هل ننسى دور النظام المصري في مجزرة 'اسطول الحرية ؟!

[ابو سند]

بعد 48 ساعة من الآن ستحتضن العاصمة بيروت ما سماه اتحاد الاذاعات العربية 'فعاليات اللجنة العليا للتنسيق بين الفضائيات العربية'.
وأوضح الاتحاد الذي يتخذ من تونس مقرا له (من المفيد توضيح عنوان المقر!) في بيان وزعه الاسبوع الماضي أن اجتماعات هذه اللجنة ستبحث موضوع 'البث الفضائي العربي ومخاطر التدخل الأجنبي'.
على ما يبدو، سيتطرق المشاركون بهذه الاجتماعات، وأغلبهم من بيروقراطيي القنوات التلفزية الحكومية وبعض الخواص 'المسالمين'، تنظيم ندوة حول موضوع 'القنوات الفضائية ومشاغل الشباب العربي وتطلعاته'، وذلك لمناقشة برامج الشباب في القنوات الفضائية العربية من حيث الحجم والشكل والمضمون، ومدى تفاعل الشباب معها، إلى جانب مناقشة موضوع 'كيف نحمي الشباب العربي من الإختراق الإعلامي الأجنبي'، بحسب ما جاء في البيان المنشور على موقع الاتحاد.
سأريحكم من التفاصيل الأخرى التي حملها البيان لأنه من نوع النصوص المحنطة التي تضر بالصحة العامة وأنا لا يرضيني الإضرار بصحة القارئ الكريم، فهو رأسمالي الوحيد بعد أسرتي العزيزة. أنوه فقط الى أنه يشير الى أن اختيار العاصمة بيروت كان بطلب من قناة 'المنار' التابعة لحزب الله اللبناني. هنا أيضا أترككم تجتهدون بحثا عن السبب أو عن الذي يجمع بين 'المنار' وباقي أعضاء نادي اتحاد الاذاعات العربية، وهو هيئة تابعة للجامعة العربية، وهذه التبعية وحدها تكفي لتقريب الصورة لكم!
حاولت أن أبحث في أرشيف ذاكرتي المخرومة عن شيء مفيد قدّمه اتحاد الاذاعات العربية للإعلام العربي، فلم أجد شيئا (ربما قدم الكثير بالنسبة للبيروقراطيين الذين يتولون المسؤوليات في الإذاعات المرئية والمسموعة). اتجهت الى موقع الاتحاد على شبكة الانترنت فوجدته يشبه موقع أي مدوّن جزائري شاب في بلدة نائية، من ميزاته أن لكل خبر 'بقية'، لكنك عندما تضغط لقراءة البقية يأتيك أن: هذه الصفحة غير موجودة! حاولت أن أقرأ بعض الأخبار فلم أستطع إنهاء حتى الجزء الموجود لأي منها، فاستنتجت أنها لا تعني العاملين بالإعلام العربي إذا سمحتم لي بأن أصنف نفسي واحدا منهم.
أعدت قراءة البيان متخلصا من عامل الزمن، فإذا بي أشعر وكأنني في السبعينات عندما كانت دول عدم الانحياز تملأ الدنيا ضجيجا بالشعارات والنداءات الجوفاء، أبرزها 'من أجل نظام اقتصادي دولي جديد'، و'من أجل نظام إعلامي دولي جديد'.
لا يوجد فرق واضح بين عبارات بيان اتحاد الإذاعات العربية اليوم وشعارات دول عدم الانحياز قبل 40 سنة.

حماية المشاهد

كنت الأسبوع قبل الماضي اشارك ببرنامج 'ضفتان' الذي تعده وتقدمه الزميلة ليلى بوزيدي في قناة 'ميدي1 سات' المغربية عن الفضائيات العربية، ففاجأني أحد الضيوف المشاركين بعبارة 'الأمن الإعلامي' لحماية المشاهد العربي من مئات القنوات التي تدخل بيته.
كانت عبارة جميلة تدعو للتأمل، لكنها عادت بي سنوات الى الوراء وأطلقت العنان لخيالي الموسوس.
فهمت بسرعة أن 'الأمن الإعلامي' مطروح في النقاش هنا على صيغة الأمن الغذائي والأمن الاقتصادي والأمن النووي.. إلخ.
لكن من ماذا مطلوب حماية المشاهد العربي؟ عدّوا معي:
ـ من التلفزيونات المحلية الكسيحة وما تنشره من دجل وتدليس وثقافة الديكتاتورية والخنوع على مدار الساعة؟
ـ من 'المنار' الموصومة عند بعض العرب بالارهابية والعميلة لإيران والمحرضة على الاضطراب في لبنان والشرق الأوسط؟
ـ من 'الجزيرة' المتهمة عند فئة من العرب بأنها شعبوية وتحت هيمنة 'البولحية'؟
ـ من 'اقرأ' المتهمة عند طائفة من العرب بأنها ظلامية أصولية تفرخ الفكر الارهابي؟
ـ من روتانا (وأخواتها) المتهمة عند فئة من العرب بأنها تنشر الرذيلة والانحلال الخلقي بين الشباب؟
ـ من عشرات المحطات التي تبث من مدينتي الانتاج الإعلامي بالقاهرة ودبي وبينها من تسبب البله؟
ـ من 'العربية' (وأخواتها) المتهمة عند فئة العرب بأنها تسوّق للوجود الأمريكي والاسرائيلي بالمنطقة؟
ـ من 'الحرة' المتهمة عند فئة من العرب بأنها تبرر للاستعمار الأمريكي للعراق؟
ـ من 'العالم' المتهمة عند فئة من العرب بأنها بوق الطموحات الايرانية التوسعية على حساب العرب؟
ـ من القنوات الفرنسية (بشمال افريقيا) المتهمة عند فئة من العرب بأنها تغذي الوجود الفرنكوفوني بالمنطقة؟
ـ من الفضائيات العراقية التي هاجمت الوجود الأمريكي ببلادها واعتبرته احتلالا؟
ـ أم من الفضائيات العراقية التي تهلل لهذا الاحتلال وتعتبره تحريرا؟
من ماذا يرحم الله والديكم؟
مشكلة هذه الأمة التي اصطفاها الله مع المتخلفين والمعتوهين، أنها لم تحسم أي نقاش من نقاشاتها الكبرى، ولم تحل ولا مشكلة من مشاكلها المزمنة. بالعكس، كل شيء فيها يشجع على تراكم الهموم حتى أصبحنا مسخرة أمام العالم. كل المشاكل والقضايا مطروحة على الطاولة لكن ولا مشكلة واحدة حلت. هذه أمة كنست كل شيء تحت السجاد، رحّلت كل بلاءاتها وكوارثها الى الأجيال المقبلة. لا يوجد شيء بهذه الأمة من حوله اتفاق أو اجماع، كل شيء قابل للطعن، كل شيء فيه وجهة نظر (حتى سقوط بغداد العظيمة).. من الأكثر قدسية الى الأكثر استباحة. لولا أن العناية الإلهية عجلت بخروج الاستعمار من أقطار هذه المنطقة في الاربعينات والخمسينات لظلت كلها مستعمرة ذليلة، لأن الاستعمار اليوم مفهوم قابل للنقاش وفيه وجهة نظر.
لهذا ستجد لكل نقاش فكري أو سياسي أو ثقافي، مهما كان عنوانه، طوائف من الخصوم والأعداء والغاضبين والمحتجين.
أفهمتم الآن لماذا يمكن أن يعمّر برنامج 'الاتجاه المعاكس' نصف قرن وأكثر؟
إذا دخل أحدكم الى موقع الاتحاد على الانترنت سيلاحظ في صدر الصفحة الرئيسية خبرا عن الطبعة الخامسة لمهرجان الأغنية العربية. ربما يفيد تذكير الاتحاد بأن نصف سكان هذه الأمة قد يقولون أن الأولى حمايتهم من هذا النوع من الأخبار والمهرجانات؟ وبأن ثلاثة أرباع التلفزيونات الأعضاء فيه تبث أسبوعيا برامج افتاء تحرّم هذا النوع من المهرجانات والأغاني؟
وبعد، أين هو الخطر الأجنبي؟ وما هي نسبة مشاهدة القنوات الأجنبية عند العرب؟ وقبل ذلك، ما هو تعريف القناة الأجنبية.. أجنبية عن من؟ هل القناة الجزائرية أجنبية أم محلية عند المشاهد الكويتي؟ هل الأردنية أجنبية أم محلية عند المشاهد الليبي؟ هل المحطة البحرينية محلية أم أجنبية عند المشاهد المصري؟
إذا كان القصد القنوات الأعجمية التي تتعمد بث أفلام الجنس في وقت متأخر من الليل، فهي كلها مشفرة ومدفوعة والآباء يقومون بواجب حماية عائلاتهم ولن يحتاجوا الى نصائح بيروقراطيي الاتحاد.
أرى أن القنوات 'الأجنبية' بريئة وأن الخطر (إذا كان هناك خطر حقا) هو منا وبيننا.

حركات بهلوانية

ـ اليوم تحتفل 'سي ان ان' الأمريكية بمرور 30 عاما على إطلاقها. الى غاية منتصف التسعينات ظل صوتها مدويا واسمها على كل لسان، مرة كعنوان للنفوذ والنجاح والتفوق الإعلامي، ومرة كعنوان للتضليل والتحريف وتغليط الناس.
من كان يصدق يومذاك أن بعد ثلاثة عقود سيضيق الفضاء بهذا الكمّ الهائل من القنوات التلفزيونية من كل مكان وبكل اللغات؟ لكن السؤال الأهم هو: هل الناس راضون عمّا يقدّم لهم من منتوج تلفزيوني إخباري بالخصوص؟
شخصيا لا، لأنني أضطر الى القيام بحركات بهلوانية كلما احتجت الى فهم خبر كما أريد لا كما يراد لي أن أفهمه.
فلكي أعرف أخبارا عن السعودية يجب أن أشاهد قناة 'العالم'، ولكي أعرف أخبار إيران عليّ أن أشاهد 'العربية'، ولكي أبحث عن أخبار قطر عليّ أن اتفادى 'الجزيرة'، ولكي أعرف أخبار حدث بالجزائر يجب أن اشاهد القنوات الفرنسية، ولكي أعرف أخبار تونس يجب أن أشاهد 'الجزيرة'.. وهكذا.

الاتفاق على عدم قول السبب

ـ ارتكبت اسرائيل مجزرة بحق قافلة خرق حصار غزة. ليس لدي ما أقول أكثر مما قيل، لكنني لاحظت وكأن الذين تعاقبوا على الفضائيات كمراسلين ومحللين وخبراء (وبينهم الدكتور عزمي بشارة) اتفقوا على عدم قول شيء مهم: لو أن ذلك النظام الحاكم في 'أم الدنيا' فتح المعابر الى غزة يوما بيوم، يعني يوم نعم يوم لا، ما كانت تلك المذبحة الشنيعة لتقع.
كان في أفواههم جميعا ماء فبذلوا جهدا لغويا كبيرا لتفادي ذكر 'أم الدنيا' بالاسم. لهذه الدرجة أصبح هو الآخر مقدسا. مبروك!
كاتب من أسرة 'القدس العربي'
toufik*alquds.co.uk