عرض مشاركة واحدة
  #21  
قديم 29-01-2017, 01:00 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 26,986
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond repute
افتراضي

المبحث التاسع

الطلاق بلفظ الثلاث


المقصود بالطلاق بلفظ الثلاث أن يوقعه الزوج موصوفًا بالثلاث كأن يقول لزوجته: أنت طالق ثلاثًا. وإذا ثبتت الطلقة الثالثة على الزوجة مفردة أو ضمن لفظ الثلاث عند من قال بصحة وقوعها بذلك لم يعد للزوج حق في الرجوع إلى تلك الزوجة إلا بعد أن تتزوج برجل آخر وتبين منه أي تنتهي رابطة الزوجية بينهما بحيث لا يكون لهذا الزوج الجديد أي ولاية على المرأة التي تصير خلية من جديد، فيصح للزوج الأول أن يتقدم إليها كسائر الخطاب؛ ولهذا توصف المرأة المطلقة ثلاثًا بأنها بائن بينونة كبرى، أو أن طلاقها صار باتًا يعني لا رجعة لها شرعًا إلى هذا المطلق إلا بعد الزواج برجل آخر وانتهاء هذا الزواج الأخير بوفاة الزوج أو طلاقه. ويدل لذلك قوله تعالى: "الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" (البقرة:229). ثم قوله تعالى: "فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله" (البقرة:230).

وقد اختلف الفقهاء قديمًا في حكم الطلاق بلفظ الثلاث هل يأثم صاحبه أو لا يأثم، وإذا قلنا بأنه يأثم فهل يقع صحيحًا أو فاسدًا، وإذا قلنا يقع صحيحًا فهل يحتسب ثلاثًا أو يحتسب طلقةً واحدةً؟ ويرجع سبب اختلاف الفقهاء في ذلك إلى أسباب عديدة نذكر منها ما يلي:

(1)اختلاف الفقهاء في تفسير قوله تعالى: "الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" (البقرة:229). هل يراد به أن يتم الطلاق على ثلاث مرات بدون جمع هذا العدد في كلمة واحدة أو كلمتين، أم يراد به إخبار الزوج بأن حقه على زوجته ثلاث تطليقات ويكون الحق له في إفرادها أو في جمعها؟ (2)اختلاف الروايات الحديثية التي يفيد بعضها احتساب الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة، وبعضها يفيد احتسابه ثلاث طلقات، كما سيأتي ذكر تلك الروايات في تفصيل المذاهب. (3)اختلاف الفقهاء في احتساب المعنى المستنبط من إعطاء الشرع للزوج على زوجته طلقتين رجعيتين للإرفاق به أن يكون متعجلًا. من أن يكون هذا المعنى قيدًا شرعيًا ملزمًا لا يسع الزوج خلافه، أو يكون هذا المعنى إعذارًا من الشرع غير ملزم حتى لا يلوم الزوج إلا نفسه إن اختار العجلة بإيقاع كامل حقه في الطلاق على زوجته. (4)اختلاف الفقهاء فيما ثبت تحريمه عندهم كالطلاق بوصف البدعة والزواج بوصف الشغار والمحلل مثلًا من أن يكون صحيحًا في ذاته مع الإثم؛ لكون أصله مشروعًا بدون هذا الوصف مع ما أخرجه ابن ماجه والدارقطني والبيهقي والطبراني بسند فيه مقال عن ابن عمر وعن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحرم الحرام الحلال"، أو يحكم عليه بالبطلان لوقوعه على غير الوصف المشروع مع ما أخرجه الشيخان عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، وفي رواية لمسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد". (5)ما ذكره ابن رشد في "بداية المجتهد" من اختلاف الفقهاء في الحكم الذي جعله الشرع من البينونة للطلقة الثالثة هل يقع بإلزام المكلف نفسه في طلقة واحدة أم ليس يقع ولا يلزم من ذلك إلا ما ألزم الشرع؟ فمن شبه الطلاق بالأفعال التي يشترط في صحة وقوعها كون الشروط الشرعية فيها كالنكاح والبيوع قال لا يلزم، ومن شبهه بالنذور والأيمان التي ما التزم العبد منها لزمه على أي صفة كان ألزم الطلاق كيفما ألزمه المطلق نفسه. (6)ما ذكره ابن رشد أيضًا من تعارض العمل بسد الذريعة الذي يقتضي حكم التغليظ في إيقاع الطلاق بلفظ الثلاث، مع العمل بالرخص الشرعية والرفق المقصود في إفراد الطلاق المشار إليه في قوله تعالى: "لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا"، بعد قوله تعالى: "إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن" (الطلاق:1).

ويمكن إجمال أقوال الفقهاء في حكم الطلاق بلفظ الثلاث في خمسة مذاهب نذكرها تباعًا فيما يلي:

المذهب الأول: يرى أن الطلاق بلفظ الإثنين أو بلفظ الثلاث بدعة محرمة وغير مشروع، وإذا حدث كان لغوًا ولا يقع به طلاق أبدًا. وهو قول حكاه ابن حزم في "المحلى" عن طائفة من أهل العلم، وهو أحد القولين عند الإمامية حكاه ابن أبي زكريا الهذلي (ت676هـ) في "شرائع الإسلام في الفقه الجعفري"، وحكاه ابن تيمية (ت728هـ) في "الفتاوى الكبرى" عن بعض المعتزلة والشيعة، كما حكاه ابن القيم (ت751هـ) في "زاد المعاد" وقال: "هذا قول حكاه أبو محمد ابن حزم، وحكي للإمام أحمد فأنكره، وقال هو قول الرافضة". واستدل أصحاب هذا القول بالآتي: (1)أن الله تعالى قد نص على أن يكون الطلاق مرة بعد مرة، فإذا لم يقع على الوجه المأذون به شرعًا كان لغوًا. يدل لذلك قوله تعالى: "الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" (البقرة:229). قالوا: وهذا معناه أن يتم الطلاق الرجعي على دفعتين مرة بعد مرة؛ لأن العرب لا تعقل في لغتها وقوع المرتين إلا متعاقبتين، كما تقول: سير به مرحلتان، أي مرحلة بعد مرحلة. ألا ترى أن من أعطى درهمين لم يجز أن يقول أعطاه مرتين حتى يعطيه دفعتين. ثم قال تعالى بعد أن أخبرنا أن الطلاق مرتان: "فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره" (البقرة:230)، فهذه الطلقة الثالثة لم يشرعها الله تعالى إلا بعد الطلاق الرجعي مرتين، فعلم أن جميع الثلاث بلفظ واحد غير مشروع.

(2)أن الله تعالى بين وجه الطلاق الذي لا يصح إلا به وهو أن يقع لمرة واحدة تتحرر له عدة، ويملك الزوج الرجعة على زوجته في الأوليين، فلا يكون طلاقًا إلا ما كان بهذه الصفة بحيث يترتب على كل طلقة عدة مستقلة لا تتداخل في عدة طلقة أخرى. ويدل لذلك آيات كثيرة منها قوله تعالى: " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة" إلى أن قال سبحانه: "فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف" (الطلاق:1-2)، وقوله تعالى: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحًا" (البقرة:228)، وقوله تعالى: "وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارًا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوًا" (البقرة:231). فكل هذه الآيات تدل على أن لكل طلقة عدة مستقلة، ولها مقصود شرعي في تمكين الزوج من مراجعة زوجته في العدة،فلا يجوز إيقاع الطلاق بلفظ الإثنين أو الثلاث لعدم تحرير العدة في كل طلقة، فكان رهن صحة الطلاق برهن تحرير العدة له، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر أن يمسك زوجته التي طلقها في الحيض، وأذن له أن يطلق في الطهر قبل المساس، وعلل ذلك بتحرير العدة، فقد أخرج مسلم عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض تطليقة واحدة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مره فليراجعها ثم ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن يطلق لها النساء". (3)أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر الطلاق بلفظ الثلاث ولم يعده طلاقًا فلا يجوز اعتباره. ويدل على ذلك ما أخرجه النسائي برجال ثقات كما يقول ابن حجر، عن محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقام غضبان ثم قال: "أيلعب بكتاب الله تعالى وأنا بين أظهركم"؟ حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أ***ه؟. وأخرج أبو داود بسند ضعيف عن ابن عباس قال: طلق أبو ركانة أم ركانة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "راجع امرأتك"، فقال: إني طلقتها ثلاثًا. فقال صلى الله عليه وسلم: "قد علمت راجعها". إلا أن هذا الحديث معارض بأكثر رواياته التي تنص على أن ركانة كان يقصد طلقة واحدة، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم عدها واحدة فقال: "إنما تلك واحدة فارجعها إن شئت"، كما رواه أحمد في "مسنده". (4)إذا ثبت أن الطلاق بلفظ الثلاث يخالف ظاهر القرآن والسنة ويفوت على الزوج مصلحة معتبرة في إمكان صلحه مع مطلقته فإن الواجب إبطاله؛ لما أخرجه الشيخان عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، وفي رواية لمسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد".

واعترض على ذلك بما حكاه ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" عن الإمام أحمد أنه سئل عمن قال لا يقع الطلاق المحرم لأنه يخالف ما أمر به؟ فقال: "هذا قول سوء رديء"، ثم ذكر قصة ابن عمر وأنه احتسب بطلاقه في الحيض.

وأجيب عن ذلك بأن ثبوت التحريم في الطلاق يجعله والعدم سواء؛ لما أخرجه ابن ماجه والدارقطني والبيهقي والطبراني بسند فيه مقال عن ابن عمر وعن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحرم الحرام الحلال"، يعني إذا ثبت تحريم الشيئ كالطلاق المحرم فإنه لا يرتب تحريم الزوجة الحلال. وإذا ثبت أن الطلاق بلفظ الثلاث محرم فإنه لا يرتب أثرًا في تحريم الزوجة، فيكون لغوًا.

المذهب الثاني: يرى أن الطلاق بلفظ الاثنين أو بلفظ الثلاث مشروع بوصف السنة أي الطريقة المستقيمة التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته وعرفها الناس، فإذا اختار الزوج طلاق زوجته بلفظ الثلاث فإنه يكون قد استعمل حقه الشرعي وطلقت زوجته بوصف الطلاق الثلاث البات أو البائن بينونة كبرى سواء أكان هذا الطلاق قبل الدخول أم بعده. وهو قول الشافعي وأبو ثور، ورواية عن الإمام أحمد اختارها الخرقي، وهو مذهب الظاهرية وانتصر له ابن حزم الظاهري ونسب القول به إلى أبي ذر، ورواه عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن مسعود وابن سيرين وغيرهم. وحجتهم مايلي:

(1)أن الله تعالى جعل للزوج طلقتين رجعيتين وثالثة بائنة، ولم يقيده بوصف الإفراد، فدل على جواز إيقاع الطلاق الثلاث مجموعة بلفظ واحد. قال تعالى: "الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" إلى أن قال تعالى: "فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره" (البقرة:229-230). قال ابن حزم في "المحلى": فهذا يقع على الثلاث مجموعة ومفرقة، ولا يجوز أن يخص بهذه الآية بعض ذلك دون بعض بغير نص. وكذلك قوله تعالى: "إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها" (الأحزاب:49). قال ابن حزم: هذا عموم لإباحة الثلاث والإثنين والواحدة، وقوله تعالى: "وللمطلقات متاع بالمعروف" (البقرة:241) فلم يخص الله تعالى مطلقة واحدة من مطلقة اثنين ومن مطلقة ثلاثًا. (2)أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على من طلق في عهده ثلاثًا، كما ورد في الروايات التي تحكي قصة فاطمة بنت قيس التي طلقها زوجها أبو عمرو بن حفص بن المغيرة ثلاثًا، وفي قصة امرأة رفاعة القرظي التي طلقها ثلاثًا، وفي قصة الملاعن الذي طلق امرأته ثلاثًا. ونحكي ذلك تباعًا فيما يلي:

(أ)أما قصة فاطمة بنت قيس فقد أخرجها مسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس قالت: إن أبا حفص ابن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثًا ثم انطلق إلى اليمين، فقال لها: ليس لك علينا نفقة. فانطلق خالد بن الوليد في نفر فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة فقالوا: إن أبا حفص طلق امرأته ثلاثًا فهل لها من نفقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس لها نفقة وعليها العدة"، وفي رواية أخرى لمسلم عن فاطمة بنت قيس قالت: أرسل إلي زوجي أبو عمرو ابن حفص بن المغيرة عياش بن أبي ربيعة بطلاقي وأرسل معه بخمسة آصع تمر وخمسة آصع شعير، فقلت: أما لي نفقة إلا هذا، ولا أعتد في منزلكم؟ قال: لا. قالت: فشددت علي ثيابي وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "كم طلقك"؟ قلت: ثلاثًا. قال: "صدق ليس لك نفقة اعتدي في بيت ابن عمك ابن أم مكتوم فإنه ضرير البصر تلقى ثوبك عنده، فإذا انقضت عدتك فآذنيني". قالت: فخطبني خطاب منهم معاوية وأبو الجهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن معاوية ترب خفيف الحال، وأبو الجهم منه شدة على النساء، أو يضرب النساء، أو نحو هذا، ولكن عليك بأسامة بن زيد". كما أخرج مسلم عن فاطمة بنت قيس قالت: يا رسول الله زوجى طلقني ثلاثًا، وأخاف أن يقتحم علي. قال: فأمرها فتحولت. قال ابن حزم في "المحلى": "فهذا نقل تواتر عن فاطمة بنت قيس بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرها هي ونفر سواها بأن زوجها طلقها ثلاثًا، وبأنه صلى الله عليه وسلم حكم في المطلقة ثلاثًا ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولا أخبر بأنه ليس بسنة، وفي هذا كفاية لمن نصح نفسه".

وقد عورض هذا الدليل بما ذكره ابن حزم وأجاب عنه فقال: "وأما رواية مسلم عن أبي سلمة أن فاطمة بنت قيس أخبرته أنها كانت تحت أبي عمرو بن حفص بن المغيرة فطلقها آخر ثلاث تطليقات، وذكرت باقي الخبر. قلنا: نعم إلا أن هذا الخبر ليس فيه أن أحدًا أخبر الرسول بأنها آخر ثلاث تطليقات، وإنما المسند الصحيح الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن كمية طلاقها وأنها أخبرته بأن زوجها طلقها ثلاثًا، وعلى هذا الإجمال جاء حكم النبي صلى الله عليه وسلم". قلت: ويؤيد هذا رواية الإمام أحمد للحديث في "مسنده"، وفيها: "أن فاطمة خاصمت أخا زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما أخرجها من الدار ومنعها النفقة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما لك ولابنة قيس"؟ قال: يارسول الله إن أخي طلقها ثلاثًا جميعًا". وذكر الحديث. وأخرج مسلم عن الشعبي أنه سأل فاطمة بنت قيس عن المطلقة ثلاثًا أين تعتد؟ فقالت: طلقني بعلي ثلاثًا فأذن لي النبي صلى الله عليه وسلم أن أعتد في أهلي.

ويلاحظ أن روايات مسلم اختلفت في ذكر اسم زوج فاطمة بنت قيس، فوقع في بعضها أنه "أبوحفص بن المغيرة" ووقع في بعضها أنه "أبو عمرو بن حفص"؟ ويجيب عن ذلك ابن عبد البر (ت463) في "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" بأن اسم أبا حفص بن المغيرة خطأ، والصواب ما قاله مالك أن اسمه أبو عمرو بن حفص بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم قيل اسمه عبد الحميد.

(ب)وأما قصة امرأة رفاعة القرظي فقد أخرجها الشيخان، وهي عند مسلم عن عائشة قالت: جاءت امرأة رفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير، وأن ما معه مثل هدبة الثوب، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك". وفي رواية للبخاري ومسلم عن عائشة قالت: طلق رجل امرأته ثلاثًا فتزوجها رجل آخر ثم طلقها قبل أن يدخل بها، فأراد زوجها الأول أن يتزوجها فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: "لا حتى يذوق الآخر من عسيلتها ما ذاق الأول". قال ابن حزم: "فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال الذي فيه أن رجلًا طلق امرأته ثلاثًا فتزوجت بآخر ثم طلقها قبل الدخول فأراد زوجها الأول أن يتزوجها؟ فلو كان الطلاق ثلاثًا لا يجوز لأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك".

واعترض على هذا الدليل بمثل ما عورض به الاستدلال من حديث فاطمة بنت قيس، وهو أنه ورد في الصحيحين رواية أخرى عن عائشة أن رفاعة القرظي طلق امرأته فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير، فقالت: يارسول الله إن رفاعة طلقها آخر ثلاث تطليقات. وذكرت باقي الخبر. وأجاب عن ذلك ابن حزم بأنه ليس في شيء من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على أن هذه الطلقة آخر ثلاث تطليقات أي متفرقات، وإنما الثابت هو ذكر الطلاق الثلاث بالإجمال.

(ج)وأما قصة الملاعن الذي طلق امرأته ثلاثًا فقد أخرجها الشيخان عن سهل بن سعد الساعدي، أن عويمر العجلاني جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلًا أي***ه فت***ونه، أم كيف يفعل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها". قال سهل: فتلاعنا، فلما فرغا قال عويمر: كذبت عليها يارسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن حزم: "لو كان الطلاق الثلاث مجموعة معصية لله تعالى لما سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيان ذلك فصح يقينًا أنها سنة مباحة".

واعترض على ذلك بما ذكره ابن حزم وأجاب عنه فقال: "إن قيل بأنه طلقها بعد اللعان وقد صارت أجنبية عنه. قلنا: إنما طلقها وهو يقدر أنها امرأته، هذا ما لا يشك فيه أحد، فلو كان ذلك معصية لسبقكم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا الاعتراض، فإنما حجتنا كلها في ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنكار على من طلق ثلاثًا مجموعة امرأة يظنها امرأته، ولا يشك أنها في عصمته فقط".

(3)أنه روي عن بعض كبار الصحابة وعن أكثر التابعين الحكم بإيقاع الطلاق بلفظ الثلاث دون إنكار، ولا يكون ذلك منهم إلا عن توقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسن الظن بهم. ومن ذلك ما رواه ابن حزم أنه رفع إلى عمر بن الخطاب برجل طلق امرأته ألفًا؟ فقال له عمر: أطلقت امرأتك؟ فقال: إنما كنت ألعب، فعلاه عمر بالدرة وقال: إنما يكفيك من ذلك ثلاث. فإنما ضربه عمر على الزيادة على الثلاث. كما روي عن الإمام علي أنه جاءه رجل فقال: إني طلقت امرأتي ألفًا؟ فقال له علي: بانت منك بثلاث، واقسم سائرهن بين نسائك. كما روي عن عثمان بن عفان أن رجلًا جاءه فقال: طلقت امرأتي ألفًا؟ فقال: بانت منك بثلاث. وروي عن ابن عباس أن رجلًا قال له: طلقت امرأتي ألفًا؟ فقال: ثلاث تحرمها عليك وبقيتها عليك وزرًا، اتخذت آيات الله هزوًا. وروي عن ابن مسعود أن رجلًا قال له إني طلقت امرأتي تسعًا وتسعين؟ فقال: ثلاث تبينها وسائرهن عدوان. كما روي عن الشعبي أن رجلًا جاء لشريح القاضي فقال: طلقت امرأتي مائة؟ فقال: بانت منك بثلاث، وسبع وتسعون إسراف ومعصية.

(4)أن أمر الطلاق مرجعه إلى الزوج، وقد اختار أن يوقع حقوقه الثلاثة فيها مرة واحدة، فكان الأمر إليه كالنذر واليمين الذي يلزم صاحبهما.

(5)أن طلاق غير المدخول بها ثلاثًا صادف الزوجية فوقع الجميع كما لو قال ذلك للمدخول بها. ويدل لذلك ما أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أنه قال في طلاق البكر ثلاثًا؟ الواحدة تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجًا غيره.

المذهب الثالث: يرى أن الطلاق بلفظ الاثنين أو بلفظ الثلاث محرم أو مكروه في وصفه. أما أصله فصحيح ونافذ للمدخول بها وغير المدخول بها على السواء. وهو مذهب الجمهور قال به الحنفية والمالكية والرواية المتأخرة عن الإمام أحمد، وروي ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة وابن عمر وأنس بن مالك، وغيرهم كثير من الصحابة والتابعين، وبه قال ربيعة والأوزاعي وابن أبي ليلى. ويلاحظ أن هذا المذهب يتفق مع المذهب الثاني الذي ذهب إليه الشافعية والظاهرية في الحكم بصحة الطلاق بلفظ الإثنين أو بلفظ الثلاث إلا أن الفرق بينهما هو في ثبوث الإثم من عدمه، فيرى أصحاب المذهب الثاني عدم الإثم؛ لأنه في نظرهم طلق بصفة السنة. ويرى أصحاب المذهب الثالث تأثيم المطلق بلفظ الإثنين أو بلفظ الثلاث؛ لأنه في نظرهم طلق بصفة البدعة. ويدل لأصحاب المذهب الثالث مايلي:

(1)أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم احتساب الطلاق بلفظ الثلاث ثلاثًا مع وصفه بالبدعة، ومن ذلك: ما أخرجه الدارقطني والبيهقي بسند فيه ضعيف عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا معاذ من طلق للبدعة واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا ألزمناه بدعته". وأخرج الدارقطني بسند فيه مجهولون وضعفاء عن عبادة بن الصامت قال: طلق بعض آبائي امرأته ألفًا فانطلق بنوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يارسول الله، إن أبانا طلق أمنا ألفًا فهل له من مخرج؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إن أباكم لم يتق الله فيجعل له مخرجًا. بانت منه بثلاث على غير السنة وتسعمائة وسبع وتسعون إثم في عنقه". وأخرج ابن النجار والدارقطني بسند ضعيف عن علي بن أبي طالب قال: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا طلق البتة فغضب، وقال: "أتتخذون آيات الله هزوًا، أو دين الله هزوًا ولعبًا. من طلق البتة ألزمناه ثلاثًا لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره". وأخرج الدارقطني بسند فيه مقال من حديث الحسن البصري، عن عبد الله بن عمر أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض، ثم أراد أن يتبعها بتطليقتين أخراوين عند القرءين، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا ابن عمر ما هكذا أمرك الله، إنك قد أخطأت السنة، والسنة أن تستقبل الطهر فتطلق لكل قرء". قال: فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فراجعتها، ثم قال: "إذا هي طهرت فطلق عند ذلك أو أمسك"، فقلت: يارسول الله أرأيت لو أني طلقتها ثلاثًا أكان يحل لي أن أراجعها؟ قال: "لا، كانت تبين منك وتكون معصية".

(2)أن آخر إجماع الصحابة في عهد عمربن الخطاب هو في احتساب الطلاق بلفظ الثلاث ثلاثًا للمدخول بها ولغير المدخول بها على السواء، وإن كان معصية لمخالفته صفة الطلاق المفرد الذي كان عليه حال الطلاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلزم الحكم بوقوعه عملًا بهذا الإجماع الذي يدل عليه ما أخرجه البيهقي وأبو داود بسند ضعيف عن طاوس أن رجلًا يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس، قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر، فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها قال: أجيزوهن عليهم.

وعملًا بهذه الرواية الضعيفة حكى بعض أئمة العلم الإجماع على احتساب الطلاق بلفظ الثلاث ثلاثًا وإن كان معصية، ومن هؤلاء أبو بكر الرازي في "أحكام القرآن"، والقاضي الباجي في "المنتقى"، وابن العربي في "الناسخ والمنسوخ"، وفي "أحكام القرآن"، وابن رجب في "مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة".

(3) أن طلاق غير المدخول بها ثلاثًا قد صادف محلًا فوجب احتسابه؛ قياسًا على طلاق المدخول بها. ولا يقال إن غير المدخول بها تبين من طلقة واحدة، فقد أخرج عبد الرزاق في "مصنفه" عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال في طلاق البكر ثلاثًا؟ الواحدة تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجًا غيره.

المذهب الرابع: يرى أن الطلاق بلفظ الإثنين أو بلفظ الثلاث محرم أو مكروه ويقع ثلاثًا بالمدخول بها، ويقع واحدة لغير المدخول بها. وهو قول ابن أبي ليلى وسعيد بن جبير وطاوس وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار وجابر بن زيد، وهو مذهب اسحاق بن راهوية وبه جزم زكريا الساجي من الشافعية. وحجتهم: أن غير المدخول بها تبين إذا قال لها زوجها: أنت طالق، فإذا قال ثلاثًا لغي العدد؛ لوقوعه بعد البينونة.

المذهب الخامس: يرى أن الطلاق بلفظ الإثنين أو بلفظ الثلاث بدعة مخالف للسنة فيجب تصحيحه بإنفاذه طلقة واحدة رجعية سواء أكان هذا الطلاق قبل الخول أم بعده، فهو لما خالف السنة وجب رده إلى السنة. وهو قول عن ابن عباس، ومذهب محمد بن اسحاق والحجاج بن أرطأة، وبه قال عكرمة والحسن البصري واختاره ابن تيمية وابن القيم، وهو القول الثاني عند الإمامية. قال ابن رشد في "بداية المجتهد": "هذا قول أهل الظاهر وجماعة". وقد وصف القاضي الباجي المالكي أصحاب هذا القول بالمبتدعة فقال في "المنتقى": "حكى القاضي أبو محمد في "إشرافه" عن بعض المبتدعة يلزمه طلقة واحدة، وإنما يروى هذا عن الحجاج بن أرطأة ومحمد بن اسحاق". وأفاد ابن تيمية بأن هذا القول منقول عن طائفة من السلف والخلف، فقال في "مجموع الفتاوى" في بيان حكم الطلاق بلفظ الثلاث: "الثالث أنه محرم ولا يلزم منه إلا طلقة واحدة، وهذا القول منقول عن طائفة من السلف والخلف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف، ويروى عن علي وابن مسعود وابن عباس القولان، وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم مثل طاوس وخلاس بن عمرو ومحمد بن اسحاق وهو قول داود وأكثر أصحابه، ويروى ذلك عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر بن محمد، ولهذا ذهب إلى ذلك من ذهب من الشيعة، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل". واحتج أصحاب هذا المذهب بما يلي:

(1)أن احتساب الطلاق بلفظ الثلاث واحدة كان عليه إجماع الأمة أول الأمر، فقد أخرج مسلم عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة. فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم؟ فأمضاه عليهم. قال ابن القيم في "إعلام الموقعين": ولم تجمع الأمة ولله الحمد على خلافه، بل لم يزل فيهم من يفتي به قرنًا بعد قرن إلى يومنا هذا، فأفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس، وأفتى به أيضًا الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وعلي وابن مسعود.

(2)أن احتساب الطلاق بلفظ الثلاث واحدة هو قضاء النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد وأبو داود بإسناد صححه الإمام أحمد عن عبد الله بن عباس قال: طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنًا شديدًا. قال: فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف طلقتها"؟ قال: طلقتها ثلاثًا. فقال صلى الله عليه وسلم: "في مجلس واحد"؟ قال: نعم. فقال صلى الله عليه وسلم: "فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت". قال: فراجعها. وفي رواية عند ابن ماجه وأبي داود بسند فيه مقال، عن ابن عباس، أن ركانة طلق امرأته سهيمة البتة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أردت بها"؟ قال: واحدة. فقال صلى الله عليه وسلم: "آلله ما أردت بها إلا واحدة"؟ قال: آلله ما أردت بها إلا واحدة. قال: فردها عليه.

(3)أن النبي صلى الله عليه وسلم رد طلاق البدعة الثلاث إلى السنة باحتسابه واحدة، فقد أخرج الدارقطني عن أبي الزبير قال: سألت ابن عمر عن رجل طلق امرأته ثلاثًا وهي حائض؟ فقال: أتعرف ابن عمر؟ قال: نعم. قال: طلقت امرأتي ثلاثًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض. فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السنة. فهذا دليل على أنه طلقها ثلاثًا بالفعل وردت إلى الواحدة.

(4)أن احتساب الطلاق الثلاث واحدة روي عن ابن عباس وغيره من السلف مما يدل على أن له سند في السنة، فقد أخرج أبو داود بسند صحيح عن ابن عباس قال: إذا قال أنت طالق ثلاثًا بفم واحد فهي واحدة.

(5)أن الرفق بالزوجين يقتضي احتساب الطلاق بلفظ الثلاث واحدة؛ لأن الله تعالى أخبرنا بعد بيانه لأمر الطلاق أن يكون لعدته بقوله سبحانه: "لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا" (الطلاق:1)، أي بصلح الزوجين ومراجعة الزوج لزوجته، وهذا لا يتحقق باحتساب الطلاق بلفظ الثلاث ثلاثًا.

رد مع اقتباس