كان العدو يظن أنه سيستولي على مدينتنا الصغيرة في ساعات، وسينطلق منها للاستيلاء على باقي مدن القناة واستكمال السيطرة عليها وفرض الأمر الواقع، ثم الانطلاق بعد ذلك لإسقاط النظام.. إذا لم يكن قد تم إسقاطه من الداخل كما كانوا يتوقعون. لكن كل الحسابات ذهبت أدراج الرياح.
لم يكن في مدينتنا الصغيرة قوات عسكرية بالمعنى المفهوم. فالمدينة - من الناحية الاستراتيجية - لا تصلح للدفاع عنها بالمقاييس العسكرية لهذا الوقت. إنها شبه جزيرة تكاد تحيطها المياه من كل جانب وتعزلها عن باقي الوطن، الذي لا تربطها به إلا طريق صغيرة في الجنوب وأخرى إلى الغرب يمران على اثنين من الكباري العتيقة التي تم ضربها منذ اللحظات الأولى للقتال لاستكمال عزل المدينة.
كانت القوات العسكرية في المدينة لا تزيد عن بضعة مدافع قديمة لحماية السواحل وحامية صغيرة من بضع عشرات من الجنود. وبالصدفة كان قطار صغير قد وصل إلى المدينة قبل ساعات من بدء العدوان يحمل بنادق صغيرة روسية الصنع لاستخدامها في تدريب المدنيين استعداداً للمعركة. واستولى الأهالي على القطار وتم توزيع البنادق على المواطنين، وبهذه البنادق وببضعة رشاشات وببعض القنابل اليدوية، صمدت المدينة لجيوش وأساطيل إمبراطوريتين سبعة أيام كاملة. لم ينقطع فيها قصف الطائرات ولا قنابل الأسطول. واضطرت فيها قوات الغزو لتطويق المدينة بالحرائق.. ومع ذلك فلم تستطع احتلال المدينة إلا بخدعة، حين أطلقت مكبرات الصوت تعلن أن الغزو قد توقف وأن دبابات سوفييتية ستدخل المدينة للمساهمة في حمايتها، ودخلت بعد ذلك دبابات الغزو وهي ترفع الأعلام السوفييتية واصطف الأهالي لتحيتها، لتوجه مدافعها بعد ذلك إليهم في مذبحة راح ضحيتها الآلاف.
ملحمة الصمود في المدينة الصغيرة أعطت الفرصة للعالم كله أن يتحرك. الوطن العربي كله تحول إلى بركان من الغضب، والرأي العام حتى في دولتي العدوان (فرنسا وبريطانيا) رفع راية الاعتراض، والاتحاد السوفييتي أنذر بالتدخل العسكري، والولايات المتحدة وجدت مصلحتها في إنهاء العدوان لتحاول بعد ذلك وراثة الإمبراطوريتين العجوزتين.
وتجتمع الأمم المتحدة. ويجد الأعضاء أمامهم صور العدوان التي تم تهريبها من بورسعيد لتطير في طائرة خاصة إلى أميركا. ويصدر قرار إيقاف الحرب، وتضطر دول العدوان للقبول به.. بعد أن تلاقت إرادة موسكو مع واشنطن، وكان ذلك هو الإقرار بالهزيمة كاملاً.
وتبدأ مرحلة جديدة تعيش فيها المدينة تحت الاحتلال انتظاراً لتنفيذ القرار الدولي الذي كان العدو يحاول المماطلة في تنفيذه.. ولم تتركه المدينة يهنأ يوماً واحداً. فقد اشتعلت المقاومة تطارد قوات الاحتلال في كل مكان.. كانت كل سيارة تمر في المدينة هدفاً للقنابل، وكل دورية تسير في الشوارع تنتظر من يباغتها، حتى اضطر الجنود لأن يسيروا وأيديهم مقيدة في أيدي بعضهم لكي لا يتعرضوا للاختطاف.
وعاشت المدينة ما يقرب من الشهرين في أصعب الظروف.. الغذاء حفنات من الأرز وبعض العدس والبقول التي استولت المقاومة عليها من جمرك المدينة. وحظر التجول يسري مع غروب الشمس، ولا موارد لمدينة كانت تعيش يوماً بيوم على البحر والميناء.
وفي هذه الظروف الصعبة يعرض الاحتلال أجوراً خيالية لمن يعمل لديه.. فلا يجد واحداً يقبل، ويحاول أن يستميل قلب المدينة فيعصي عليه، ويحاول أن يشق الصفوف فيتعانق الهلال والصليب في مواجهة العدوان.. وحتى الأجانب الذين كانوا يعيشون في المدينة كانت بينهم جالية يونانية كبيرة وقفت بكل قوتها ضد الغزو، والكثيرون من الطليان وغيرهم وقفوا نفس الموقف.
ورغم كل شيء كان العدو يحاول أن يخرج بشيء، وكانت قوات الغزو تحاول أن تثبت أقدامها لكي تنتزع تنازلاً من مصر بشأن القناة. وكانت معركة سياسية هائلة يديرها عبد الناصر بكفاءة نادرة لانتزاع الاعتراف الدولي الكامل بسيادة مصر المطلقة على قناة السويس، بينما كانت فرنسا وبريطانيا تحاولان إبقاء قواتهما على شاطئ القناة لفرض المشاركة في إدارتها.
وتفشل كل المناورات والضغوط السياسية، ويتحول الاحتلال إلى «كابوس» للجيوش الفرنسية والبريطانية، وفي ليلة لا تنسى تتسلل آخر جيوش الاحتلال من بورسعيد، وتصحو المدينة صباح «23 ديسمبر» من هذا العام الفاصل في تاريخ البشرية (1956) وقد تحرر ترابها من الاحتلال.
تتوضأ بورسعيد بمياه القناة ثم تصلي صلاة الانتصار. ينطلق الناس في الشوارع يعانقون بعضهم ويعانقون الهواء والشمس والأشجار وطيور البحر ورمل الشواطئ. تنفجر طاقات من الفرح الطفولي تملأ كل شبر في المدينة التي تهدمت مبانيها ولكن لم تنكسر إرادتها. حتى عندما زحف الناس إلى المقبرة التي دفنوا فيها آلاف الشهداء لم يكن للحزن ولا البكاء مكان. قرأوا الفاتحة، وأدى البعض الصلاة، واختلطت مشاعر الأسى بالكبرياء النبيل، ثم عادوا يعانقون الحياة التي يعشقونها.
على مر السنين.. كنت في كل عاصمة عربية أزورها أجد اسم مدينتي على أهم شوارعها ومستشفياتها ومدارسها. وحتى الآن تحمل شوارع مدينتي - في معظمها - أسماء شهدائها، ويحمل هواؤها إلى صدري كلما عدت إليها طعم الشهادة وريح الجنة. مدينتي مازالت تهوى التمرد وتكره الرتابة، ولا تعطي قلبها إلا لمن ذاب في عشق الوطن، مثلما أعطته لذلك الرجل الذي جاء من صعيد مصر ليقود الثورة.. ويسير بالأمة في الطريق الصعب النبيل نحو الحرية والعدل والوحدة.
.. وتمر الأيام وتختلف الظروف، ويتم إلغاء احتفال الوطن بيوم النصر العظيم حتى لا نجرح مشاعر الأعداء الذين لم يعودوا كذلك(!!). لكن مدينتي لا تنسى، وفي (23 ديسمبر) من كل عام تطل بعيونها وقلوبها إلى الطريق من المطار الصغير إلى قلب المدينة.. حيث كان موكب «الفارس» يأتي في كل عام. تحلم أن يعود ليبشرها مرة أخرى بالعدل والحرية والنصر الأليم.. ومازالت المدينة تحلم وتنتظر!
ولكن هيهات ان ياتى الفارس لقد رحل ولم يجود الزمان بمثلة
|