العقرب والسمكة

[فوزي الحديدي]

من أشهر الروايات السياسية التي ظهرت في أوائل الستينيات .. رواية The Tower of Bable "برج بابل". هي رواية ممنوعة من مصر، ومن الدول العربية الأخرى ، ومن إسرائيل وجنوب أفريقيا، وأمريكا وإنجلترا ودول أوربية أخرى، طبيعي لأنها أغضبت جميع الأطراف .

تبدأ الرواية بجلسة عاصفة لمجلس الوزراء الإسرائيلي، في مناقشة حامية تدين إسرائيل كل الإدانة على الأسلوب الهمجي الذي تنتهجه من أجل التوسع. يكفي أن الكاتب هنا يصف "بن جوريون" رئيس وزراء إسرائيل بأنه الرجل الذي رسم خريطة إسرائيل بدماء العرب الأبرياء. وعلى الرغم من ذلك فقد لاحظتُ انحياز المؤلف إلى جانب إسرائيل في كثير من المواقف، منها على سبيل المثال ، أن أحد وزراء إسرائيل لا يؤمن بوجود الله لأنه ، حسب تعبير المؤلف، لا يتصور أن يظل هذا الإلّه يمرح ويلعب في السماء في الوقت الذي يقوم "هتلر" بحرق عشرة ملايين يهودي تحت سمعه وبصره خلال الحرب العالمية الثانية.

وهاجَمَ المؤلف زعماء منظمة التحرير الفلسطينية واتهمهم بأنهم لا هدف لهم إلا جمع المال تحت شعارات القتال والتحرير، وأنهم في حقيقة أمرهم لا يريدون للقضية الفلسطينية حلا، لسبب بسيط .. أنهم يعيشون على تلك القضية ويَجْنون من وراء الشعارات التي يرفعونها مكاسبَ مادية وأدبية كثيرة. ومع ذلك فقد أنصَفَ المؤلف إلى حدٍّ ما .. الفئاتِ المقاتلة.

وهاجَمَتْ الروايةَ الدولَ العربية كلها بغير استثناء. وهاجَمَتْ الرئيس "جمال عبد الناصر" بدعوى أنه يحاول دائما استرضاء الجماهير، لكي يكسب شعبية بأي ثمن حتى لَوْ كان ذلك على حساب مصلحة بلاده وعلى حساب مصلحة الجماهير الذين يؤيدونه أنفسهم، واتهَمَتْهُ بأنه يقود شعبَه نحو الهاوية.

وهاجمَتْ أمريكا بسبب تحيزها لإسرائيل وتطرفها في تقديم المساعدات لها، ووصَفَتْها بأنها لم تعُدْ قلعةً للحرية كما كانت من قبل، وخصَّتْ الرجل الأمريكي بالنقد ووصفته بالكِبْر والغرور. وهاجَمتْ إنجلترا بسبب خيانتها للأمانة يوم أن سلمت فلسطين وهي تحت حمايتها للعصابات الصهيونية.

وقد استوقفَ نظري مشهدٌ في الرواية أعدْتُ قراءتَه عدة مرات. المكان: مكتب صاحب أحد البنوك الكبرى في لبنان. والحوار يدور بين رجال ثلاثة: صاحب البنك، ومليونير عربي كبير، ورجل أمريكي. المليونير العربي ثائر على بعض الصحفيين اللبنانيين الذين يدافعون عن مصر وعن "جمال عبد الناصر". يَتوَعَّدهم المليونير ويسبهم. والرجل الأمريكي يتعجب من ذلك كل العجب، ويقول للمليونير العربي :

ـ أرجو أن تفسر لي ذلك .. أيْ موقفك من "جمال عبد الناصر". إنني أفهم أنَّ مَنْ له الحق في السخط عليه هو واحدٌ من اثنين: إما مواطن إسرائيلي تهدده سياسة "جمال عبد الناصر"، أو مواطن مصري تضغط عليه سياسة عبد الناصر، وعلى مستواه الاقتصادي . أما أنت فإنك تنتمي إلى جنسية عربية يدافع عنها "عبد الناصر"، وينفق من أموال شعبه على ذلك بغير حساب. وأما خلافه مع إسرائيل فإنكم تربحون من ورائه، وأنت شخصيا تربح الملايين من وراء هذا الخلاف، وشعب مصر هو الذي يدفع الثمن. وإذا سَقَطَتْ مصر فإن الدول العربية سوف تسقط جميعا.

وأما المليونير العربي فهو رجلٌ عملي، وظريف في الوقت المناسب. لم يَشَأ أن يستمر في لجاجة سياسية لا فائدة من ورائها، فاقترب من الأمريكي وقال له وهو يبتسم: اسمع يا صديقي:

يُحكى أن عقربا أراد أن يعبر النهر إلى الضفة الأخرى ، فَوَقَفَ على حافة النهر ينتظر إلى أن مرتْ عليه سمكة، فقال لها العقرب:

ـ هل تسمحين أيتها السمكة أن أمتطي ظهرك لأعبر النهر إلى الضفة الأخرى؟.

فلم توافق السمكة محتجة بأن العقرب قد يلدغها وهي في منتصف النهر.

ولكن العقرب قال للسمكة إن ذلك أمرُ مستحيل، ولا يمكن حدوثه أبدا، لأن مصيرهما واحد، وإن السمكة لو ماتت في منتصف النهر قبل أن تبلغ بَرَّ الأمان لغَرِقَ العقربُ معها أيضا، فاقتنعت السمكة.

وفي منتصف النهر لَدَغَ العقربُ السمكةَ وهو ممتطيا ظهرها. وذُعِرَتْ السمكة وقالت للعقرب وهي في هلع:

ـ لماذا فعلتَ ذلك أيها العقرب؟. ألا تدرك أنني سوف أموت الآن، وأنك سوف تغرق معي أيضا وتموت؟.

فقال العقرب:

ـ إنني أعرف ذلك ولكن ما حيلتي ؟. إنني عقرب.