|
أرشيف المنتدى هنا نقل الموضوعات المكررة والروابط التى لا تعمل |
|
أدوات الموضوع | ابحث في الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
![]()
لقد بعث الله تعالى رسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة الخاتمة، فكان -صلى الله عليه وسلم- خاتم الأنبياء والمرسلين، ورسالته خاتمة الرسالات جميعًا، فأنزل الله تعالى عليه القرآن بلسان عربي مبين في أُمَّة ..
الحمد لله رب العالمين، الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين الذي أنزل الله تعالى القرآن على قلبه بلسان عربي مبين، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدِّين. وبعد، فإنَّ قضية الإعجاز القرآني قد استحوذت ـمنذ وقت مبكرـ على قدر كبير من اهتمام العلماء وعنايتهم، وكانت هي الدافع القوي وراء ما بذلوه من جهود مباركة، يرمون من ورائها إلى تحقيق هدف ديني أصيل، جدير بأنْ يبذل في سبيله كل جهد، وتستنفد كل طاقة. ذلك أنَّ التسليم بأنَّ القرآن الكريم معجز للبشر، يؤدي بدوره إلى التسليم بأنه من عند الله تعالى، وهذا بدوره يؤدي إلى التسليم بأنَّ كل ما تضمنه حق خالص، لا سبيل للباطل إليه، وأنه الصراط المستقيم، وحبل الله المتين، وأنَّ العصمة والنجاة في الاحتماء بحصنه. لقد بعث الله تعالى رسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة الخاتمة، فكان -صلى الله عليه وسلم- خاتم الأنبياء والمرسلين، ورسالته خاتمة الرسالات جميعًا، فأنزل الله تعالى عليه القرآن بلسان عربي مبين في أُمَّة أُمية لها باعها الطويل والقِدْح المُعلَّى في البيان والفصاحة وروعة الأسلوب، حتى كانت لهم الأسواق والمنابر والمواسم يعرضون فيها أنفس البضائع، وأدق وأجود وأبرع صناعتهم البيانية، إنها بضاعة الكلام من الشعر والنثر والخطابة، وكان النقد والمساجلة والمناظرة، حتى يختاروا من هذه الصناعة البيانية أروعها وأحسنها في جو من التنافس الشديد، ليتفاخروا بما قدموه، ولتتناقله العرب بعد ذلك تذوقًا للُّغة التي تهذبت كلماتها وأساليبها واختيرت ألفاظها أحسن اختيار. فنزل القرآن على النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- ، وهو معجزته الكبرى، ودليله على النبوة وأنه لا ينطق عن الهوى إنْ هو إلاَّ وحي يوحى، وقد وقف أئمة اللُّغة من العرب عاجزين أمام القرآن أنْ يحاكوه أو يماثلوه في أزهى العصور للأُمَّة العربية بيانًا وفصاحة وبلاغة. فكان التحدي بألفاظ القرآن وكلماته في فصاحته وبلاغته وبيان أسلوبه. لذا قبل الدخول في لب موضوعنا وهو: "الإعجاز البياني واللُّغوي في القرآن الكريم"، يحسن بنا أنْ نشير إلى الموضوعات التي سوف نتناولها بالدراسة من خلال البحث إنْ شاء الله تعالى، وهي على الترتيب التالي: [1] معجزات الأنبياء. [2] تعريف المعجزة، الإعجاز. [3] تعريف البيان، الفصاحة، البلاغة. [4] معجزة القرآن. [5] التحدي بالقرآن. [6] حالة العرب الفكرية. [7] وجوه الإعجاز. [8] كتب الإعجاز. [9] نماذج من القرآن الكريم دالة على إعجازه البياني. [10] خاتمة تشمل على أهم النتائج التي توصل إليها البحث، كما ذيَّلتُ الدراسة بفهرس المراجع، ثم نأتي بعد الإجمال إلى التفصيل. والله أسال أنْ يوفقني لإخراج هذا البحث على الصورة المقبولة إنه سميع مجيب. [1] معجزات الأنبياء: اقتضت حكمة الله تعالى أنْ يؤيِّد رسله بالمعجزات لتكون تصديقًا لهم فيما يبلغون من رسالاته، إذا ما داخل الشك قلوب أقوامهم، وأنكروا عليهم دعواهم، كما قالت ثمود لصالح عليه السلام: ﴿مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ﴾ [ الشعراء:154-155]. وكما قال موسى -عليه السلام- لفرعون: ﴿يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ﴾ [الأعراف:104-108]. وكما قال عيسى -عليه السلام- لبني إسرائيل: ﴿ ...أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [ آل عمران:49]. وكما قالت قريش لمحمد -صلى الله عليه وسلم-: ﴿فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ﴾[ الأنبياء:5] وكأنهم أرادوها آيات حسية على غرار آيات صالح، وموسى، وعيسى عليهم السلام فقال الله تعالى لهم: ﴿قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾[ العنكبوت:50-51]. فلفت الله –تعالى- أنظارهم إلى أنَّ القرآن آية محمد -صلى الله عليه وسلم- ومعجزته، وهو قائم مقام معجزات غيره من الأنبياء. [2] تعريف المعجزة: عندنا فعلان: أحدهما: ثلاثي، والآخر رباعي. الثلاثي: عجز، يعجز فهو عاجز، ومصدر الفعل هو: العجز. أما الرباعي: فهو أعجز، يعجز فهو مُعجز ومصدر الفعل هو الإعجاز. المعجزة إذًا: هو اسم الفاعل المؤنث من فعل ذلك الفعل[1]. والمعجزة في الاصطلاح: "هي الأمر الخارق للعادة، السالم من المعارضة يظهره الله تعالى على يد النبي، تصديقًا له في دعوى النبوة"[2] ويشترط في المعجزة: [1] أنْ تكون فعلًا من الأفعال المخالفة لما تعوَّد عليه الناس وألفوه. [2] أنْ يظهره الله تعالى على يد من يدّعي النبوة. [3] أنْ يكون الغرض من ظهور هذا الفعل الخارق هو تحدي المنكرين، سواء صرح النبي صاحب المعجزة بالتحدي أو كان التحدي مفهومًا من قرائن الأحوال. [4] أنْ تجيء المعجزة موافقة ومصدقة لدعوى النبوة، فإذا حدثت المعجزة وكذبت النبي في دعواه فلا يكون النبي صادقًا، كما لو نطق الجماد مثلًا بتكذيب صاحب المعجزة. [5] أنْ يعجز المنكرون عن الإتيان بمعجزة مماثلة لمعجزة النبي، أي يعجزون عن معارضته[3]. تعريف الإعجاز: الإعجاز لغة: مصدر، وفعله رباعي هو أعجز، تقول: أعجز يعجز إعجازًا واسم الفاعل معجز[4]. والإعجاز في الاصطلاح: له عدة تعريفات، منها تعريف الإمام الجرجاني[5] في كتابه القيم "التعريفات": "أنْ يؤدي المعنى بطريق، هو أبلغ من جميع ما عداه من الطرق"[6]. وقد عرَّفه مصطفى صادق الرافعي بقوله: "وإنما الإعجاز شيئان: [1] ضعف القدرة الإنسانية في محاولة المعجزة، ومزاولته على شدة الإنسان واتصال عنايته. [2] ثم استمرار هذا الضعف على تراخي الزمن وتقدمه. فكأنَّ العالم كله في العجز إنسان واحد، ليس له غير مدنه المحدودة بالغة ما بلغت"[7]. ومن التعريفات المتعلقة بهذا الباب: [3] تعريف البيان: البيان: عبارة عن إظهار المعنى بعبارة مبيِّنة عن حقيقته من غير توسع في الكلام، فإنْ تأنقت في إسهاب فهي البلاغة. وأما الفصاحة: فعبارة عن الظهور من قولهم: "أفصح الصبح"، إذا ظهر. واللفظ الفصيح هو الظاهر، والغالب أنه يستعمل باعتبار اللفظ الكثير الاستعمال في معناه وإنْ خالف القياس[8]. [4] معجزة القرآن: ولما كان التفوق عنصرًا مشتركًا بين المعجزات الحسية والعقلية على حد سواء، كان القرآن ـوهو معجزة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- متفوقًا عما يشاكله من كلام البشر، غير أنَّ القوم أنكروا هذا التفوق، وقالوا حين تليت عليهم آياته: ﴿قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ﴾[الأنفال:31] وجاء التحدي ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ﴾ [الطور:34]. [5] التحدي بالقرآن: وحار القوم في إجابة هذا التحدي، كيف يأتون بكلام مثل هذا الكلام كله؟ ربما قد حاولوا، ولكنهم عجزوا، وقالوا: ﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ﴾ [الفرقان:4]، فتجاوز لهم عن بعض ما طولبوا به، ولم يشأ أنْ يفلتوا بما أعذروا أنفسهم به، فلئن كان حديثًا مفترى أعين عليه ﴿فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [هود:13]، وما أجداهم أنْ يستعينوا بمَنْ شاءوا ومَنْ استطاعوا في أنْ يأتوا بالعشر المفتريات، فأرخى لهم إمعانًا في التحدي الساخر بقدرتهم، فتجاوز عن العشر إلى واحدة مع العون أيضًا فقال: ﴿قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [يونس:38]، ولئن تقاصرت قدرتكم أنْ تأتوا بسورة مماثلة لسورة على التحديد ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة:23]، فربما كانت مماثلته على التقريب أيسر عليكم من مماثلة على التحديد.. وهذا ما أشارت إليه آية البقرة باستخدام لفظ ﴿مِن مِّثْلِهِ﴾. [6] حالة العرب الفكرية: لن نعجل بالجواب، قبل أنْ نلقي نظرة على حالة العرب الفكرية والبيانية قبيل عصر المبعث، لنرى مبلغ رُقِيّهم الفكري والأدبي، ممثلًا في أسواقهم الأدبية، يعرضون فيها أنفس بضاعتهم من الكلام، وأغلب صناعتهم من الشعر والبيان، يتبارون في عرضها ونقدها واختيار أحسنها، والمفاخرة بأجودها، كذلك لم يكن غريبًا أنْ نرى القرآن ـوقد صادف هذا المستوى الفكري لدى هؤلاء العرب ـ أنْ يناقش ويجادل عن نفسه، وأنْ يشتد في جداله ودفاعه ويعلو صوته حتى يصافح وجه السماء، فما ذاك إلاَّ أنه وجد أمامه خصومًا ألداء وأعداء أشداء، أوتوا حظًا من نضج الفكر، وبلاغة القول، وعزة النفس. كذلك لم يشأ الله أنْ تكون آيته إليهم إلاَّ القرآن، آية عقلية تناسب نضجهم الفكري، ورتبتهم في سلم الرُّقي البشري، وكلما ارتكسوا في حمأة اليأس من معارضته، ونكسوا على رؤوسهم في طلب معجزة حسية، أبى الله ذلك ـوكان قادرًا على أنْ ينزل عليهم آية فتظل أعناقهم لها خاضعين ـ لأنهم تجاوزوا دور الطفولة البشرية، وتخطوا مرحلة البلادة الفكرية التي اقتضت أنْ تكون معجزة البشرية في تلك المرحلة حسية[9]. نحن إذًا أمام مجتمع حي قادر على التفكير، ترى ما الذي منعه أنْ يرد على هذا التحدي؟ [7] وجوه الإعجاز: ما الذي أعجزه أنْ يبذل جهده في المعارضة؟ وهنا يأتي الجواب: إنه العجز عن التشبع بالمعاني الجديدة التي كان يطرقها القرآن، وهذا بعض المعجزة، إنه العجز عن الوقوف على أسرار البلاغة القرآنية، وطريقة تناول الآيات للمعاني، وهذا باقي المعجزة. وهكذا أنبأنا التاريخ بهذا العجز في عصر القرآن، ولكن لم تُطْو صفحة التحدي في العصر الذي بعده وأهله بعد على سلائقهم العربية، وفيهم من يود أنْ يتأتى على هذا الدين من أساسه، وما أيسره عليه لو دخل إليه من باب القرآن بقبول التحدي، ولكن التاريخ لم يسجل لأحد فيه قدرة على ذلك، بل حِيل بينهم وبين ما يشتهون كما فُعِلَ بأشياعهم من قبل. ومضت القرون، وورث اللُّغة عن أهلها الوارثون، وكلما تطاول الزمان بين عصر المبعث والعصور التالية له، كان أهلها أشد عجزًا، وأقل طمعًا في هذا المطلب العزيز، لانحراف ألسنتهم وفساد سلائقهم، وكانت شهادة على إعجاز القرآن إلى أنْ تطوى صفحة هذا الوجود، ويرث الله تعالى الأرض ومن عليها. ونحن وإنْ كنا نذهب مذهب القائلين بأنَّ عجز القوم راجع إلى نظم القرآن وبلاغته، وشرف معناه ودقته؛ فما ذاك إلاَّ لأنه لم يصح وجه آخر لإعجاز القرآن سواه عند التحدي أول عهد العرب به، وأنَّ ما أضيف إلى إعجازه البلاغي من وجوه أخرى كالإعجاز الغيبي، والإعجاز العلمي، والإعجاز التشريعي، فإنما كان ذلك عندما اكتمل عقد القرآن، ونظر الباحثون إليه جملة. ونحن لا ننكر هذه الوجوه أنْ تكون من آيات إعجازه؛ وإنما نريد أنْ نؤكد: أولًا: أنَّ التحدي بالقرآن كان في حدود ما نزل من سوره في بداية الدعوة. وثانيًا: أنَّ التحدي كان في أدنى مراتبه بأقصر سورة منه. وثالثًا: أنَّ التحدي كان بوجه مما برع القوم فيه شأن المعجزات. فما وجه الإعجاز إذًا إنْ لم يكن الإعجاز البلاغي، فهو عنصر قائم في أقصر سورة من القرآن، وهو مناط براعة القوم، وهو أسبق من غيره تمثلًا فيما نزل. وقد تضافرت الروايات التي سبقت من شهادات قريش حول القرآن على تأكيد هذا الوجه، فهو منبع السحر الذي وصفوا القرآن به، ومهوى أفئدتهم في الاستماع إليه وسبب الإيمان لمن اهتدى به[10]. ويمكن ملاحظة ذلك في الآتي: [1] تسجيل انبهارهم بأسلوب القرآن إدانة لكفرهم وتنديدًا بمغالاتهم في الكفر مع اعترافهم بهذا الانبهار. هذا ما حكته الآيات من سورة المدثر التي تحدثت عن قصة الوليد بن المغيرة حين سمع القرآن من النبي -صلى الله عليه وسلم- وانبهر به. قال السيوطي في "الإتقان"[11]: "أخرج الحاكم عن ابن عباس أنه قال: جاء الوليد بن المغيرة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقرأ عليه القرآن، فكأنه رَقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم، إنَّ قومك يريدون أنْ يجمعوا لك مالًا ليعطوكه لئلا تأتي محمدًا لتعرض لما قاله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالًا، قال: فقل فيه قولًا يبلغ قومك أنك كاره له، قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، والله إنَّ لقوله الذي يقول لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكَّر قال: هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره". وقد قص الله تعالى علينا خبره في سورة المدثر[المدثر:11-26]. [2] تسجيل تخبطهم في تفسير سر بلاغة القرآن ومحاولتهم المستمرة للنيل منه، فمرة يقولون: إنه قول شاعر، ومرة يقولون: إنه أساطير الأولين، ومرة يزعمون أنَّ رجلًا أعجميًا يوحي به إلى محمد، ومرة يشبهونه بما يقوله شعراؤهم في المناسبات ويطلبون من محمد أنْ يأتي بالقرآن كله جملة واحدة، ومرة يطلبون منه أنْ يغيِّره ويبدلَّه. والقرآن يتعقب هذه المحاولات اليائسة ويذكرها: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلً﴾ [الفرقان:5]. وقالوا: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ [النحل:103]. وقالوا: ﴿أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ﴾ [الأنبياء:5]. وقالوا: ﴿لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ [الفرقان:32]. وقالوا: ﴿ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ﴾ [يونس:15]. [3] وسجَّل القرآن هذه المحاولات كلها للطعن في نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- وفي كون القرآن وحيًا، وأشار إلى هذا بقوله تعالى: ﴿وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرً﴾ [الفرقان:33]. [4] فلما باءت محاولاتهم بالفشل المتتابع والإخفاق المتتالي، ادَّعوا أنهم قادرون على تأليف مثله؛ فأوقعوا أنفسهم في مأزق التحدي. قال تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ [الأنفال:31]. [5] ومن هنا بدأت أزمتهم الحقيقية، فقد نزل الوحي صريحًا في تحديهم بكل وضوح وقوة وتأكيد، وقد ورد التحدي في الآيات التي تقدم ذكره[12]. [6] وقد اختلف العلماء في مسألة "القدر المعجز" من القرآن، وهذا الاختلاف هو اللبنة الأولى في صرح البحوث الإعجازية في تطورها التاريخي، والتي امتدت إلى أنْ أصبحت أساسًا لما سُمِّيَ فيما بعد بـ "الإعجاز البياني". أيًَّا ما كان الأمر، فقد بدأت بحوث اللُّغويين والمتكلمين في قضية الإعجاز تتبلور بشكل محدد قرب نهاية القرن الثاني الهجري بعد فتنة خلق القرآن التي أثيرت في عهد المأمون بصورة واضحة بتأثير من أحد النصارى وهو: عبد المسيح بن إسحاق الكندي، الذي رفض الدخول في الإسلام حين دعاه بعض رجال المأمون، وانتقد الإسلام وأثار قضية أنَّ القرآن مخلوق. وما خلفته هذه الفتنة من مآسٍ معروفة لا داعي هنا لإعادة طرحها أو الإشارة إليها. غير أنَّ هذه الفتنة امتدت فيما تلا ذلك من سنوات، وتمخضت عن عدة اتجاهات فكرية تمثلت في تبني المعتزلة ممثلين في النَّظَّام (ت 200هـ) لفكرة "الصرفة"، ومعناها: أنَّ إعجاز القرآن كان بصرف الله تعالى للعرب أنْ يأتوا بمثله، وبهذا القول قال كثير من المعتزلة بعد ذلك، بل وقد قال به بعض المفسرين والعلماء من غير المعتزلة، إلاَّ أنَّ الرد على هذه الفكرة ميسور، لأن الإعجاز لو كان بالصرفة فمعناه أنَّ القرآن بذاته غير معجز والإعجاز قائم على قدرة الله تعالى. وهذا ما لا تدل عليه آيات التحدي. قال العلاَّمة ابن عاشور[13]: "فعجز جميع المتحدين عن الإتيان بمثل القرآن أمر متواتر بتواتر هذه الآيات بينهم وسكوتهم عن المعارضة مع توافر دواعيهم عليها". وقد اختلف العلماء في تعليل عجزهم عن ذلك فذهبت طائفة قليلة إلى تعليله بأنَّ الله تعالى صرفهم عن معارضة القرآن فسلبهم المقدرة أو سلبهم الداعي، لتقوم الحُجَّة عليهم، بمرأى ومسمع من جميع العرب، ويعرف هذا القول بالصرفة كما في "الموافق" للعضد و"المقاصد" للتفتازاني (ولعلها بفتح الصاد وسكون الراء، وهي مرة من الصرف، وصيغ بصيغة المرة للإشارة إلى أنها صرف خاص، فصارت كالعَلَم بالغلبة) ولم ينسبوا هذا القول إلاَّ إلى الأشعري فيما حكاه أبو الفضل عياض[14] في "الشفا"، وإلى النَّظَّام والشريف المرتضى، وأبي إسحاق الاسفرائني فيما حكاه عنهم عضد الدين في "المواقف"، وهو قول ابن حزم صرح به في كتاب "الفِصَل"[15]، وقد عزاه صاحب "المقاصد" في شرحه إلى كثير من المعتزلة. وأما الذي عليه جمهرة أهل العلم والتحقيق، واقتصر عليه إمام الحرمين، وعليه الجاحظ وأهل العربية كما في "المواقف"؛ فالتعليل لعجز المتحدين به بأنه بلوغ القرآن في درجات البلاغة والفصاحة مبلغًا تعجز قدرة بلغاء العرب عن الإتيان بمثله. [8] كتب الإعجاز: على الرغم من كون الجاحظ[16] معتزليًا وتلميذًا لإبراهيم النَّظَّام؛ فقد آمن بفكرة الإعجاز، ووضع كتابًا حول الإعجاز الأسلوبي للقرآن أسماه "نظم القرآن"، لم يصل إلينا، ولكن الجاحظ على طريقته في الإشارة إلى بعض كتبه في بعضها الآخر، أورد بعض الفقرات من هذا الكتاب في كتابيه: "الحيوان" و"البيان والتبيين" الموجودين حاليًا، ويتلخص رأي الجاحظ في تبنيه للقول بالصرفة إلى جانب إيمانه بأنَّ العرب عجزوا عجزًا حقيقيًا -مع محاولاتهم- عن الإتيان بمثل القرآن، بسبب طريقة نظم القرآن أي أسلوبه، ويعتبر كتاب الجاحظ المفقود هذا أول كتاب في إعجاز القرآن كما يقول الباقلاني (ت 306هـ)، أشار إليه الرافعي وقال: "إنه سبق به عبد القاهر الجرجاني". وفي القرن الرابع نجد رسالة للرماني في إعجاز القرآن، أشار الرافعي في كتابه "إعجاز القرآن" إلى أنها تعتبر المرحلة الثالثة ـ بعد الجاحظ والواسطي ـ من مراحل القول بأنَّ الإعجاز أسلوبي بياني. وقد أشار ابن سنان الخفاجي في "سر الفصاحة" والسيوطي في "الإتقان"[17] إلى رسالة الرماني هذه. وهي تتميز بأنها نقلت مباحث الإعجاز خطوة إلى الأمام بتلخيص الرماني لكل ما قيل قبله من آراء في رسالته هذه. وممن ساروا على هذا الطريق أيضًا الخطابي (ت 388هـ)، في كتاب له عن إعجاز القرآن من جهة بلاغته، وقد اجتهد في تفصيل وجوه الإعجاز من جهة البلاغة، وخرج به عن دائرة النظم إلى دوائر أخرى من المعاني كالإخبار بما يحدث في المستقبل، وبهذا يكون البحث في الإعجاز قد بدأ ينتقل إلى طور جديد. وابتداء من القرن الخامس الهجري، ومع اتساع مجالات علم الكلام[18]، وتفشَّي بعض مظاهر الزندقة والإلحاد[19]؛ بدأت البحوث في الإعجاز القرآني تتخذ مسارات أكثر تطورًا، وساعد على هذا التطور الازدهار المشهود الذي اتسمت به البحوث اللُّغوية والفنون الأدبية، ويُعَدُّ كتاب الباقلاني من أفضل نتاج هذا القرن في مجال الإعجاز، إلى جانب إنجازات عبد القاهر الجرجاني الذي وضع نظرية النظم وضعًا متكاملًا، وإليها يرجع الفضل في تطور علوم البلاغة بعد ذلك، بل إننا لا نغالي إذا قلنا: إنَّ ما جاءت به بعض المدارس اللُّغوية المعاصرة التي اهتمت بالأسلوب والتحليل البنائي للتراكيب اللُّغوية لم تضف كثيرًا إلى ما نادى به عبد القاهر -كما سيتضح ذلك بعد قليل- أما كتاب الباقلاني فقد تلا ذلك من عصور، هو المنوال الذي نسج عليه المؤلفون في الإعجاز بعد عصر الباقلاني، وفيه ناقش مسألة في غاية الأهمية، وهي أنَّ القرآن لم يجيء معجزًا للكفار في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقط؛ بل إنَّ إعجازه يشمل كل العصور التالية، والدليل على ذلك -في رأيه- أنَّ أسلوب القرآن سيظل أرقى من كل الأساليب مهما تطورت. كما فرَّق الباقلاني بين إعجاز القرآن وإعجاز غيره من الكتب السماوية، فأوضح أنَّ إعجاز تلك الكتب مقصور على الإخبار بالغيب فقط، والقرآن إعجازه متعدد الجوانب[20]. أما عبد القاهر فقد بنى نظريته في النظم على أساس لغوي نحوي بحت، فهو في كتابه: "دلائل الإعجاز" يوضح جوانب نظريته تلك توضيحًا كافيًا ويرد على مخالفيها. وملخص ما ذهب إليه أنَّ البلاغة التقليدية تقوم على حسن اختيار الألفاظ، فيتقوى المعنى بما يبذله المنشئ للأدب من جهد في التقديم والتأخير والاستعارة. أما القرآن فإنه يقوم بالأساس على فكرة أداء المعنى المراد بصورة جمالية مؤثرة في النفس من خلال العلاقات اللُّغوية (صوتيًا بين الحروف، ونحويًا بين الكلمات، وصرفيًا باختيار بناء صرفي محدد) وهذه العلاقات الثلاث تسهم في وضعية الدلالة وتأثيرها. وهكذا بدأت بحوث الإعجاز تتميز عن بحوث البلاغة وعلم الكلام، وفتح عبد القاهر والباقلاني باب تلك البحوث لمن جاء بعدهما. ففي القرن التالي لهما، وهو القرن السادس، نجد الاهتمام بالبحث في الإعجاز يتسع ليشمل متكلِّمين كأبي حامد الغزالي (شافعي المذهب)، والقاضي عياض (مالكي المذهب)، ومفسرين كالإمام الزمخشري[21] وابن عطية[22]. وفي القرن السابع نجد الإمام فخر الدين الرازي، وهو مفسر مشهور ويأخذ تفسيره المُسَمَّى "مفاتيح الغيب" طابعًا خاصًا يهتم بالرد على فرق كثيرة من المتكلِّمين والزنادقة[23]. ونجد السكاكي البلاغي في كتابه: "مفتاح العلوم" الذي يعدّه كثير من الباحثين خاتمة كتب البلاغة القديمة في صورتها الإبداعية، ويعدّون مؤلفات البلاغة بعد السكاكي مجرد شروح وحواش وتلخيصات واجترار لما قاله السابقون. كما نجد اهتمامًا بالبحث في الإعجاز في هذا القرن أيضًا عند ابن العربي الآمدي، علي بن أبي علي (ت 631هـ)، وحازم القرطاجني (ت 684هـ)، ثم البيضاوي المفسر[24]. وفي القرن الثامن نجد آراء قيمة للزملكاني (ت 727هـ) في كتابه: "التبيان في إعجاز القرآن"، وابن تيمية (ت 728هـ) في كتابه: "جواب أهل العلم والإيمان بتحقيق ما أخبر به رسول الرحمن"، والخطيب الذي لخص كتاب: "مفتاح العلوم" للسكاكي، ويحيى بن حمزة العلوي صاحب كتاب: "الطراز" (ت 749هـ)، وابن القيم (ت751هـ) صاحب كتاب "الفوائد المشوقة إلى علم القرآن وعلم البيان"، الذي يتناول فيه بإسهاب قضية الإعجاز القرآني وما سبقه من آراء فيها. كما نجد إشارات للإعجاز في تفسير ابن كثير (ت 774هـ)[25]. وتتابعت الكتابات في الإعجاز القرآني بعد ذلك، حيث نجد في القرن التاسع آراء لابن خلدون والفيروزآبادي والمراكشي. وفي القرن العاشر يظهر السيوطي بكتابيه: "الإتقان في علوم القرآن" و"معترك الأقران في إعجاز القرآن"، وكتابه الثاني جامع ومفيد يقع في ثلاثة مجلدات، وهو في رأي بعض الباحثين أثمن كثيرًا من الإتقان وأشمل، ويغفل عنه كثير من الباحثين على الرغم من قيمته العظيمة، وقد رتّبه الإمام السيوطي على خمسة وثلاثين وجهًا من وجوه الإعجاز، ويقدم لكل وجه بمن ألَّف فيه قبله، وهو يُعَدُّ سجلًا للمؤلفين والكُتَّاب في هذا الفن[26]. كما نجد في هذا القرن أيضًا تفسير أبي السعود[27] وبعض الإشارات عند طاش كبرى زاده. وفي القرن الحادي عشر نجد الشهاب الخفاجي، وفي القرن الثاني عشر نجد الضرير المالكي الإسكندري، الذي تفرَّد بين علماء التفسير بوضعه تفسيرًا منظومًا كاملًا للقرآن الكريم، كما نجد الجمل الذي وضع حاشية على تفسير الجلالين. وفي القرن الثالث عشر يتميَّز الإمام الشوكاني بتفسيره: "فتح القدير"[28] والألوسي بـ: "روح المعاني"[29]. وقد تحدث كل منهما في ثنايا تفسيره عن البلاغة القرآنية وجوانبها المختلفة. وخير ما نجده في هذا العصر كتاب "البرهان في علوم القرآن" للإمام بدر الدين الزركشي، وفيه مبحث جيد في إعجاز القرآن، والكتاب مطبوع حاليًا في أربعة مجلدات ومتداول. ومن الكتب الجيدة أيضًا التي تناولت الإعجاز بتفصيل دقيق "مناهل العرفان في علوم القرآن" للشيخ/ محمد عبد العظيم الزرقاني حيث عرَّف إعجاز القرآن بقوله: "أصل الإعجاز في اللُّغة: إثبات القرآن عجز الخلق عن الإتيان بما تحداهم به، فهو من إضافة المصدر لفاعله، والمفعول وما تعلق بالفعل محذوف للعلم به. والتقدير: إعجاز القرآن خلق الله تعالى عن الإتيان بما تحداهم به. ولكن التعجيز المذكور ليس مقصودًا لذاته، بل المقصود لازمه وهو إظهار أنَّ هذا الكتاب حق، وأنَّ الرسول الذي جاء به رسول صدق، وكذلك الشأن في كل معجزات الأنبياء، ليس المقصود بها تعجيز الخلق لذات التعجيز، ولكن للازمه وهو دلالتها على أنهم صادقون فيما يبلغون عن الله تعالى، فينتقل الناس من الشعور بعجزهم إزاء المعجزات، إلى شعورهم وإيمانهم بأنها صادرة عن الإله القادر، لحكمة عالية، وهي إرشادهم إلى تصديق من جاء بها ليسعدوا باتباعه في الدنيا والآخرة"[30]. ولقد تناول في المبحث السابع عشر إعجاز القرآن وما يتعلق به بالتفصيل، فارجع إلى ذلك هناك[31]. ولم يعدم القرن الأخير كُتَّابًا شغلهم إعجاز القرآن فألَّفوا فيه كالرافعي في كتابيه: "آداب العرب" و"إعجاز القرآن"، والدكتور/ محمد عبد الله دراز في كتابه: "النبأ العظيم" في بعض مباحثه، وسيد قطب في كتابه: "التصوير الفني في القرآن"[32]. وما زال في الساحة كثير ممن لا أحصيهم عددًا، وفي ضمير الغيب كثير ممن سَيُقَيَّضُونَ لهذا العمل الجليل، ويورثون علم هذا الكتاب العزيز حتى آخر الزمان. [9] نماذج من القرآن الكريم دالَّة على إعجازه البياني: لنأخذ بعض الأمثلة الدالَّة على الإعجاز البياني على سبيل الإيضاح لبعض الجوانب المهمة في براعة أسلوب القرآن وكونه معجزًا. يقول القاضي عياض: "أولها حسن تأليفه"، من حيث تركيبه بين حروفه، وكلماته، وآياته، وسوره، وقصصه، وحكاياته، وانتظام كلماته، في سلك مبانيها المتناسبة لمقتضى معانيها المتناسقة. وهذا هو السر في أنَّ القرآن لم يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية، من حيث ذوات المفردات والجمل وقوانينها العامة، بل جاء كتابًا عربيًا جاريًا على مألوف العرب من هذه الناحية، فمن حروفهم تألَّفت كلماته، ومن كلماتهم تألَّفت تراكيبه، وعلى قواعدهم العامة في صياغة هذه المفردات وتكوين التراكيب جاء تأليفه، ولكن المعجز والمدهش أنه مع دخوله على العرب من هذا الباب الذي عهدوه، ومع مجيئه بهذه المفردات والتراكيب التي توافروا على معرفتها، وتنافسوا في حلبتها، وبلغوا الشأو الأعلى فيها، نقول: إنَّ القرآن مع ذلك كله وبرغم ذلك كله؛ قد أعجزهم بأسلوبه الفذ، ومذهبه الكلامي المعجز. ولو دخل عليهم من غير هذا الباب الذي يعرفونه، لأمكن أنْ يلتمس لهم عذر أو شبه عذر، وأنْ يسلم لهم طعن أو شبه طعن (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ آأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ)[فصلت:44]، ولهذا المعنى وصف الله كتابه بالعروبة في غير آية. فقال جَلَّ ذكره في سورة يوسف: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[يوسف:2]، وقال في سورة الزخرف: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[الزخرف:3]، وقال في سورة الزمر: (قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)[الزمر:28]. ومن فصاحة القرآن وضوح بيان معانيه، مع اقتصاد مبانيه، مع إيجازه، وذلك بإيفاء واكتفاء وإيماء[33]، غير مخل ولا ممل، ومن بلاغته في عجائب التراكيب، وغرائب الأساليب، وبدائع العبارات، وروائع الإشارات، المتجاوزة لعادة العرب من فصاحتهم وبلاغتهم.. حيث إنهم كانوا أرباب هذا الشأن من الفصاحة والبلاغة وفرسان الكلام، وقد خُصوا من البلاغة والحِكَم ومن كمال العقل ما لم يُخص به غيرهم من الأمم سابقة ولاحقة، حتى إنهم تساجلوا في النظم والنثر وتفاخروا وتكاثروا، فما راعهم إلاَّ رسول كريم جاءهم بخلاف هواهم لكنه معه هداهم.. حتى أتاهم بكتاب عزيز ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾[فصلت:42] أُحكمت آياته، وفُصلت كلماته، وبَهرت بلاغته العقول، وظهرت فصاحته على كل مقول نظمًا أو نثرًا. وهذا الوليد بن المغيرة سمع من النبي -صلى الله عليه وسلم- : ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل:90][34]، قال الوليد قولته المشهورة: "والله إنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أسفله لمغدق، وإنَّ أعلاه لمثمر.. ما يقول هذا بشر"[35]. وكل هذا مما جعل القرآن الكريم في فصاحته وبلاغته خارقًا للعادة، يعجز المنكرين واعتراف المفترين، ولنأخذ مثلًا للتأمل في إعجاز بلاغته متأملًا الإيجاز الباهر في الإعجاز الظاهر في قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ [البقرة:179] [36] نجد من بدائع التركيب وروائع الترتيب، مع ما فيه من المطابقة بين معنيين متقابلين، وهما: القصاص والحياة. ومن الغرابة بجعل القتل الذي هو مفوت الحياة ظرفًا لها. ومن البلاغة حيث أتى بلفظ يسير متضمن لمعنى كثير، فإنَّ الإنسان إذا علم أنه إذا قَتل اقتُصَّ منه دعاه ذلك إلى ردعه عن قتل صاحبه، فكأنه أحيا نفسه وغيره، فيرتفع بالقصاص كثير من قتل الناس بعضهم بعضًا، فيكون القصاص حياة لهم مع ما في القصاص من زيادة الحياة الطيبة في الآخرة. وفي هذا نجد أنه أولى من كلام موجز عند العرب وهو أنَّ: (القتل أنفى للقتل)، في قلة المباني، وكثرة المعاني، وعدم تكرار اللفظ المنفر، وفي الإيماء إلى أنَّ القصاص -الذي بمعنى المماثلة- سبب للحياة دون مطلق القتل بالمقابلة، إذ ربما يكون سببًا لفتنة فيها قتل فئة وفساد جماعة. وهناك أمثلة كثيرة تدلُّ على حسن تأليفه وروعة تراكيبه، ففي العصر الذهبي للُّغة العربية حيث بلغت الذروة في الصفاء والقوة، وحيث كانت تُخلع ألقاب التشريف والتكريم علانية على الشعراء والخطباء في المسابقات السنوية، ما إنْ ظهر محكم التنزيل حتى اكتسح الحماس للشعر والنثر، وأُنزلت المعلقات السبع من باب الكعبة، واتجهت كل الأسماع إلى هذا الإعجاز الجديد في اللُّغة العربية. فلغة القرآن مادة صوتية، تبعد عن طراوة لغة أهل الحضر، وخشونة لغة أهل البادية، وتجمع ـ في تناسق حكيم ـ بين رقة الأولى وجزالة الثانية، وتحقق السحر المنشود، بفضل هذا التوفيق الموسيقي البديع بينهم[37]. إنها ترتيب في مقاطع الكلمات في نظام أكثر تماسكًا من النثر، وأقل نظمًا من الشعر، يتنوع في خلال الآية الواحدة ليجذب نشاط سامعه، ويتجانس في آخر الآيات سجعًا، لكي لا يختل الجرس العام للوقفات في كل سورة[38]. أما كلماته فمنتقاة من بين الكلمات المشهورة، دون أنْ تهبط إلى الدارج، ومختارة من بين الكلمات السامية، التي لا توصف بالغريب إلاَّ نادرًا. وتمتاز بالإيجاز العجيب في الكلام، إذ تُعَبِّر بأقل عدد من الكلمات عن أفكار كبيرة يصعب التعبير عنها في العادة إلاَّ بجمل مطوَّلة نسبيًا. ــــــــ [1] سيد قطب: في ظلال القرآن، 1/48. وانظر: مجلة المنهل، عدد خاص، القرآن الكريم الهدى والإعجاز، عدد 491، عام 1412هـ ـ 1991م، بحث الإعجاز البياني في القرآن الكريم، ص 123. [2] شرح الجلال على العقائد العضدية، 2/276. [3] بحوث في الثقافة الإسلامية، تأليف عدد من أساتذة جامعة قطر، ص 275. [4] انظر: المصباح المنير، ص 149. [5] هو: علي بن محمد بن علي، المعروف بالشريف الجرجاني، فيلسوف من كبار العلماء بالعربية، ولد في تاكوا قرب استرياد، ودرس في شيراز وأقام بها إلى أنْ توفي، له نحو خمسين مصنفًا. انظر ترجمته في: الفوائد البهية، 125، ومفتاح السعادة، 1/167، وبروكلمن في دائرة المعارف الإسلامية، 6/333، والضوء اللامع، 5/328، ومعجم المطبوعات، 678، وآداب اللًّغة، 3/235، والأعلام للزركلي، 5/159-190. [6] د. صلاح عبد الفتاح الخالدي: البيان في إعجاز القرآن، ص 23-31. [7] الرافعي: إعجاز القرآن، ص 139. [8] كمال الدين عبد الواحد بن عبد الكريم: البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن. [9] انظر: د. إسماعيل أحمد الطحان: دراسات حول القرآن الكريم، ص 92. [10] قال سيد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ: "وإذا تجاوزنا عن النفر القليل الذين كانت شخصية محمد -صلى الله عليه وسلم- وحدها هي داعيتهم إلى الإيمان في أول الأمر، كزوجه خديجة، وصديقه أبي بكر، وابن عمه علي، ومولاه زيد، وأمثالهم، فإنَّا نجد القرآن كان العامل الحاسم، أو أحد العوامل الحاسمة في إيمان من آمنوا أوائل الدعوة، يوم لم يكن لمحمد -صلى الله عليه وسلم- حَول ولا طَول، ويوم لم يكن للإسلام قوة ولا منعة، وقصة إيمان عمر بن الخطاب، وتولي الوليد بن المغيرة نموذجان من قصص كثيرة للإيمان والتولي، وكلتاهما تكشف عن هذا السحر القرآني الذي أخذ العرب منذ اللحظة الأولى، وتبينان في اتجاهين مختلفين عن مدى هذا السحر القرآني الذي يستوي في الإقرار به المؤمنون والكافرون". انظر: التصوير الفني في القرآن، ص 11. [11] السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، 2/326. وانظر: تفسير الطبري، 29/98، وتفسير ابن كثير، 8/267. [12] انظر: ص (18) من البحث، والآيات التي ورد التحدي بها هي الآية رقم (13) من سورة هود، والآية (38) من سورة يونس، والآية (23) من سورة البقرة. [13] انظر: تفسير التحرير والتنوير، لابن عاشور، 1/103. [14] هو: عياض بن موسى بن عياض بن عمرو اليحصبي السبتي أبو الفضل، عالم المغرب وإمام أهل الحديث في وقته، كان من أعلم الناس بكلام العرب وأنسابهم وأيامهم، له عدة تصانيف منها: "الشفا بتعريف حقوق المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ". انظر ترجمته في: أزهار الرياض = = في أخبار القاضي عياض، وفيات الأعيان، 1/392، وقضاة الأندلس، 101، وقلائد العقبات، 222، والفهرس التمهيدي، 368، وبغية المتلمس، 425. [15] ابن حزم: الفِصَل في المِلَل والأهواء والنِّحَل، 3/7، و2/184. [16] هو: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء الليثي، أبو عثمان الشهير بالجاحظ، ورئيس الفرقة الجاحظية من المعتزلة، مولده ووفاته في البصرة، له تصانيف كثيرة منها: "الحيوان"، و"البيان والتبيين"، و"سحر البيان" وغيرها. انظر ترجمته في: إرشاد الأريب، 6/80، والوفيات، 1/388، وأمراء البيان، 311، ولسان الميزان، 4/355، وتاريخ بغداد 12/212. [17] انظر: الإتقان للسيوطي، 2/326 وما بعدها. [18] علم الكلام هو: علم التوحيد، والكلام في أصل اللُّغة: الأصوات المفيدة، وعند المتكلِّمين: "المعنى القائم بالنفس الذي يعبر عنه بألفاظ يقال: في نفس الكلام"، وفي اصطلاح النُّحاة: "الجملة المركبة المفيدة، نحو: جاء الشتاء، أو شبهها مما يكتفي بنفسه، نحو يا علي". انظر: المصباح المنير، 206، والمعجم الوسيط، 2/796، وشرح الأصول الخمسة لعبد الجبار، 6. [19] الزنديق: المشهور على ألسنة الناس أنَّ الزنديق هو الذي لا يتمسك بشريعة، ويقول بدوام الدهر، والعرب تُعبِّر عن هذا بقولهم: ملحد أي طاعن في الأديان، وفي "التهذيب": وزندقة الزنديق أنه لا يؤمن بالآخرة ولا بوحدانية الخالق. انظر: المصباح المنير، 98. [20] انظر: بحث الإعجاز القرآني نظرة تاريخية، د. مصطفى رجب، مجلة المنهل، العدد 491، أكتوبر 91، ص 38. [21] انظر: الكشاف للزمخشري، 4/295. [22] المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية، تفسير سورة البقرة. [23] تفسير الفخر الرازي، 14/22. وانظر: كشف الظنون، مادة (تفسير)، 431. [24] تفسير البيضاوي، 5/204. [25] تفسير ابن كثير، تحقيق سامي محمد السلامة، 1/47. [26] انظر: د. إسماعيل أحمد الطحان: دراسات حول القرآن الكريم، ص 97. [27] إرشاد العقل السليم لأبي السعود، 5/390. [28] انظر: فتح القدير للشوكاني، مؤسسة الريان، بيروت، ط/1، 1418هـ، 1/69. ومحاسن التأويل للقاسمي، 1/72، وتفسير النسفي، 4/381. [29] انظر: روح المعاني للألوسي، 30/256. [30] راجع: مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني، 2/331. [31] انظر: 2/331-434، وراجع: مناهل العرفان لتقف على تفصيل أكثر، 1/56-84. [32] انظر: سيد قطب: التصوير الفني في القرآن، ص 11، وما بعدها، و د. محمد عبد الله دراز: النبأ العظيم، ص 80-109. [33] انظر: مناهل العرفان، 2/334. [34] وراجع: تفسير الآية في: زاد المسير للسيوطي، 4/483 وما بعدها، وتفسير ابن كثير، 4/596 وما بعدها، والطبري، 14/409، والحلية، 8/255، والإصابة، 1/118، والاستيعاب، 1/146، ومسند أحمد، 5/36. [35] الإتقان في علوم القرآن، 2/326. [36] يقول ابن قتيبة: "يريد أنَّ سافك الدم إذا أُقيد منه، ارتدع مَنْ يهم بالقتل فلم يَقتل خوفًا على نفسه أنْ يُقتل، فكان في ذلك حياة". انظر: تفسير غريب القرآن، 72. وانظر: تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة، 5، والدر المنثور للسيوطي، 1/17. [37] راجع: د. محمد عبد الله دراز: مدخل إلى القرآن الكريم، ص 115. [38] هناك استثناءات من هذه القاعدة، فقد لا ينتظم السجع إلاَّ على مراحل، ويختلف بين مجموعات الآيات في نفس السورة، انظر مثلًا، سورة الحاقة والسورة التالية المصدر : موقع طريق القرآن |
#2
|
||||
|
||||
![]()
ربنا يبارك لك يارب وشكراً جزيلاً
|
#3
|
||||
|
||||
![]()
شكرا لك >>>>>>
__________________
(اللهم أحسن خاتمتنا وتولنا برحمتك يا أرحم الراحمين ) |
العلامات المرجعية |
|
|