|
أرشيف المنتدى هنا نقل الموضوعات المكررة والروابط التى لا تعمل |
|
أدوات الموضوع | ابحث في الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() كيف ظهرت الجهمية ؟ وبين لنا أنه قدير على أن يكونوا مؤتلفين غير مختلفين فقال سبحانه وهو أصدق القائلين : ( وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَليْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلوْ شَاءَ اللهُ لجَمَعَهُمْ على الهُدَي فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الجَاهِلينَ ) (الأنعام:35) ، ونبهنا الله عز وجل ألطف تنبيه على أن هذا الخلاف بين المستخلفين في أرضه فيه حكمة بالغة ، ليعتبر البشر عند النظر ، إلي صحة البعث والحساب ، ووجود الثواب والعقاب ، وردا على المنكرين للنعيم والعذاب ، فقال وقوله الحق ، ووعده الصدق : ( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلي وَعْدًا عَليْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلمُونَ )(النحل:38) ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، بلغ الرسالة وأدي الأمانة ونصح الأمة وجاهد في سبيل الله حتى أتاه اليقين ، فاللهم اجزه خير ما جازيت به نبيا عن أمته ، ورسولا عن رسالته ، أما بعد .. نبدأ اليوم معكم بإذن الله تعالى الحديث عن موضوع عظيم كان له عظيم الأثر في تاريخ الإسلام والمسلمين ، بدعة كبري حدثت في تاريخ الإسلام والمسلمين ، بدعة عصفت بالأمة الإسلامية اكتوينا بنارها على مر السنين ، بدعة قتل بسببها آلاف المؤمنين الموحدين ، بدعة كبري ثبت فيها أمام أهل السنة في وجه الخليفة والمبتدعين ، فهو الوحيد الذي ثبت على قول الحق في عقيدة التوحيد حتى قيل : أحمد ليوم البدعة ، ، سوف نعرض لكم كيف نشأت هذه البدعة ؟ ولماذا عذب الإمام أحمد بن حنبل قامع البدعة وناصر السنة ؟ ومن الذي كان خلفها ؟ ومن الذي فتن بها وما آثارها على الإسلام والمسلمين ؟ . بداية نقول وبالله التوفيق ، إذا كان الاختلاف بين العقول البشرية ، مقدرا في سنن الله الكونية ، وجاريا على العباد بحكمة المتوحد في الربوبية ، إلا أنه من جهة العبودية ابتلاء لسائر الإنسانية ، في قوة التمسك بعقيدة التوحيد وطاعة الأحكام الشرعية ، من أجل ذلك نهانا الله عن الاختلاف وحذرنا من الوقوع في الخلاف ، وأمرنا بالاستسلام لله والاعتصام بكتابه وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم ، فقال جل ذكره : }يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْل اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَليْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلكَ يُبَيِّنُ اللهُ لكُمْ آيَاتِهِ لعَلكُمْ تَهْتدُونَ ) (آل عمران:103:102) ، وقال تعالى : } فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلمُوا تَسْليمًا { (النساء:65) . والصحابة جميعهم آمنوا بكلام الله ، واتبعوا طريقة رسول الله ، صدقوا نبيهم فكل ما أخبرهم به ، وأطاعوه عن حب في كل ما أمرهم به ، كما قال نبينا لسفيان بن عبد الله : قل آمنت بالله فاستقم ، وظل أمر السلف من بعدهم يسير بفضل الله على دربهم ، يخضعون لله عن طواعية وتسليم ، يصدقون خبر نبيهم ، وينفذون أمر رسولهم ، يتابعونه من غير ابتداع ، ويسلمون للوحي بلا نزاع ، ويعلمون أن صلاح العقول في اتباع المنقول ، في التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم ، وظلت أمور العقيدة على هذا الحال صافية نقية ، والأمة الإسلامية تمثل كمال البشرية في تحقيق العبودية لله عز وجل ، حتى ظهر أثر الحاقدين في التشويش على اعتقاد المؤمنين ، وبرز فكر الجاهلين ، الذين يقدمون آراءهم وأهواءهم على كل نص قرآني أو حديث نبوي ، فكان من أبرزهم في التاريخ الإسلامي ، عبد الله بن سبأ اليهودي ، الذي أسهم في تفرق الأمة الإسلامية ، وكان سببا في ظهور الشيعه والخوارج كأبرز الفرق الإسلامية ، وله بإذن الله حديث مستفيض ، في مجموعة من المحاضرات عن الشيعة وتاريخهم ، وأما أس البلاء وسبب ما نحن فيه من الشقاء ، وحامل لواء مقدمي الآراء على كتاب الله وسنة رسوله فهو الجهم بن صفوان الخرساني ، الذي توفي في نهاية الربع الأول من القرن الثاني الهجري . والجهم بن صفوان استمد فكره من طريقين : طريق يهودي والآخر وثني ، فقد تربّيَ الجهم بن صفوان على يد أستاذه الجعد بن درهم الذي أخذ أفكاره وآراءه من أبان ابن سمعان الذي تعلم من طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم وتلميذه ، ولبيد هو الساحر اليهودي الذي سحر النبي في مشط ومشاطة ، فقد روي البخاري من حديث عَائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا أنها قَالتْ سَحَرَ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ يُقَالُ لهُ لبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ ، حتى كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ يُخَيَّلُ إِليْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلهُ ، حتى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ ليْلةٍ وَهُوَ عِنْدِي ، لكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا ، ثُمَّ قَال يَا عَائِشَةُ أَشَعَرْتِ أَنَّ اللهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ ، أَتَانِي رَجُلانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْليَّ ، فَقَال أَحَدُهُمَا لصَاحِبِهِ : مَا وَجَعُ الرَّجُل ؟ فَقَال : مَطْبُوبٌ ، قَال : مَنْ طَبَّهُ ؟ قَال : لبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ ، قَال : فِي أَيِّ شَيْءٍ ؟ قَال : فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلعِ نَخْلةٍ ذَكَرٍ ، قَال : وَأَيْنَ هُوَ ؟ قَال : فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ ، فَأَتَاهَا رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَجَاءَ فَقَال : يَا عَائِشَةُ ، كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ ، أَوْ كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ، قُلتُ : يَا رَسُول اللهِ أَفَلا اسْتَخْرَجْتَهُ ؟ قَال : قَدْ عَافَانِي اللهُ فَكَرِهْتُ أَنْ أُثَوِّرَ على النَّاسِ فِيهِ شَرًّا ، فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ ، وفي رواية أخرى عند البخاري : فَقُلتُ اسْتَخْرَجْتَهُ فَقَال لا أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللهُ وَخَشِيتُ أَنْ يُثِيرَ ذَلكَ على النَّاسِ شَرًّا ثُمَّ دُفِنَتِ البِئْرُ . |
#2
|
||||
|
||||
![]() فهذا الساحر اليهودي هو أحد المصادر الأساسية ، لفكر هذا الجهم وأتباعه الجهمية ، فعقائد الجهم ونظرياته تنبع من أسس يهودية ، بعيدة عن كل البعد عن العقيدة الإسلامية ، استقي أفكاره من الفلاسفة القدماء للديانات اليهودية .
أما الطريق الثاني الذي استمد منه الجهم بن صفوان فكره ، فهو طريق وثني ، فالجهم كان كثير الخصومة والكلام ، لقي أناسا من المشركين يقال لهم السمنية ، والسمنية نسبة إلي قرية بالهند تسمي سُومَنَات ، وهي فرقة تعبد الأصنام وتقول بتناسخ الأرواح ، وتنكر الوحي والدين ، جرت بين الجهم وبينهم مناظرة عقلية ، فلما عرفوا الجهم قالوا له : نكلمك ونناظرك ، فإن ظهرت حجتنا عليك ، دخلت في ديننا ، وإن ظهرت حجتك علينا ، دخلنا في دينك ، - والجهم عامي مسكين ليس له باع أو قدم بين المتناظرين - فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له : ألست تزعم أن لك إلها ؟ قال الجهم : نعم ، قالوا له : فهل رأيت إلهك ؟ قال : لا ، قالوا : فهل سمعت كلامه ؟ قال : لا قالوا : فهل شممت له رائحة ؟ قال : لا ، قالوا : فوجدت له حسا ؟ قال : لا قالوا : فما يدريك أنه إله ؟ فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوما . قال ابن شوذب : ( ترك الصلاة أربعين يوما على وجه الشك خالفه بعض السمنية ، فشك فقام أربعين يوما لا يصلي ) ثم استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى ، الذين يزعمون أن الروح الذي في عيسي هو الله وأن الله يحل فيه ، فإذا أراد الله أمرا دخل في عيسي فتكلم على لسانه ، فيأمر بما يشاء وينهي عما يشاء ، وهو روح غائبة عن الأبصار ، فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة ، فقال الجهم لمن ناظره من السمنية : ألست تزعم أن فيك روحا ؟ قال السمني : نعم فقال له : هل رأيت روحك ؟ قال : لا ، قال : فسمعت كلامها ؟ قال : لا قال : فوجدت لها حسا ؟ قال : لا ، قال : فكذلك الله لا يري له وجه ولا يسمع له صوت ولا يشم له رائحه وهو غائب عن الأبصار وهو في كل مكان ، فالمخلوقات بمثابة الجسد والله في داخلها بمثابة الروح . قال أبو معاذ البلخي : ( كان جهم على معبر ترمذ ، بلد من نواحي إيران ، وكان رجلا كوفي الأصل فصيح اللسان ، لم يكن له علم ولا مجالسه لأهل العلم ، وكان قد تناقل كلام المتكلمين وكلمه السمنية ، فقالوا له : صف لنا ربك الذي تعبده ، فدخل البيت لا يخرج كذا وكذا ، قال : ثم خرج عليهم بعد أيام ، فقال : هو هذا الهواء مع كل شيء وفي كل شيء ولا يخلو منه شيء ) . |
#3
|
||||
|
||||
![]() وقد أخذ الجهم بن صفوان كما ذكرنا أستاذه الجعد بن درهم الذي قال بنفي أوصاف الله وعطل الآيات عن مدلولها وقال بخلق القرآن ، قال أبو القاسم اللالكائي : ( ولا خلاف بين الأمة أن أول من قال القرآن مخلوق جعد بن درهم ، ثم جهم بن صفوان ) .
فالجهم بن صفوان إليه تنسب طائفة الجهمية الذين قالوا لا قدرة للعبد أصلا ، بل هو بمنزلة الجمادات ، والجنة والنار تفنيان بعد دخول أهلهما حتى لا يبقي موجود سوي الله تعالى ) ، وقال أبو الحسن الأشعري : ( قول الجهمية الذي تفرد به جهم القول بأن الجنة والنار تبيدان وتفنيان وأن الإيمان هو المعرفة بالله فقط والكفر هو الجهل به فقط ، وأنه لا فعل لأحد في الحقيقة الا الله وحده وأنه هو الفاعل ، وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على المجاز ، كما يقال : تحركت الشجرة ودارت السفينة وزالت الشمس ، وإنما فعل ذلك بالشجرة والسفينة والشمس ، الله سبحانه وتعالي ، وكان جهم ينتحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) ، وكان جهم بن صفوان يقف على الجذامي ويشاهد ما هم فيهم من البلايا ويقول : أرحم الراحمين يفعل مثل هذا ، يعني أنه ليس هناك رحمة في الحقيقة ولا حكمة ، وأن الأمر راجع الجبر وإلي محض المشيئة الخالية عن الحكمة والرحمة . والجعد بن درهم قتل حدا وذلك لكفره الصريح بآيات الله وتكذيبها ، قتله خالد بن عبد الله القسري أمير بلاده في عيد الأضحى ، حيث خطب الناس وقال : ضحوا تقبل الله ضحاياكم ، فإني مضح بالجعد بن درهم ، فإنه يزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسي تكليما ، ثم نزل فذبحه ، وكان ذلك بعد أن استفتي علماء زمانه من السلف الصالح . ويذكر الذهبي : ( أن الجعد بن درهم هو أول من ابتدع بأن الله ما اتخذ إبراهيم خليلا ولا كلم موسي وأن ذلك لا يجوز على الله ، قال المدائني كان زنديقا ، وقال له وهب : إني لأظنك من الهالكين ، لو لم يخبرنا الله أن له يدا ، وأن له عينا ، ما قلنا ذلك ، ثم لم يلبث الجعد أن قتل وصلب ) . والجهم بن صفوان انتقل إلي ترمذ أحد البلدان في إيران ، وبدأ الدعوة لمذهبه ، فانتشرت فيها عقائد الإنكار والتعطيل لكلام الله ، ثم وجد لدعوته أتباعا ومريدين من العامة والدهماء والجاهلين ، في مدن أخرى من مدن إيران ، ثم انتشرت أفكاره في بغداد وبقية البلدان ، فالجهمية فرقة ظهرت في أواخر الحكم الأموي مؤسسها الجهم بن صفوان الترمذي السمرقندي ، الذي تربي على يد أستاذه الجعد بن درهم ، وأخذ عنه أسس أفكاره ، وكانت جذور أفكار الجعد وآرائه يهودية، أخذها من أبان بن سمعان عن طالوت عن لبيد بن الأعصم ، والجهم مات مقتولا ، قتله سالم بن الأحوز في آخر أيام الدولة الأموية . |
#4
|
||||
|
||||
![]() وقد تفرعت من فرقة الجهمية ، فرق عديدة انقسمت إلي أكثر من عشر فرق ، كل فرقة اتخذت لنفسها مسلكا فكريا خاصا ، وعقيدة مستقلة ، لكن أبرز عقائدالجهمية هي القول بنفي صفات الله ، وأن الإنسان لا يقدر على شيء ، وهو مجبور مسير ، مقعور غير مخير ، لا يوصف بالاستطاعة والقدرة ، وأن الجنة والنار تفنيان ، وأن الإيمان هو معرفة الله حتى لو كفر الإنسان باللسان ، وقالوا أيضا بأن القرآن مخلوق .
لكن نرجع إلي سؤال الأساسي في مناقشة السمنية لهذا الجهمي ؟ فهم لما ناقشوا الجهم قالوا له : ألست تزعم أن لك إلها ؟ قال الجهم : نعم ، قالوا له : فهل رأيت إلهك ؟ قال : لا ، قالوا : فهل سمعت كلامه ؟ قال : لا قالوا : فهل شممت له رائحة ؟ قال : لا ، قالوا : فوجدت له حسا ؟ قال : لا قالوا : فما يدريك أنه إله ؟ لو أن أحدا سألنا كما سأل الجهم : هل رأيت ربك ؟ أو هل يمكن أن نري الله ؟ والجواب أنه كان يكفي الجهم بن صفوان في الرد على السمنية أن يقول : إن الله يري في الآخرة ولا يري في الحياة الدنيا لأن الله شاء لنا الابتلاء والاختبار فيها ، فلو رأيناه أو رأينا ملائكته أو جنته وعذابه مباشرة دون حجاب لما كان لقيام السماوات والأرض بهذه الكيفية وبهذا الوضع الذي فطرنا عليه معني يذكر ، ولذلك قال تعالى : } ألمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ { (إبراهيم:19) ، وقال أيضا : } الذي خَلقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ ليَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُو العزيز الغَفُورُ { (الملك:2) . فكيف يتحقق الإيمان به ونحن نراه ؟ وإذا كان الله لا يري في الدنيا ابتلاءا فإنه سبحانه يري في الآخرة إكراما لأهل طاعته كما قال سبحانه : } وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلي رَبِّهَا نَاظِرَةٌ { (القيامة:22:23) وقد تواترت الأحاديث في إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة . فالعلة في عدم إدراك الكيفية ليست عدم وجودها ولا استحالة رؤية الله عز وجل ، ولكن العلة هي قصور الجهاز الإدراكي البشري في الحياة الدنيا عن إدراك حقائق الغيب ، فقد خلق الله الإنسان بمدارك محدودة لتحقيق علة معينة تمثلت في الابتلاء لقوله تعالى : } إِنَّا خَلقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَليهِ فَجَعَلنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً { (الانسان:2) . وقد أجريت التجارب والدراسات الحديثة لتقدير مدارك الإنسان أو المؤثرات التي يستقبلها الجهاز الحسي والإدراكي في جسم الإنسان ، فوجدوا إن البصر يدرك به الإنسان شمعة مضاءة تري على بعد 30 ميلا في ليل مظلم ، والسمع يدرك به الإنسان دقة الساعة في ظروف هادئة تماما على بعد 20 قدما ، والتذوق يدرك به الإنسان ملعقة صغيرة من السكر مذابة في جالونين من الماء ، الشم يدرك به الإنسان رائحة نقطة واحدة من العطر منتشرة في غرفة مساحتها 6 أمتار مربعة ، واللمس يدرك به الإنسان جناح ذبابة يسقط على الصدغ من مسافة 1 سم تقريبا . فإذا كان الجهاز الإدراكي في الإنسان بهذه الصورة في الدنيا فمن الصعب أن يري ما يحدث في القبر من عذاب أو نعيم أو يري الملائكة أو الجن أويري ذات الله وأوصافه من باب أولي ، ومعلوم أن عدم رؤيته لهذه الأشياء لا يعني عدم وجودها ، فالجن مثلا جهازه الإدراكي يختلف عن الإنسان من حيث القوة قال تعالى في وصفه : ( إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ) وموسي عليه السلام لما طلب رؤية الله لم يكن الجواب باستحالة الرؤية أو نفيها مطلقا ، ولكن النفي معلق بانتهاء الحياة الدنيا فإن الشيء لا يري إلا لسببين : خفاء المرئ وهو ممتنع في حق الله ، وضعف الجهاز الإدراكي للرائي وهذا هو شأن موسي عليه السلام . |
#5
|
||||
|
||||
![]()
ولذلك تجلي الله للجبل الذي يتحمل أقصي درجة ممكنة من ضوء الشمس والذي لا يتحملة الإنسان أكثر من تسع دقائق تقريبا ، قال تعالى : } وَلمَّا جَاءَ مُوسَي لمِيقَاتِنَا وَكَلمَهُ رَبُّهُ قَال رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِليْكَ قَال لنْ تَرَانِي وَلكِنِ انْظُرْ إلي الجَبَل فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلمَّا تَجَلي رَبُّهُ للجَبَل جَعَلهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَي صَعِقاً فَلمَّا أَفَاقَ قَال سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِليْكَ وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ { (الأعراف:143) .
فمن الخطأ طلب البحث عن كيفية الأمور الغيبية أو الذات الإلهية أو صفاتها في الدنيا ، لأن النواميس التي أوجدها الله في الكون لا تسمح بذلك ، اللهم إلا إذا حدث خرق للعادة كأن يري بعض الأنبياء ملائكة الله ، أو يطلعون على الجنة أو النار أو بعض أمور الغيب أو ما يعجز الإنسان العادي عن إدراكه . أما في الآخرة فالأمر مختلف تماما إذا أن مدركات الإنسان في الآخرة تختلف عن مدركاته في الدنيا كما صح الخبر عن رسول الله بذلك فقد روي البخاري ومسلم من حديث أبي هريرةَ أن النبيِّ صلي الله عليه وسلم قال : ( خَلقَ اللّهُ آدمَ على صورته ، طولهُ ستون ذراعاً ، فلما خَلقَهُ قال : اذهَبْ فسلمْ على أُولئكَ نفَرٍ من الملائكةِ جُلوسٍ ، فاستمعْ ما يُحيُّونَكَ ، فإنها تحيَّتُك وتحية ذرِّيِتك ، فقال : السلامُ عليكم ، فقالوا: السلامُ عليكَ ورَحمةُ اللّه ، فزادوه ورحمة اللّه ، فكلُّ من يَدخلُ الجنةَ على صورةِ آدم، فلم يزل الخلقُ يَنقصُ بعدُ حتى الآن ) ، فالانسان يوم القيامة على صورة آدم طوله ستون زراعا ومن أجل ذلك فإن مداركه وحواسه تتغير بالكيفية التي تناسب أمور الآخرة . فإذا قال رسول الله صلي الله عليه وسلم كما ثبت عند البخاري : ( إنكم سترون ربكم عيانا ) أو ( إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ) ، علمنا أن إدرك العين المبصرة في الدنيا ، تختلف عن إدراك العين المبصرة في الآخرة . من أجل ذلك وجب الإيمان بالرؤية في الآخرة والتسليم بذلك لموافقته للعقل الصريح والنقل الصحيح ، وكذلك الحال في بقية الصفات ، نؤمن بها ونثبتها لله دون سؤال عن الكيفية ، لكن الجهم بن صفوان بهذا الفكر العقلي الخبيث الذي زعم به أن الله حل في مخلوقاته وهو بذاته في كل مكان نظر في كتاب الله ، فما ظن أنه يوافق مذهبه من النصوص احتج بها ، وما ظن أنه يخالف مذهبه من النصوص أنكرها وعطلها عن مدلولها ، فوجد قوله تعالى : } ليْسَ كَمِثْلهِ شيء { (الشورى:11) وقوله تعالى : } وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ { (الحديد:4) وقوله تعالى : } لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ اْلأبْصَارَ { (الأنعام:13) فبني عليها القول بالحلول ونفيه لصفات الله والتكذيب بها . ووجد قوله تعالى : } الرحمن على العرش استوي { ،} سَأَل سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ مِنْ اللهِ ذِي المَعَارِجِ تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِليْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ { ، } قُل لوْ كَانَ مَعَهُ آلهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إلي ذِي العَرْشِ سَبِيلا { ، } الذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ للذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُل شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلمًا فَاغْفِرْ للذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ { . ماذا صنع الجهم بهذه النصوص ؟ اسمعوا : قال أبو نعيم البلخي وكان قد أدرك جهما : كان للجهم صاحب يكرمه ويقدمه على غيره فإذا هو قد هجره وخاصمه ، فقلت له : لقد كان يكرمك ، فقال : إنه جاء منه ما لا يتحمل بينما هو يقرأ سورة طه والمصحف في حجره إذ أتي على هذه الآية : } الرحمن على العرش استوي { ، قال : لو وجدت السبيل إلي أن أحكها من المصحف لفعلت فاحتملت هذه ، ثم إنه بينما يقرأ آية أخرى إذ قال : ما أظرف محمدا حين قالها ثم بينما هو يقرأ القصص والمصحف في حجره إذ مر بذكر موسي عليه السلام فدفع المصحف بيديه ورجليه ، وقال : أي شيء هذا ؟ ذكره هنا فلم يتم ذكره وذكره هنا فلم يتم ذكره . هذا هو المنهج الذي اتبعته المعطلة إلي يومنا هذا ، أتباع الجهمية من المعتَزِلة والأشعرية وسائر المتكلمين أصحاب المدرسة العقلية ، تسمع أحد المشايخ الكبار جدا يقول لك أنا أفتخر أنني من أصحاب المدرسة العقلية ، هذا هو المنهج الذي يدرس في أغلب البلاد الإسلامية ، منهج أتباع الجهمية |
#6
|
||||
|
||||
![]() زعم الجهم بن صفوان أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو في سنة رسوله صلي الله عليه وسلم فهو مشبه ، وأن التوحيد يكمن في نفي هذه الصفات متمسكا بزعمه بقول الله تعالى : } ليْسَ كَمِثْلهِ شيء {سواء كان النفي نفيا واضحا أو كان بتأويل القرآن على غير معناه ولي أعناق النصوص بغير ما تحتمل . فالجهم بن صفوان زعم أن الله في كل مكان ، كما أن الروح في الجسد ، وهذا كلام باطل من جميع الوجوه لأن الله سبحانه وتعالي لا يحل في مخلوقاته ، فقد ثبت أنه بذاته ، في السماء فوق العرش وعرشه فوق الماء ، والماء فوق السماء السابعة ، وهو سبحانه تعالى العلى في سمائه ، يدبر أمر مخلوقاته ويعلم ما هم عليه . قال أبو عمر الطلمنكي : أجمع المسلمون من أهل السنة على أن معني قوله تعالى : } وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ { الحديد:4 ونحو ذلك من القرآن أنه علمه ، وأن الله تعالى فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كيف شاء ، وقال أهل السنة في قوله : } الرَّحْمَنُ على العَرْشِ اسْتَوَي { : إن الاستواء من الله على عرشه على الحقيقة لا على المجاز ) . وقال أبو زرعة الرازى : إن الله عز وجل على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسول الله صلي الله عليه وسلم بلا كيف أحاط بكل شيء علما ، وإنه تبارك وتعالي يري في الآخرة يراه أهل الجنة بأبصارهم ويسمعون كلامه كيف شاء وكما شاء . وقال أبو نعيم الأصبهاني : طريقتنا طريقة المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة ، ثم قال : فما اعتقدوه أن الأحاديث التي ثبتت عن النبي صلي الله عليه وسلم في العرش واستواء الله يقولون بها ويثبتونها من غير تمثيل ولا تشبيه ولا تكييف وأن الله بائن من خلقه والخلق بائنون منه ولا يحل فيهم ولا يمتزج بهم ، وهو مستو على عرشه في سمائه دون أرضه وخلقه ، وقال أيضا : وأجمعوا أن الله فوق سماواته عال على عرشه مستو عليه لا مستول عليه كما تقول الجهمية أنه بكل مكان خلافا لما نزل في كتابه ، قال تعالى : } أَأَمِنتُمْ مَنْ في السَّمَاءِ { ، وقال تعالى أيضا : } إِليْهِ يَصْعَدُ الكَلمُ الطَّيِّبُ { ، وقال تعالى : } الرَّحْمَنُ على العَرْشِ اسْتَوَي { . وقال أبو الحسن الأشعري في كتابه الإبانة عن أصول الديانة الذي نصر فيه أهل السنة والجماعة عند قوله تعالى : ( أَأَمِنتُمْ مَنْ في السَّمَاءِ ) قال : السماوات فوقها العرش ولما كان العرش فوق السماوات قال أأمنتم من في السماء لأنه على العرش الذي فوق السماوات وكل ما علا فهو سماء والعرش أعلى السماوات ، وليس إذا قال : أأمنتم من في السماء يعني جميع السماوات وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات . وقال يحي بن معاذ الرازى : إن الله على العرش بائن من خلقه قد أحاط بكل شيء علما وأحصي كل شيء عددا لا يشك في هذه المقالة إلا جهمي رديء أو هالك مرتاب يمزج الله بخلقه ويخلط منه الذات بالأقذار والأنتان . وقد أضل الجهم بن صفوان خلقا كثيرا وتبعه على قوله رجل يقال له واصل بن عطاء ، ورجل آخر يقال له عمرو بن عبيد وإليهما ينسب مذهب المعتزلة ، فما هي قصة المعتزلة ؟ كيف نشأت وما هي أصولهم ؟ وكيف دعوا الناس إلي القول بخلق القرآن ؟ وكيف امتحنوا إمام أهل السنة وقتلوا آلافا من أهل الإيمان ؟ بإذن الله تعالى سوف نتحدث عن ذلك في المحاضرة القادمة ، والسلام عليكم ورحمة الله بركاته . فضيلة الشيخ محمود عبد الرازق الرضواني - استاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة |
العلامات المرجعية |
|
|