اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > مسك الكلام فى الاسلام > حي على الفلاح

حي على الفلاح موضوعات وحوارات ومقالات إسلامية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 08-02-2017, 08:11 AM
abomokhtar abomokhtar غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2008
المشاركات: 11,687
معدل تقييم المستوى: 29
abomokhtar is just really nice
New فروض الكفايات ودورها في نهضة المجتمعات


إخوة الإسلام، إن من المسائل المهمة في حياة الأمة مسألةً غفل عنها كثير من المسلمين في الآونة الأخيرة، إنها مسألة فروض الكفاية، وما لها من منزلة عظيمة ودور بارز في حياة الفرد والأمة، فهيا لنتعرف عليها وعلى مجالاتها وأثرها في حياة المجتمع.

أولًا: تعريف فرض الكفاية وبيان الفرق بين فرض العين وفرض الكفاية
تعريف فرض الكفاية: فرض الكفاية هو الذي إذا قام به بعض أفراد الأمة سقط الفرض عن الباقين.
ومعنى (سقط الفرض عن الباقين): سقط حرج الفرض وإثمه، والله أعلم.

يقول الإسنوي - رحمه الله -: سمي فرض كفاية؛ لأن قيام بعض المكلفين به يكفي للوصول إلى مقصد الشارع في وجود الفعل، ويكفي في سقوط الإثم عن الباقين[1].
ويقول الرافعي: إن فروض الكفاية أمور كلية تتعلق بها مصالح دينية ودنيوية، لا ينتظم الأمر إلا بحصولها، فيقصد الشرع حصولها، ولا يقصد تكليف الواحد وامتحانه فيها، بخلاف فروض الأعيان؛ فإن الكل مكلفون بها، ممتحنون بتحصيلها، وهذا الحد يشمل سنة الكفاية، فإنه لم يقل: يقصد الشارع حصوله لزومًا..[2].

الفرق بين فرض العين وفرض الكفاية:
• إن فرض العين مطلوب من المكلف، سواء كان رجلًا أو امرأة؛ كالصلاة والصيام والزكاة، ولا يسقط عنه إذا أداه غيره.
• أما فرض الكفاية فإنه مطلوب من الجميع، ولكن إذا أداه جماعة سقط عنهم جميعًا، وإلا أثموا جميعًا.
• واعلم أن فرض العين لا يمكن أن يتحول إلى فرض كفاية.
• أما فرض الكفاية فإنه قد يتحول إلى فرض عين على المسلم في بعض الحالات، فإذا رأى مسلم منكرًا ولم يكن هناك غيره يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فإن الأمر والنهي في حقة فرض عين.

ثانيًا: أيهما أفضل القيام بفرض العين أم القيام بفرض الكفاية؟
اعلم - بارك الله فيك وزادك الله علمًا - أن العلماء اختلفوا في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: القيام بفرض الكفاية أولى من القيام بفرض العين، وممن ذهب إلى هذا القول أبو إسحاق الإسفراييني وأبو محمد الجويني وابنه إمام الحرمين[3].

وبينوا لنا العلة من ذلك القول، وهي أن الذي يقوم بفرض العين إنما يسقطه عن نفسه، أما من يقوم بفرض الكفاية فإنه يسقطه عن نفسه وعن الأمة جميعًا؛ فالنفع في فرض الكفاية متعدٍّ، وأما نفع فرض العين فمقصور على الشخص.

قال إمام الحرمين: ثم الذي أراه أن القيام بما هو من فروض الكفايات أحرى بإحراز الدرجات، وأعلى في فنون القربات من فرائض الأعيان؛ فإن ما تعين على المتعبد المكلف لو تركه ولم يقابل أمر الشارع فيه بالارتسام، اختص المأثم به، ولو أقامه فهو المثاب، ولو فرض تعطيل فرض من فروض الكفايات لعم المأثم على الكافة على اختلاف الرتب والدرجات؛ فالقائم به كافٍ نفسه وكافة المخاطبين الحرج والعقاب، وآمل أفضل الثواب، ولا يهون قدر من يحل محل المسلمين أجمعين في القيام لمهمة من مهمات الدين[4].

القول الثاني: وهو قول جمهور العلماء -: أن القيام بفرض العين أفضل من القيام بفرض الكفاية.
قال الإمام الغزالي في الإحياء في شروط الاشتغال بعلم الخلاف: ألا يشتغل به وهو من فروض الكفايات من لم يتفرغ من فروض الأعيان، قال: ومن عليه فرض عين فاشتغل بفرض الكفاية وزعم أن مقصده الحق فهو كذاب، ومثاله: من ترك الصلاة في نفسه وتبحر في تحصيل الثياب ونسجها، ويقول: غرضي أستر عورة من يصلي عريانًا؛ اهـ[5] .

واستدلوا على ذلك بمجموعة من الأدلة كلها عقلية:
منها: أن النصوص الشرعية قدمت فرض العين على فرض الكفاية، من ذلك تقديم بر الوالدين، وهو فرض عين، على الجهاد في سبيل الله، وهو فرض كفاية.

ومنها: اعتناء الشارع في طلب حصول فروض الأعيان من المكلف أكبر من اعتنائه بفروض الكفاية؛ أي إن فرض العين آكد من فرض الكفاية، بدليل أن الشارع طلب تحصيل فروض الأعيان من آحاد المكلفين، أما الفروض الكفائية فقد اكتفى بطلب تحصيلها مِن بعضهم.

ومنها: أن المصلحة في الفرض العيني تتكرر بتكرر الفعل، بخلاف الفرض الكفائي؛ فإن المصلحة فيه لا تتكرر؛ لأنه لا يتكرر، والفعل الذي تتكرر مصلحته أقوى في استلزام المصلحة[6].
والراجح في هذه المسألة: أن فرض العين أفضل من فرض الكفاية.

ومما يدل على ذلك قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: ((أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله))[7].
حيث رتَّب النبي صلى الله عليه وسلم عصمةَ الدم والمال على القيام بفروض الأعيان دون فروض الكفايات، وهذه مَيْزة شرعية تجعل للفرض العيني الأولويةَ على الفرض الكفائي.

الجمع بين القولين:
على أنه يمكن الجمع بين القولين بما ذكره الشيخ الزملكاني، وحكاه عنه الزركشي، حيث قال: ما ذكر من تفضيل فرض الكفاية على فرض العين محمول على ما إذا تعارضا في حق شخص واحد، ولا يكون ذلك إلا عند تعينهما، وحينئذ هما فرض عين، وما يُسقِط الحرجَ عنه وعن غيره أولى، وأما إذا لم يتعارضا وكان فرض العين متعلقًا بشخص وفرض الكفاية له من يقوم به، ففرض العين أولى[8].

ثالثًا: مجالات فروض الكفاية
أخي المسلم، فإن سألت: ما هي مجالات وصور فرض الكفاية؟ فإن الجواب بحول الملك الوهاب فيما يلي:
المجال الأول: العبادات:
اعلَمْ - بارك الله فيك - أن هناك عباداتٍ شرعها الله تعالى وبيَّن لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أنها مِن فروض الكفايات، نذكر منها:
أولًا: طلب العلم؛ فطلب العلم الشرعي ليس فرض عين على جميع الأمة، بل هو من فروض الكفاية، والأدلة على ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122].

يقول الشيخ محمد رشيد رضا - رحمه الله -:
"والآيةُ تدل على وجوب تعميم العلم والتفقه في الدين والاستعداد لتعليمه في مواطن الإقامة وتفقيه الناس فيه على الوجه الذي يصلح به حالهم، ويكونون به هداة لغيرهم، وأن المتخصصين لهذا التفقه بهذه النية لا يقلُّون في الدرجة عند الله عن المجاهدين بالمال والنفس لإعلاء كلمة الله والدفاع عن الملة والأمة،بل هم أفضلُ منهم في غير الحال التي يكون فيها الدفاع فرضًا عينيًّا، والدلائل على هذا كثيرة.

كنت أطلب العلم في طرابلس، وكان حاكمها الإداري (المتصرف) فيها مصطفى باشا بابان من سروات الكرد، وكان من أهل العلم والفقه في مذهب الشافعية، وقد قال لي مرة في دارنا بالقلمون: لماذا تستثني الدولةُ العلماء وطلاب العلوم الدينية من خدمة العسكرية وهي واجبة شرعًا وهم أولى الناس بالقيام بهذا الواجب؟ - يعرض بي - أليس هذا خطأً لا أصل له في الشرع؟

فقلتُ له - على البداهة -: بل لهذا أصل في نص القرآن الكريم، وتلوتُ الآية، فاستكثر الجواب على مبتدئ مثلي لم يقرأ التفسير وأثنى ودعا،وقد تعارضَتِ الروايات المأثورة في هذه الآية، فاختلفت الأقوال في تفسيرها، والحقُّ فيها ما قلنا، وعليه الجمهور"[9].

ويقول السعدي - رحمه الله -:
"وفي هذه الآية أيضًا دليل وإرشاد وتنبيه لطيف، لفائدة مهمة، وهي: أن المسلمين ينبغي لهم أن يُعدوا لكل مصلحة مِن مصالحهم العامة مَن يقوم بها، ويوفر وقته عليها، ويجتهد فيها، ولا يلتفت إلى غيرها؛ لتقوم مصالحهم، وتتم منافعهم، ولتكون وجهة جميعهم، ونهاية ما يقصدون قصدًا واحدًا، وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم، ولو تفرقت الطرق وتعددت المشارب، فالأعمال متباينة، والقصد واحد، وهذه من الحكمة العامة النافعة في جميع الأمور"[10].

ثانيًا: الدعوة إلى الله تعالى، ومِن ذلك الدعوة إلى الله تعالى؛ فالدعوة والإرشاد من باب فروض الكفاية، وليست فرض عين على جميع الأمة.
يقول ابن باز - رحمه الله -: الدعوة فرض كفاية، إذا قام بها من يكفي في أي بلد أو في أي قرية أو في أي قبيلة سقطت عن الباقين، وصارت في حقهم سنَّة، بشرط أن يكون عندهم علم وعندهم بصيرة، وأهلية للدعوة بـ: قال الله عز وجل وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا تعاونوا صار ذلك أكمل وأطيب؛ كما قال الله عز وجل: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾ [النحل: 125]، وقال تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 2] الآية[11].

ثالثًا: صلاة الجنازة:
ومِن أمثلة فروض الكفاية التي ضربها أهل العلم مثلًا: صلاة الجنازة، وتغسيل الميت، والقيام بدفنه، إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين، وهذا من رحمة الإسلام بالأمة؛ إذ لو كانت صلاة الجنازة فرضَ عين على كل مسلم لتعطَّلت المصالح، وشق ذلك على أفراد الأمة.

رابعًا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو قطبُ الدِّين ورحى الإسلام، وبه نجاة الأمة من السقوط في براثن المعاصي والذنوب، وبه تحفظ الأعراض والأموال، وهو مِن فروض الكفاية، كما دلَّت على ذلك الآيات والأحاديث الشريفة؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104].

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: "ولتكن منكم" أيها المؤمنون "أمة"، يقول: جماعة "يدعون" الناس "إلى الخير"، يعني إلى الإسلام وشرائعه التي شرعها الله لعباده، "ويأمرون بالمعروف"، يقول: يأمرون الناس باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ودِينه الذي جاء به من عند الله، "وينهون عن المنكر": يعني وينهَوْن عن الكفر بالله والتكذيب بمحمد وبما جاء به من عند الله، بجهادهم بالأيدي والجوارح، حتى ينقادوا لكم بالطاعة[12].

يقول القاسمي - رحمه الله -: "وفي الآية دليلٌ على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوبه ثابت بالكتاب والسنَّة، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهَّرة، وأصل عظيم من أصولها، وركن مَشِيد من أركانها، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها - كذا في فتح البيان.

قال الغزالي - رحمه الله -: في هذه الآية بيان الإيجاب؛فإن قوله تعالى: "ولتكن" أمر،وظاهر الأمر الإيجاب، وفيها بيان أن الفلاحَ منُوط به؛ إذ حصر وقال: ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104]،وفيها بيان أنه فرض كفاية لا فرض عين، وأنه إذا قام به أمة سقط الفرض عن الآخرين؛إذ لم يقل: كونوا كلكم آمرين بالمعروف، بل قال: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ ﴾ [آل عمران: 104]، فإذا ما قام به واحد أو جماعة سقط الحرج عن الآخرين، واختص الفلاح بالقائمين به المباشرين،وإن تقاعد عنه الخلق أجمعون، عم الحرجُ كافة القادرين عليه لا محالة،انتهى"[13].

خامسًا: رد السلام واجب على الكفاية، أما ابتداء السلام فهو سنَّة على الكفاية.
واعلم - بارك الله فيك - أن رد السلام واجب على الكفاية على الجماعة، وهو فرضُ عين على الواحد؛ فابتداؤُه مستحب،ولا يستحب على المصلي عند بعض الشافعية، ولا على من يقضي حاجته، ولا في الحمام.
ولو أجاب الجميع دفعة واحدة كانوا مؤدين فرض كفاية، كما يلحقهم الذمُّ بأجمعهم لو تركوا.
ولو تعاقبوا، فالوجه: أن الفرضَ يسقُطُ بالأول.

المجال الثاني: الأمور الدنيوية
واعلم - زادني الله وإياك علمًا وفهمًا - أن هذا المجال مجال واسع، فكل ما يخدم الأمة ويُعْلي من شأنها ويمكن لها من الأمور الدنيوية يصبح فرض كفاية على الأمة، إذا قام به طائفة منهم سقط عن الباقين، نذكر من ذلك عدة أمثلة:
أولًا: العلوم الدنيوية: التي لا علاقة لها بالشرع؛ كالطب والهندسة وغيرهما من سائر تلك العلوم، فتعلُّمه فرض كفاية.
يقول الإمام الغزالي - رحمه الله -: فلا يتعجب من قولنا: إن الطب والحساب من فروض الكفايات؛ فإن أصول الصناعات أيضًا من فروض الكفايات؛ كالفلاحة والحياكة والسياسة، بل الحجامة والخياطة؛ فإنه لو خلا البلد من الحَجَّام تسارع الهلاك إليهم، وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك؛ انتهى"[14].

وقال النووي - رحمه الله -: (وأما العلوم العقلية فمنها ما هو فرض كفاية؛ كالطب والحساب المحتاج إليه)[15].
وقال العز بن عبدالسلام - رحمه الله -: (فإن الطب كالشرع، وُضع لجلب مصالح السلامة والعافية، ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام...والذي وضع الشرع هو الذي وضع الطب؛ فإن كل واحد منهما موضوع لجلب مصالح العباد، ودَرْء مفاسدهم)[16].

وقالت اللجنة الدائمة: (كلُّ علم ديني مع وسائله التي تعين على إدراكه داخل فيما يرفع الله - مَن علمه وعمل به، مخلصًا له - عنده درجات، وأنه مقصود بالقصد الأول،وكل علم دنيوي تحتاجه الأمة، وتتوقف عليه حياتها، كالطب والزراعة والصناعة ونحوها، داخل أيضًا إذا حسنت النية، وأراد به متعلِّمُه والعامل به نفع الأمة الإسلامية ودعمها، ورفع شأنها، وإغناءها عن دول الكفر والضلال، لكن بالقصد الثاني التابع، ودرجات كل متفاوتة تبعًا لمنزلة ذلك من الدين، وقوته في النفع ودفع الحاجة"؛ انتهى[17].

ثانيًا: البيع والشراء وغيرهما من فروض الكفاية:
واعلم أن فروض الكفاية تشمل مناحي الحياة، وكل ما تتم به المعايش؛ كالبيع والشراء والحرث وتولي الإمامة والشَّهادة وأدائها والقضاء وإعانة القضاة على استيفاء الحقوق، وحتى تزويج العزب والعانس؛ إذ إن حل مشكلة العنوسة في المجتمع تدخل في إطار فروض الكفاية؛ لأن القرآن الكريم قال: ﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 32]، والخطابُ في الآية الكريمة موجَّهٌ للأمة كلها، فلو عجز إنسان عن تزويج ابنه أو ابنته توجَّه الأمر إلى الأمة كلها؛ حتى لا يكون فيها عزَبٌ ولا عانس.

يقول ابن القيم - رحمه الله -: ومِن ذلك أن يحتاج الناس إلى صناعة طائفة؛ كالفلاحة والنساجة والبناء وغير ذلك، فلولي الأمر أن يلزمهم بذلك بأجرة مثلهم، فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بذلك.
ولهذا قالت طائفة من أصحاب أحمد والشافعي: إن تعلم هذه الصناعات فرض على الكفاية؛ لحاجة الناس إليها، وكذلك تجهيز الموتى ودفنهم، وكذلك أنواع الولايات العامة والخاصة التي لا تقوم مصلحة الأمة إلا بها)[18].

رابعًا: أثر فروض الكفاية على الفرد والأمة:
اعلم - علَّمني الله وإياك - أنه قد تأكد مما سبق أن القيام بالفروض الكفائية نهوض بالمصالح العامة للأمة، وسد لحاجياتها وضروراتها، وتقوية للقطاعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتعليمية والصناعية والفلاحية، وقد أدى تعطيلُ هذه الوظائف والقطاعات الأساسية وقلة الاهتمام بها إلى تخلُّف الأمة وتراجعها، وضعف تحصيناتها ومقاومتها، فانعدمت الوسائل التي يتحقق بها العمران، وندرت أسباب المعيشة الكريمة للناس؛ نظرًا لهدر الثروات والكفاءات وقلة الإنتاج، فأدى إهمالُ الواجبات الكفائية إلى احتياج الأمة إلى غيرها في العلم والطعام والدواء، وإحياء الواجب الكفائي كفيل بنهضة الأمة وتحقيق اكتفائها الذاتي ومقاومة الأطماع الخارجية السياسية والاقتصادية التي تروم تضعيف طاقات الأمة وتخريب تحصيناتها الثقافية والاجتماعية والتربوية.

خامسًا: مجتمع العمران رهين بإحياء الواجب الكفائي:
لمَّا كانت قوة الأمة وتقدمها رهينة بفهمها لواجباتها ومرتبطة بقيامها بمسؤولياتها، وكانت واجباتُ الأمة تدخل ضمن الفروض الكفائية التي ألزم الله عز وجل بها أفراد الأمة جميعًا ولم يُعيِّن أحدًا منهم؛ لأن مصلحتها مرتبطة بالجميع - كان بعث الواجب الكفائي وإحياؤه سبيلًا لإقامة المجتمع المتضامن المستقر، والأمة المتراصة القوية، وسبيلًا للشهود الحضاري للأمة الذي يخوِّلها منزلة الخلافة والإعمار، ولن يتأتى هذا إلا عن طريق:
أ - تصحيح أبعاد الواجب الكفائي في فكر الأمة
إن سبيلَ إحياء الواجب الكفائي هو تقويم الفكر وتجديد الفهم وتصحيح التدين، ودفع فساد التصور وانحراف السلوك، وربط الدنيا بالآخرة؛ ذلك أن بعث الواجبات الكفائية يقتضي معالجة أسباب التعطيل، التي من أهمها قصور الفهم لأبعاد هذه الفروض ولمقتضيات الاستخلاف على الأرض، وقلة الاعتناء بالسنن الكونية التي تتحكم بأسباب النهوض أو انهيار الحضارات، فقد تم إهمال الدنيا من أجل الآخرة، وإهمال علوم الدنيا التي يحتاج إليها في قوام أمور الحياة.

فكان إحياء فقه الواجبات الكفائية والمصالح العامة، وأبعادها الحقيقية في الأمة، وإعمالها في الحياة الاجتماعية والسياسية عن طريق تجديد الفهم وفقه المقاصد - كفيلًا بإعادة الأمة إلى طريق الشهود، والحفاظ على خيراتها ووسطيتها، حتى تصبح هذه الواجبات طريق التنمية والتقدم، وسبيلًا لإقامة مجتمع الخلافة والإعمار.

ب - تربية المجتمع على القيام بالواجب الكفائي:
لا شك أن الخطط والمشاريع التنموية تركز على محورية المجتمع ومكانته الفعالة في أي تنمية شاملة، وتحرص على بناء مجتمع متقدم، يفقه دوره، ويعي مسؤوليته في الحياة، وكان إحياء الواجب الكفائي، وترسيخ فلسفته، وتوضيح أبعاده داخل المجتمع، رهينًا بتربية المجتمع المسؤول الذي يحرص على أداء واجباته وتحصيل المصالح العامة المقصودة من إقامته، فيساهم في حماية الكيان الإسلامي وإعماره.

ج - تكوين الأمة لمن يقوم بالواجب الكفائي وإعداده لذلك:
لما كان مفهوم الواجب الكفائي في الإسلام يتسع لكل نشاط يقصد به وجه الله وخدمة الإسلام وإعلاء شأن المجتمع الإسلامي وتحقيق مصالح الإنسان - كان الخطاب في الواجب الكفائي موجهًا إلى المجموع، لا إلى كل فرد، ومؤدى ذلك أن "للأمة مصالح كثيرة لا بد مِن وجودها لتنظم أحوالها، وتسعد في حياتها، ومن هذه المصالح ما لا يقدر عليه إلا باستعداد خاص وتعلم ودراية، فمثلًا الطب لا يقدر على القيام به الفلَّاح الذي لم يتجاوز فكره دائرة مزرعته...والقضاء بين الناس لا يقدر عليه إلا الفقيه ذو الفِراسة الذي عنده علم بأحوال البيئة التي يعيش فيها، إلى غير ذلك من الكفايات اللازم وجودها، ولا يقدر عليها إلا بعض من الأمة، استعد لها وأتقن مقدماتها ووسائلها...وإذا لم يكن في الأمة مستعدون فعليها تذليل الطريق لإيجادهم بالتعليم"[19].
والله تعالى أعلم وأجلُّ وأكرم!

[1] انظر: التمهيد للإسنوي ص74.
[2] التحبير شرح التحرير (2/ 875).
[3] انظر: الغياثي لإمام الحرمين صـ 358، التحبير شرح التحرير للمرداوي 2/ 882، التمهيد للإسنوي صـ 75، البحر المحيط 1/ 251، تشنيف المسامع بجمع الجوامع 1/ 252، القواعد والفوائد الأصولية صـ 188، فرض الكفاية د.علي الضويحي ص 117.
[4] انظر: الغياثي لإمام الحرمين صـ 358 - 359.
[5] انظر: إحياء علوم الدين للإمام الغزالي 1/ 43، البحر المحيط للزركشي 1/ 252.
[6] انظر: الفروق للإمام القَرافي 2/ 203، شرح مختصر الروضة 2/ 410، القواعد والفوائد الأصولية صـ 188، شرح الكوكب المنير 1/ 377.
[7] رواه الإمام البخاري في صحيحه 1/ 11 - 12.
[8] انظر: البحر المحيط للزركشي 1/ 252،من مقال: حكم فرض الكفاية عند الأصوليين/ بقلم د.عبدالله ربيع عبدالله محمد.
[9] تفسير المنار (11/ 63).
[10] تفسير السعدي (ص: 355).
[11] موقع الإمام ابن باز.
[12] تفسير الطبري - ط الرسالة - ت أحمد شاكر (7/ 90).
[13] محاسن التأويل (2/ 374).
[14] إحياء علوم الدين (1/ 16).
[15] روضة الطالبين (10/ 223).
[16] قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 4).
[17] فتاوى اللجنة الدائمة (12 / 77).
[18] الطرق الحكمية - مطبعة المدني (ص: 359).
[19] مقال: إحياء الواجب الكفائي والعيني طريق لإقامة مجتمع العمران، د. المصطفى تودي، مجلة الوعي الإسلامي، عدد 552، يوليو 2011.


السيد مراد سلامة
__________________
رد مع اقتباس
 

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 05:11 PM.