة، وأن الحكمة من مشروعية الطلاق إراحة الزوج بتخليصه من رباط كرهه أو سئمه انحاز إلى تفسير قوله تعالى: "فطلقوهن لعدتهن" على أفضلية أن يتم الطلاق على رأس العدة، فإن وقع الطلاق قبل هذا اليوم - كما إذا وقع في أيام الحيض، أو في طهر مسها فيه - لم يكن ذلك مانعًا من احتسابه طلاقًا؛ مراعاة لمقصود الطلاق الذي يراه في تعظيم رضا الزوج بحياته الزوجية، والحكمة من مشروعية الطلاق الذي يراها في تخليص الزوج مما يكره أو يسأم. وأما ما يقع على الزوجة المطلقة من ضرر في طول العدة فهو من المحرمات التي لا ترقى إلى مرتبة المانع من وقوع الطلاق بدليل سقوط هذا التحريم برضا الزوجة على الطلاق.
رد مع اقتباس