الســؤال
يسكن بجانبي جار غير مسلم، وقد اشتهر أبوه بتعصبه الشديد لديانته وعمله على نشرها والتشكيك في الإسلام من خلال المؤسسات الاجتماعية التي كان يُشرِف عليها، وقد توفي هذا الرجل قريبًا، فهل يشرع لي تعزية جاري فيه، وماذا أقول له في تعزيته؟
الجـــواب
شرع الإسلام أحكامًا كثيرة تدل على رسالته في التعايش ونبذ التفرق، وقد أصدرت دار الإفتاء المصرية فتوى رقم (189) سنة 2011م بتاريخ: 18/ 5/ 2011م تحدثت فيها عن المنهج الإسلامي في التعايش، وبيَّنت صور التشريعات العملية التي تؤصِّل وتعضد مبدأ التعايش مع الآخر، فليس الإسلام بِدِين الانغلاق المفضي إلى الانعزال والتخلف، بل هو نَسَقٌ ربانيٌّ متكامل للبشرية عمومًا على اختلاف الأماكن والألوان والنوع. ومن صور التشريعات التي تؤكِّد مبدأ التعايش مع الآخر في الإسلام ما شرعه من التعزية في غير المسلم ومواساة أهله وحثهم على الصبر، وللفقهاء تفصيل في حكم التعزية من حيث المُعزَّى والمُعزَّى فيه، ففي تعزية غير المسلم بغير المسلم يرى جمهور الفقهاء أنها جائزة، وعلى ذلك الحنفية والشافعية، وهو قول لمالك، وإحدى روايات المذهب الحنبلي، ومدرك هذا الرأي أن تعزية غير المسلمين تدخل في عموم البر الوارد في قوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]، كما يصح قياس التعزية على زيارة المرضى؛ فقد ((كان صلى الله عليه وسلم يزور مرضى غير المسلمين كما في حديث أنس -رضي الله عنه- قال: كان غلام يهودي يخدم النبي -صلى الله عليه وسلم- فمرض، فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم-، فأسلم)). [رواه البخاري]. والجامعُ بين التعزية والزيارة المواساةُ والتخفيف عنه في المصاب. لكنهم مع الجواز اشترطوا أن يتخيَّر المعزِّي من ألفاظ التعزية لأهل الميت ما يناسب حالهم، كحثهم على الصبر وتذكيرهم بأن هذه سنة الله في خلقه، بأن يقول: عوَّضكم الله خيرًا، أو أخلفكم خيرًا ونحو ذلك. وقد خصَّ الشافعية الكافرَ بالمحترم ليخرج الحربي والمرتد فلا يُعَزَّيَان في ميتهما إلا أن يُرجى إسلامهما، ويلحق بالحربي والمرتد مَن اشتُهِر بعدائه للإسلام والعمل على تشكيك المسلمين في دينهم من خلال نشر الشبهات والدعوة إلى غير دين الإسلام، فلا يعزَّى في مثل هذا إلا أن يرجى إسلام المعزَّى.
وخالف الحنابلة فيما ذكر وقالوا بحرمة تعزية الكافر مطلقًا، وهو المذهب كما نصَّ عليه المرداوي، وهو قول بعض الحنفية، وبعض المالكية، ويستدل على ذلك بعموم قوله تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ...﴾ الآية [المجادلة: 22]، وتعزية الكافر نوع من الموادة فتكون محرمة، كما تقاس التعزية على البدء بالسلام، وقد نُهِينا عن البدء بالسلام معهم فكذلك تعزيتهم.
وهذه نصوص العلماء التي تُبَيِّن ما أسلفنا إجماله:
يقول ابن نجيم في البحر الرائق (8/ 232، ط. دار الكتاب الإسلامي): «(وعيادته) يعني تجوز عيادة الذمي المريض لما روي أن يهوديا مرض بجوار النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((قوموا بنا نعود جارنا اليهودي))، فقاموا ودخل النبي -صلى الله عليه وسلم- وقعد عند رأسه، وقال له: ((قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله))، فنظر المريض إلى أبيه، فقال: أَجِبْهُ، فنطق بالشهادة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((الحمد لله الذي أنقذ بي نسمة من النار)). الحديث، ولأن العيادة نوع من البر وهي من محاسن الإسلام فلا بأس بها ... وإذا مات الكافر قيل لوالده أو لقريبه في تعزيته: أخلف الله عليك خيرًا منه، وأصلحك ورزقك ولدًا مسلمًا؛ لأن الجزية تطهر».
وقال ابن عابدين الحنفي: «وفي كتب الشافعية: ويعزي المسلم بالكافر: أعظم الله أجرك وصبرك، والكافر بالمسلم: غفر الله لميتك وأحسن عزاءك». (رد المحتار 2/ 242، ط. دار الفكر).
وقال المواق في التاج والإكليل (3/ 38، ط. دار الكتب العلمية): «وقد روي عن مالك أن للرجل أن يعزي جاره الكافر بموت أبيه الكافر لذمام الجوار».
وقال الخطيب الشربيني في مغني المحتاج (2/ 42، ط. دار الكتب العلمية): «(و) يعزى المسلم أي يقال في تعزيته (بالكافر) الذمي: (أعظم الله أجرك وصبَّرك و) يعزى (الكافر) المحترم جوازًا إلا إنْ رُجِيَ إسلامُه فندبًا أي يقال في تعزيته (بالمسلم: غفر الله لميتك وأحسن عزاءك)، ولم يذكر المصنف تعزية الكافر بالكافر؛ لأنها غير مستحبة، اقتضاه كلام الشرح والروضة، بل هي جائزة إن لم يُرْجَ إسلامه كما مرت الإشارة إلى ذلك، وإن كان قضية كلام التنبيه استحبابها مطلقًا كما نبهت على ذلك في شرحه».
وقال المرداوي في الإنصاف (4/ 234، ط. دار إحياء التراث العربي): «قوله: (وفي تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم روايتان) إحداهما: يحرم، وهو المذهب، صححه في التصحيح، وجزم به في الوجيز، وقدمه في الفروع. والرواية الثانية: لا يحرم، فيكره، وقدمه في الرعاية، والحاويين في باب الجنائز، ولم يذكر رواية التحريم، وذكر في الرعايتين والحاويين رواية بعدم الكراهة فيباح، وجزم به ابن عبدوس في تذكرته. وعنه: يجوز لمصلحة راجحة كرجاء إسلامه، اختاره الشيخ تقي الدين، ومعناه اختيار الآجري، وأن قول العلماء: يعاد ويعرض عليه الإسلام. قلت: هذا هو الصواب، وقد عاد النبي -صلى الله عليه وسلم- صبيًّا يهوديًّا كان يخدمه، وعرض عليه الإسلام فأسلم. وحيث قلنا: يعزيه. فقد تقدم ما يقول في تعزيتهم في آخر كتاب الجنائز، ويدعو بالبقاء وكثرة المال والولد».
ونرى ترجيح رأي الجمهور لقوة ما استدلوا به، أما ما استدل به مَن حرم التعزية بأنها من قبيل الموادة فغير صحيح، بل هي من قبيل البِرِّ المأمور به في قوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]، وقد أوضح القرافي في الفرق التاسع والعشرين بعد المائة الفرق بين قاعدة البر والموادة، وأورد كلامًا نفيسًا في الفرق بينهما، ومما قاله: «وأما ما أمر به من بِرِّهِمْ ومن غير مودة باطنية فالرفق بضعيفهم، وسد خلة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وإكساء عاريهم، ولِينُ القول لهم على سبيل اللطف لهم والرحمة لا على سبيل الخوف والذلة، واحتمال إذايتهم في الجوار مع القدرة على إزالته لطفًا منا بهم لا خوفًا وتعظيمًا، والدعاء لهم بالهداية، وأن يجعلوا من أهل السعادة، ونصيحتهم في جميع أمورهم في دينهم ودنياهم، وحفظ غيبتهم إذا تعرض أحد لأذيتهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يُعَانوا على دفع الظلم عنهم، وإيصالهم لجميع حقوقهم، وكل خير يحسن من الأعلى مع الأسفل أن يفعله، ومن العدو أن يفعله مع عدوه؛ فإن ذلك من مكارم الأخلاق، فجميع ما نفعله معهم من ذلك ينبغي أن يكون من هذا القبيل لا على وجه العزة والجلالة منا ولا على وجه التعظيم لهم وتحقير أنفسنا بذلك الصنيع لهم». (الفروق 3/ 15، ط. عالم الكتب).
وأما قياس التعزية على البدء بالسلام فقياس مع الفارق؛ لأن البدء بالسلام فيه إكرام من كل وجه، ويمكن تخريجه على قاعدة المودة المنهي عنها، بخلاف التعزية والعيادة فإن فيها احتمالًا، كما أنها تلحق بقاعدة البر السابق بيانها.
فعلى ما ذكر: فيجوز لك تعزية جارك غير المسلم في وفاة أبيه، وعليك انتقاء الألفاظ التي تقولها له، كـ«عوَّضك الله خيرًا مما أخذ منك»، أو تذكيره بالصبر والثبات، وعليك أن تنوي بذلك البر وحسن الجوار ودعوته إلى دين الإسلام. والله تعالى أعلم.
من دار الافتاء المصرية
|