اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > مسك الكلام فى الاسلام > حي على الفلاح

حي على الفلاح موضوعات وحوارات ومقالات إسلامية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 04-12-2010, 10:16 PM
مستر ايمن محمد راشد مستر ايمن محمد راشد غير متواجد حالياً
عضو قدوة
 
تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 1,534
معدل تقييم المستوى: 17
مستر ايمن محمد راشد is on a distinguished road
افتراضي الهجرة النبوية

مقــــــــدمـــــــــــــــــــــــة
لم تكن الهجرة أمرًا سهلًاميسورًا، ولم تكن كذلك ترك بلد ما إلى بلد آخر ظروفه أفضل، وأمواله أكثر، ليست عقدعمل بأجر أعلى، الهجرة كانت تعني ترك الديار، وترك الأموال، وترك الأعمال، وتركالذكريات، الهجرة كانت ذهابًا للمجهول، لحياة جديدة، لا شك أنها ستكون شاقة، وشاقةجدًا، الهجرة كانت تعني الاستعداد لحرب هائلة، حرب شاملة، ضد كل المشركين في جزيرةالعرب، بل ضد كل العالمين، الحرب التي صورها الصحابي الجليل العباس بن عبادةالأنصاري على أنها الاستعدادُ لحرب الأحمر والأسود منالناس.
هذه هي الهجرة، ليست هروبًا ولافرارًا، بل كانت استعدادًا ليوم عظيم، أو لأيام عظيمة؛ لذلك عظّمَ الله من أجرالمهاجرين:
الَّذِينَهَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُرِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(58)لَيُدْخِلَنَّهُمْمُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيم}[لحج:58، 59]لذلك كانتهجرة الرسول الكريم بعد أن نجحت بيعة العقبة الثانية، وأصبح الأنصار يمثلون عددًالا بأس به في المدينة المنورة، وَقبِلوا أن يستقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم،وأن يحموه مما يحمون منه نساءهم و أبناءهم وأموالهم، وجاء الوحي إلى رسول الله صلىالله عليه وسلم يأذن له بفتح باب الهجرة لأصحابه إلى المدينة المنورة، كل من يستطيعأن يهاجر فليهاجر، بل يجب أن يهاجر...

الضعفاء والأقوياء...

الفقراء والأغنياء...

الرجال والنساء...

الأحرار والعبيد...

الكل يهاجر إلى المدينة...هناك مشروعضخم سيُبْنى على أرض المدينة، مشروع يحتاج إلى كل طاقات المسلمين، هناك مشروع إقامةأمة إسلامية، لا يُسمح لمسلم بالقعود عن المشاركة في بناء هذا الصرح العظيم،فلامكان للكسل، أو الكلام فقط بل العمل والعمل الجاد، انظر إلى الآيات تتحدث عنالهجرة:
إِنَّ الَّذِينَتَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُواكُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةًفَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْمَصِيرًا(97)إِلَّا المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِلَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا(98)فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا(99)وَمَنْ يُهَاجِرْ فِيسَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْمِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُفَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:97،100] .صدر الأمر النبوي لجميع المسلمينالقادرين علي الهجرة أن يهاجروا، لكن لم يبدأ هو صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلابعد أن هاجر الجميع إلي المدينة، لم يكن من همِّه صلي الله عليه وسلم أن ينجوبنفسه، وأن يُؤَمِّنَ حاله، بل كان كل همه صلى الله عليه وسلم أن يطمئن على حالالمسلمين المهاجرين، كان صلى الله عليه وسلم يتصرف كالرُّبَّان الذي لا يخرج منسفينته إلا بعد اطمئنانه على أن كل الركاب في أمان؛ فالقيادة ليست نوعًا من الترفأو الرفاهية، القيادة مسئولية،وتضحية، وأمانة.وفتح رسولالله صلى الله عليه وسلم باب الهجرة على مصراعيه أمام كل راغب فيه؛ فعن عبد الله بنعمرو رضي الله عنهما، قال صلى الله عليه وسلم: "المسلم من سلم المسلمون من لسانهويده، والمهاجر من هجرَ ما نهى الله عنه". [البخاري:كتاب الإيمان باب المسلم من سلمالمسلمون من لسانه ويده/9]، وفي رواية ابن حبان: "المهاجرُ من هجر السيئات،والمسلمُ من سلمَ المسلمون من لسانه ويده".[ابن حبان/196]أما ما رواه ابن عباس رضي اللهعنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهادونية"[البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير/2575]، وزاد مسلم فيروايته"وإذا استنفرتم فانفروا"، فالمراد بلا هجرة بعد الفتح أي لا هجرة واجبة بعدالفتح، وإذا كانت الهجرة المادية تجب في بعض الأحوال، فإن الهجرة المعنوية واجبةعلى كل حال وفي كل حين، لأنها تتعلق بهجر ما لا يرضي الله تعالى، وهي قائمة إلى أنتقوم الساعة. ورد في صحيح مسلم أن مجاشع بن مسعود السلمي قال: جئتُ بأخي أبي معبدإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح، فقلت: يا رسول الله بايعه على الهجرة. فقال صلى الله عليه وسلم: "قد مضت الهجرةُ بأهلها" قال مجاشع: فبأي شيء تبايعه؟فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على الإسلام والجهاد والخير"[مسلم/3466]، وعنأبي هند البجلي قال، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة،ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها".[أحمد/16301 ]والمسلم مكلف بأن يهجر كل ما حرمالله، وأن يهاجر إلى ما أحل الله، لأن هذا هو الهدف من استخلافه في الأرض لقولهتعالى: {وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]، وهل العبادة إلا طاعةالله فيما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر؟
والعبادة قد تصلبالإنسان إلى أجر الهجرة، بخاصة إذا كانت العبادة في وقت غفل العباد عن طاعة الله،عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِوَسَلَّمَ قَالَ: " الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ "[مسلم كتابالفتن وأشراط الساعة، باب فضل العبادة في الهرج/5242]والمعنى الذي حدده المصطفى صلىالله عليه وسلم للهجرة معنى عام، تمتد جذوره إلى أعماق الحياة البشرية، فتقيمها علىأسس قويمة، أسس تقوم على أساس الإصلاح والصلاح للحياة الإنسانية، والأمن والاستقرارللنفس البشرية، ولهذا كانت كلمات الحديث الشريف متكاملة في تحديد معنى الهجرة علىأساس أنها عبادة ترتبط بعقيدة الإنسان وإيمانه، وعلى أساس أنها عملية بناء وإصلاحتأخذ بيد الإنسانية إلى شاطئ الأمان والاطمئنان. فهجر ما نهى الله عنه يعني هجرالسيئات والمعاصي والمفاسد القولية والفعلية، والتي هي الأساس في فساد البلادوالعباد، ولهذا أكد الحديث على (كف اللسان واليد) إذ أنهما الأعضاء التي تصدر عنهاالمفاسد القولية والفعلية، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: "منكان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" [البخاري: كتاب الأدب باب إكرامالضيف وخدمته إياه بنفسه/5671
طبيعة الهجرة وطبيعةالمهاجرين:

كانت فتنةالمسلمين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مكة فتنة الإيذاء و التعذيب، فلماأذن لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة؛ أصبحت فتنتهم في ترك وطنهم وأموالهمودورهم وأمتعتهم، ولقد كانوا أوفياء لدينهم مخلصين لربهم، أمام الفتنة الأولى والثانية، قابلوا المحن والشدائد بصبر ثابت وعزم عنيد .
وعندما أصدر الرسول صلى الله عليه وسلم أمره إلى المؤمنينبمكة أن يهاجروا جميعًا إلى المدينة المنورة، فخرج المسلمون أفرادًا وجماعات إلىهناك، وبدأت المدينة المنورة تستقبل المهاجرين الذين فروا بدينهم من مكة، وتوجهواإلى المدينة، وقد تركوا من ورائهم الوطن وما لهم فيه من مال ومتاع، فتركوا الأمتعةو الأثقال في مكة ليسلم لهم الدين، واستعاضوا عنها بالأخوة الذين ينتظرونهم فيالمدينة ليؤوهم وينصرونهم.
وهذاهو المثل الصحيح للمسلم الذي أخلص الدين لله: لا يبالى بالوطن ولا بالمال في سبيلأن يسلم له دينه. يقول الله عز وجل : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُواوَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواوَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْيُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْاسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْوَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. [الأنفال: 72]
ثم إنه يستنبط منمشروعية هذه الهجرة حكمان شرعيان:
(1) وجوب الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، ومثل دار الحرب فيذلك كل مكان لا يتسنى للمسلم فيه إقامة الشعائر الإسلامية من صلاة وصيام وجماعةوأذان، وغير ذلك من أحكامه الظاهرة.
وما يستدل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُالمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّامُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةًفَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْمَصِيرًا(97)إِلَّا المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِلَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا(98) } [النساء:97،98]
(2) وجوب نصرة المسلمين لبعضهم مهما اختلفت ديارهم وبلادهم ما دامذلك ممكناً، فقد اتفق العلماء والأئمة على أن المسلمين إذا قدروا على إنقاذالمستضعفين أو المأسورين أو المظلومين من إخوانهم المسلمين في أي جهة من جهاتالأرض، ثم لم يفعلوا ذلك فهم آثمون.
وقصص المهاجرين كثيرة وعظيمة ولكن نقف على أربع قصص فقط تكشف لنا عنطبيعة الهجرة وعن طبيعة المهاجرين:
القصة الأولى :
قصة هجرة آل سلمة رضيالله عنهم أجمعين:
كان أبو سلمة بنعبد الأسد رضي الله عنه من أوائل من هاجر كما كان رضي الله عنه من أوائل من أسلم،وكان هو وزوجته أم سلمة من قبيلة واحدة هي قبيلة بني مخزوم، ومع الشرف والمكانةوالوضع الاجتماعي إلا أنهم تركوا كل ذلك، وانطلقوا إلى المدينة المنورة، ولكن بعدأن خرج الرجل وزوجته وابنهما سلمة لحقت بهم عائلة أم سلمة وقالوا لأبي سلمة: هذهنفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه؟ علام نتُركُك تسير بها في البلاد؟ فغلبوهعلى زوجته فأخذوها، وبالطبع ترك معها ابنهما سلمة ثم انطلق هو وحيدا رضي الله عنهإلى المدينة المنورة؛ امتثالًا لأمر الهجرة إلى هناك، أما السيدة أم سلمة رضي اللهعنها فبعد أن هاجر زوجها جاء إليها أقارب زوجها، ومع أنهم من نفس القبيلة- قبيلةبني مخزوم- إلا أنهم قالوا : لا نترك ابننا معها إذ نزعتموها من صاحبنا، وجاء أقاربأم سلمة يدافعون عن الغلام الصغير، فأخذ الفريقان يتجاذبان الغلام حتى أصابوه بخلعفي يده، ثم أخذه في النهاية أقارب أبي سلمة، وتركوا السيدة أم سلمة رضي الله عنهاوحيدة في مكة، لقد هاجر زوجها إلى المدينة، وأُخذ ابنها الوحيد منها وبقيت بمفردهاتحمل في قلبها كل هذه الآلام، فكانت رضي الله عنها تخرج كل يوم إلى الأبطح - حيثالمكان الذي شهد مأساة التفريق بينها و بين زوجها وابنها- وتظل تبكي من الصباح إلىالمساء، ثم تعود إلى بيتها آخر الليل، وظلت تفعل ذلك كل يوم، كم بقيت على هذهالحالة الأليمة؟!لقد ظلتسنة كاملة أو قريبًا من سنة...
آلام رهيبة تحملتها السيدة العظيمة أم سلمة، وآلام رهيبة تحملها زوجهاالجليل أبو سلمة وهو في ديار الغربة وحيدًا، وآلام رهيبة تحملها الطفل الصغير سلمةوهو معزول عن والديه، لا لشيء إلا لأنهما آمنا بالله رب العالمين، لكن هذا هوالطريق الطبيعي للجنة، وهذه هي الأثمان التي تشترى بها هذه الجنة، "أَلَا إِنَّسِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِالْجَنَّةُ".وبعد عامرقَّ قلبُ رجل من بني عم أم سلمة لحالها، فذهب إلى أهلها وقال لهم : ألا تطلقون هذهالمسكينة، فرقتم بينها وبين زوجها وولدها. ومازال بهم حتى قبلوا، ثم ذهبت إلى أهلزوجها، فلما علموا أنها ستذهب إلى زوجها أعطوها الغلام، ورأت ابنها واحتضنته بشدهبعد عام من الفراق، ثم ما استطاعت صبرًا على فراق زوجها، فما انتظرت أن يتوفر لهاصحبه آمنة إلى المدينة، ولكنها أخذت ابنها سلمة، وانطلقت به بمفردها إلى المدينة،والمسافة تقترب من خمسمائة كـم، ولكنها قررت أن تقطع كل هذه الصحراء في سبيل الله،وخرجت السيدة الكريمة أم سلمة مع ابنها تسرع في خطواتها إلى دار الهجرة، ولكن اللهعز وجل الرحيم بعبادة سخر لها من يأخذ بها في صحبة آمنة من مكة إلى المدينة، سخرلها جنديًا من جنوده، وما يعلم جنود ربك إلا هو، لقد سخر لها رجلًا مشركًا، سبحانالله، رآها عثمان بن طلحة- وكان ما زال على شركه - وهى بالتنعيم على مسافة حواليخمسة كيلو متر من مكة، فقال لها : إلى أين؟ فقالت: أريد زوجي في المدينة، قال: أوَمعك أحد؟ قالت: لا والله، إلا الله ثم ابني هذا، فتحركت النخوة في قلب الرجلالمشرك، وأظهر مروءة عالية وقال لها: والله لا أتركك أبدًا حتى تبلغي المدينة، ثمأخذ بخطام ناقتها وانطلق يسحبها إلى المدينة وهو يسير علىقدميه.
خمسمائة كيلو متر وعثمان بنطلحة يسير على قدميه ليصل بامرأة وحيدة من مكة إلى المدينة، وهو لا يرتبط معها بصلةقرابة، وهى وزوجها على دين يكرهه ويحاربه، لكنها النخوة والمروءة، ولما وصلوا إلىقباء قال عثمان لأم سلمة: زوجك في هذه القرية، فادخليها على بركة الله. فدخلتالسيدة أم سلمة إلى المدينة، وعاد عثمان بن طلحة إلى مكة ماشيًا دون أن ينتظر كلمةشكر أو ثناء من زوج السيدة أم سلمة أو أحد المسلمين.
والحمد لله أن الله عز وجل قد منّ عليه بالإسلام في العامالسابع من الهجرة، وإلا كنا قد حزنَّا حزنًا كبيرًا على بقاء مثل هذه الأخلاقالرفيعة في معسكر الكافرين.
القصة الثانية:
هجرة صهيب بن سنان الروميرضي الله عنه:
لم يكن صهيب رضيالله عنه منأهل مكة، ولم تكن له قبيلة تمنعه، وكان يعمل بصناعة السيوف، وكانت هذهالصناعة تدر عليه مالًا وفيرًا، ثم جاء القرار بالهجرة، فقرر صهيب رضي الله عنه أنيترك تجارته، ويتجه إلى المدينة ليبدأ حياة جديدة هناك، وعند خروجه وقف له زعماءالكفر بمكة، فقالوا له: أتيتنا صعلوكًا حقيرًا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت،ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك، هنا يفكر صهيب رضي الله عنه، يقولفي نفسه: ما قيمة المال ولو كان مال الدنيا، إن أنا خالفت أمر رسول الله صلى اللهعليه وسلم، وإن أنا تخلفت عن صحبة المؤمنين، وإن أنا تركت العمل لله عز وجل؟! وجدصهيب رضي الله عنه أن الثمن الذي سيدفعه زهيد للغاية بالقياس إلى ما سيحصله، لم يكناختبارًا صعبًا على نفس صهيب، لقد قرر أن يشتري الجنة منذ زمن، وكلما مر عليه الوقتازداد إصرارًا على قراره، قال لهم صهيب في بساطة: أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلونسبيلي؟
قالوا وقد سال لعابهم لثروةصهيب الطائلة: نعم
قال صهيب: فإنيقد جعلت لكم مالي، وأعطاهم كل ما يملك، وهاجر إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم،وبلغ الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في يقين: "رَبِحَ صُهَيْبٌ،رَبِحَ صُهَيْبٌ".
ولما رأى رسولالله صلى الله عليه وسلم صهيبًا قال مبشرًا له ومهنئًا: "رَبِحَ الْبَيْعَ أَبَايَحْيَى، رَبِحَ الْبَيْعَ أَبَا يَحْيَى". وفيه وفى أمثاله نزل قول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُرَءُوفٌ بِالعِبَادِ} [البقرة:207].
القصة الثالثة:
قصة هجرة عمر بن الخطابرضي الله عنه:
وهى قصة مختلفة جدًاعن هجرة بقية الصحابة، فبينما كان الصحابة عمومًا يهاجرون سرًا هاجر عمر بن الخطابرضي الله عنه جهرًا، لقد وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجد الحرام وقالبصوت مرتفع: "يا معشر قريش، من أراد أن تثكله أمه، أو يُوتمَّ ولدُه، أو تُرَمَّلزوجته فليلقني وراء هذا الوادي".
يقول هذا الكلام وهو متقلد سيفه، وفي يده الأخرى عدة أسهم، فلم يخرجخلفه أحد، وهكذا هاجر عمر بن الخطاب رضي الله عنه علانية...
لماذا هاجر عمر بن الخطاب رضي الله عنه جهرًا بينما هاجرالرسول صلى الله عليه وسلم نفسه سرًا كما سنرى بعد ذلك؟
الواقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرع، وسوف يتبعهفي طريقته عموم المسلمين سواء في زمان مكة أو في الأزمان التي ستلي ذلك إلى يومالقيامة، وعموم المسلمين لا يطيقون ما فعله عمر رضي الله عنه، وليس مطلوبًا منهمذلك، إنما المطلوب هو الحذر والاحتياط والأخذ بالأسباب الكاملة لضمان سلامة الهجرة،فعملية الهجرة في حد ذاتها ليست هدفًا، إنما الهدف هو الوصول إلى المدينة لإقامةالدولة هناك، فيجب الأخذ بكل الأسباب لتجنب كل المعوقات لإقامة هذه الدولة، ولو خرجرسول الله صلى الله عليه وسلم علانية لأصبح لزامًا على كل المسلمين أن يخرجواعلانية، وهذا ليس من الحكمة.
ومعذلك فهجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه على هذه الصورة لم تكن مخالفة شرعية، لأنالرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه هذه الطريقة في الهجرة، وكانت هذه الطريقةوسيلة من وسائل إرهاب أهل الباطل، وقام بها الذي يملك من البأس والقدرة ما يرهب بهأعداء الله، وإرهاب أعداء الله أمر مطلوب شرعًا، ونتائجه عظيمة على الدعوة، وأمرناالله عز وجل به في كتابه فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍوَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَمِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60] .
وقد وقعت الرهبة فعلًا في قلوبالكافرين، فلم يخرج خلفَ عمر أحدٌ، بل أكثر من ذلك لقد هاجر مع عمر رضي الله عنهعشرون من ضعفاء الصحابة، وما استطاع أحد من المشركين أن يقترب منهم، وصدق عبد اللهبن مسعود رضي الله عنه إذ يقول:
إنإسلام عمر كان فتحًا، وإن هجرته كانت نصرًا، وإن إمارته كانترحمة.
القصة الرابعة:
هجرة عياش بن أبي ربيعةرضي الله عنه:وكان عياش بن أبيربيعة ممن هاجر مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعياش بن أبي ربيعة هو أخو أبي جهلمن أمه، وبعد أن وصل عياش إلى المدينة علم أبو جهل بهجرته، فماذا فعل أبوجهل؟
لقد أخذ أخاهم الثالث الحارثبن هشام وانطلق إلى المدينة المنورة، سفر بعيد ( خمسمائة كيلو متر ) وعملية خطرة،ومجازفة كبيرة، وبذل ومجهود وعرق ووقت {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْيَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء:104].
وصل أبو جهل إلىقباء والتقى بأخيه عياش بن أبي ربيعة في وجود عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال أبوجهل: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط، ولا تستظل بشمس حتى تراك، فرقَّ لهاعياش، وكان بارًا جدًا بأمه.
فقالله عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا عياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عندينك، فاحذرهم، فوالله لو آذى أمك القمل لامتشطت، ولو اشتد عليها حر مكة لاستظلت،فقال عياش ( وقد خُدِع بكلام أخويه ): أبر أمي، ولي مال هناكآخذه.
فقال عمر: خذ نصف مالي ولاتذهب معهما.
ولكن أبى عياش إلا أنيعود ليبر قسم أمه.
فقال له عمر: أما إذا قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإنرابك من القوم ريب فانج عليها.
وخرج عياش وأخواه أبو جهل والحارث بن هشام إلى مكة، حتى إذا ابتعدوا عنالمدينة دبر الأخوان الكافران خدعة وأمسكا بعياش وقيداه بالحبال، ودخلوا به مكةموثقًا، ثم قالا لأهل مكة: يا أهل مكة هكذا فافعلوا بسفهائكم، كما فعلنا بسفيهناهذا.
وحُبِس عياش بن أبي ربيعةفترة من الزمان، ولم ينج إلا بعد أن أرسل له رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدالصحابة وهو الوليد بن الوليد لإنقاذه في مغامرة رائعة.
كانت هذه بعض النماذج لهجرة بعض الصحابة من مكة إلىالمدينة، وواضح أن الأمر لم يكن بسيطًا، بل كانت الهجرة تعني البذل والعطاء والتعبوالنصب، كان في الهجرة خطورة كبيرة على معظم المهاجرين، وفوق ذلك فهم يهاجرون إلىالمجهول، فكل الصحابة لم يذهبوا قبل ذلك إلى المدينة المنورة، ولا يعرفون أهلها ولاطباعهم، ولم يلتقوا باليهود من قبل- وهم يتواجدون بأعداد كبيرة في المدينة- غير أنالمسلمين يعلمون عنهم أنهم قوم سوء وأهل مخالفة لأنبياء الله ورسله، كما أنهم أهلحرب وقتال وقوتهم الاقتصادية لا يستهان بها.
كل هذا كان يصعب من الهجرة، ولكنها كانت خطوة لا بد منها ـ على خطورتهاـ لبناء الأمة الإسلامية، وهكذا هاجر المسلمون في مكة، وقد هاجر معظم المسلمينالذين استطاعوا الهجرة في شهري المحرم وصفر من السنة الرابعة عشر من النبوة أي بعدبيعة العقبة الثانية بشهر واحد أو أقل، ولم يبق في مكة إلا ثلاثة فقط؛ رسول اللهصلى الله عليه وسلم، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وعائلته، وعلي بن أبي طالب رضيالله عنه، وكان بقاء أبي بكر وعلي رضي الله عنهما بأمر من رسول الله صلى الله عليهوسلم.
هجرة الرسول ووضع الخطة
القلق يغزو قريشا
أما قريش فإنها كانت ترقب الموقف على وجل، فإنها تفاجئ كل يوم بهجرة رجلأو رجلين أو عائلة، بل إن بعض الفروع من القبائل قد هاجرت بكاملها، وخلت كثير منديار مكة من سكانها، وقد أثر ذلك في قريش وزعمائها ،فما منهم من أحد إلا وله قريبأو ابن مهاجر مما مزقهم بين الحب الفطري لأبنائهم وأقاربهم وبين كراهيتهم وتغيظهمعلى هذا الدين الذي تسبب في هذا الفراق - من وجهة نظرهم، وإلا فإن جهلهم وعنادهم هوالسبب في كل ما يحدث - كما أن انتشار الإسلام في الجزيرة سيسلب قريشا زعامتها التيتكتسبها من رعايتها للكعبة؛ لأن الإسلام أيضا يدعو لتعظيم البيت الحرام، كما سيقضيعلى تجارة بيع الأصنام والخمور وعلى الرباوالبغاء.
ولم يكن يخفىعلى قريش أن الهجرة تمت إلى المدينة المنورة، بدليل ذهاب أبي جهل لإرجاع أخيه عياشبن أبي ربيعة من هناك، ولم تكن هجرة المؤمنين راحةً لأهل مكة المشركين، أبدًا، كانالمشركون يدركون أن المسلمين يهاجرون لبناء أمة مسلمة في المدينة المنورة، ولو تمَّذلك فلا شك أنهم سيعودون إلى مكة، لا لمجرد السكن فيها، ولكن لحكمها، ووقت يحكمونهافلن يقبلوا أن يظل العرب وغيرهم يتحاكمون إلى( هُبَل) وسدنته، بل سيُحكِّمون ربالعالمين كما علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم طوال ثلاثة عشر عاما قضاها في مكةلهذا الغرض؛ ولذلك كان المشركون في أشد حالات اضطرابهم وقلقهم، أضف إلى ذلك علم أهلقريش ببأس الأوس والخزرج، وأنهم من أهل القتال وأن المدينة حصينة جدًا، وأن المدينةتقع على طريق القوافل التجارية لأهل قريش والمتجهة من وإلى الشام، ومن ثمَ فإنالمدينة تستطيع أن تخنق مكة اقتصاديًا، وكانت مكة تتاجر بربع مليون دينار من الذهبسنويًا مع الشام في رحلة الشتاء، وفوق كل ذلك فالطامَّة الكبرى لو آمنَ اليهود،وانضمت قوتهم إلى قوة المسلمين، وقد كان اليهود ذوي قوة كبيرة عسكريا وماديا،والعقل كان يرجح إسلام اليهود؛ لأنهم أهل كتاب ويؤمنون بالأنبياء، غير أن اليهود لاعقل لهم.
كل هذهالأمور جعلت أهل قريش في حيرة من أمرهم، وقد علموا أنه كلما مرَّ الوقت اقتربت ساعةالصفر التي سيغزو فيها المؤمنون مكة، لكن زعماء قريش كانوا يدركون أيضًا أن ساعةالصفر هذه لن تكون إلا بعد أن يهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينةالمنورة، ويوحد صفوفه، ويجهز جيوشه، ثم يأتي من جديد إلى مكة، إذن فحجر الزاوية فيالموضوع هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوسيلة الوحيدة لوقف خطر المؤمنينالداهم هو السيطرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كيف؟ ورسول الله صلىالله عليه وسلم من بني هاشم القبيلة العزيزةالشريفة؟!
مجلس شورى قريش يقرر اغتيال النبي صلى الله عليهوسلم

احتار القرشيون المشركون،فقرروا عقد اجتماع عاجل لكبار الزعماء في مكة لتدارس هذا الأمر، وذلك في دارالندوة، المقر الرئيس لاجتماعات قريش.
وفي صباح يوم الخميس 26 صفر من السنة الرابعة عشر للبعثة تم عقد أخطراجتماع في تاريخ دار الندوة، و كان اجتماعًا طارئًا حضره ممثلون عن كل القبائلالقرشية عدا بني هاشم، وكانت أبرز الأسماء في هذا الاجتماعالخطير:
-
أبو جهل بنهشام عن قبيلة بني مخزوم.شيبة و عتبة أبناء ربيعة وأبو سفيان بن حرب عن بني عبدشمس. النضر بن الحارث عن بنيعبد الدار. أبو البختري بنهشام عن بني أسد. أمية بنخلف عن بني جمح. جبير بنمطعم عن بني نوفل. نبيهومنبه ابنا الحجاج عن بني سهم.
وغيرهم، والجميع كانوا من قريش؛ لأنه لم يكن مسموحًا لأحد من غير قريشأن يدخل دار الندوة، ولم أجد دليلًا صحيحًا يؤكد القصة التي جاء فيها أن إبليس قدحضر معهم الاجتماع في صورة الشيخ النجدي، وإن كان- في رأيي- أنه أحيانًا تسبقشياطين الإنس بأفعالها شياطين الجن، ألم تروا أن الله عز وجل قد قدم ذكر شياطينالإنس في عداوتهم للأنبياء على شياطين الجن فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَالِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىبَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْوَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112].
تم الاجتماع الآثم، وبدأت الأفكار الإجرامية تخرج من زعماءقريش، وتطرح للمداولة، منهم من اقترح أن يقيدوه في بيته بالحبال، فلا يستطيع هجرةولا حراكًا، ومنهم من اقترح نفيه خارج مكة إلى مكان بعيد، وكانت هذه الأفكارالإجرامية تخرج من الطائفة التي يسمونها بالمعتدلين من زعماء قريش، لكن كانت هناكطائفة أشد إجرامًا وهي ما يسمونها بالطائفة المتشددة، قال رجل من هذه الطائفة- لعلهأبو جهل- لا بد من قتل هذا الرجل، يقصدون محمدًا صلى الله عليه وسلم، ووافقت هذهالفكرة هوى عند المعظم، فقلوبهم السوداء كانت تحترق غيظًا وحسدًا على رسول الله صلىالله عليه وسلم، لكن لم يكن عندهم الشجاعة للنطق بمثل هذا الرأي، وفوق ذلك فهميخشون من بني هاشم، غير أن أبا جهل خرج عليهم بفكرة شيطانية، وهي أن يختاروا من كلقبيلة في مكة شابًا قويًا، فيحاصرون بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يضربونهضربة رجل واحد، فيتفرق دمه بين القبائل، ولا تجد بنو هاشم أمامها حلًا إلا قبولالدية في قتيلها؛ فليست لهم طاقة بحرب كلالقبائل.صوَّتالحاضرون على القرار، وسألهم أبو جهل: موافقون؟ قالوا: موافقون.وخرج زعماء قريشينتقون من قبائلهم العناصر التي ستقوم بتنفيذ العملية الإرهابية لاغتيال رسول اللهصلى الله عليه وسلم، ذكر الله عز وجل ذلك في كتابه الكريم فقال: {وَإِذْ يَمْكُرُبِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَوَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
هجرة الرسولووضع الخطة

نزل جبريل عليه السلام فورًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرهبأمر الجريمة التي تدبر له، وقال له: لا تبت في فراشك الليلة، وأمره بالهجرة، فسألرسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل: من يهاجر معي؟ قال: أبو بكر الصديق. وذلك كماجاء في مستدرك الحاكم بسند صحيح.
علم الرسول صلى الله عليه وسلم بخطة قريش، وعلم أن موعد التنفيذ سيكونفي فجر اليوم الثاني، ولذلك لا بد من الإسراع في أخذ الخطوات اللازمةللهجرة.
تعالوا نَعِشْمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه اللحظات النادرة،
وهو يدبر ويخطط ويرتبلعملية من أخطر العمليات في التاريخ الإسلامي، إنه يريد أن يخرج من مكة هو والصديقرضي الله عنه دون أن يشعر بهما أحد، بل بدون أن يشعر أحد أن رسول الله صلى اللهعليه وسلم قد علم بأمر الجريمة التي تدبر له حتى لا يعجل الكفار بجريمتهم، لم يقلرسول الله صلى الله عليه وسلم إني رسول الله وسوف يرعاني الله ويحفظني، بل أخذ بكلالأسباب الممكنة لإنجاح عملية الهجرة الخطرة، كانت أمام رسول الله صلى الله عليهوسلم عدة مشاكل أراد أن يدبر لها حلًا:
أولًا: إنه يريد أن يذهب للصديق رضي الله عنه ليخبره بأمرالهجرة، ولكن دون أن يراه أحد.
ثانيًا: هل يا ترى سيكون الصديق جاهزًا لهذه الهجرة المفاجئة، والتيستكون بعد ساعات فقط؟
ثالثًا: لا شك أن الكفار سيأتون لحصار بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو اكتشفوا هجرتهفسيتبعونه خارج مكة، ولو خرجوا خلف الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة فسيكون احتمالاللحاق به كبيرًا، فكيف يؤجل رسول الله عليه وسلم حركة المطاردة المشركةله؟
رابعًا: في بيت رسول اللهصلى الله عليه وسلم أمانات كان القوم يحفظونها عنده، وسبحان الله كان أهل مكةالمشركون لا يجدون من هو أكثر أمانة من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يحفظواعنده أماناتهم، وذلك مع شدة عدائهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان الرسولصلى الله عليه وسلم على درجة هائلة من الأمانة بحيث إنه في هذا الموقف الخطير مازالمشغولًا برد الأمانات، ولم يقل إنها أموال الأعداء، يجوز الاستيلاء عليها، بل ظلمحافظًا على العهد الذي بينه وبينهم.على الفور بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يفكر في حل هذهالمشاكل فقرر أولًا أن يذهب إلى الصديق ليخبره بأمر الهجرة ولكن في تكتم شديد، فخرجفي وقت الظهيرة، وهو وقت لم يعتد فيه أن يذهب إلى الصديق، وفي ذات الوقت هو وقتتخلو فيه شوارع مكة من المارة لشدة الحر، والأمر الثاني الذي قرره صلى الله عليهوسلم هو جَعْل علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقوم بمهمة مزدوجة، هذه المهمة هي أنينام في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الليلة، وقد تغطى ببردة رسول اللهعليه وسلم، فإذا جاء المشركون ونظروا من ثقب الباب وجدوا عليًا نائمًا في غطاء رسولالله صلى الله عليه وسلم فيظنونه الرسول صلى الله عليه وسلم، أي إنها عملية تمويهوإخفاء، وبهذا يعطي الرسول صلى الله عليه وسلم الوقت الكافي للابتعاد عن مكة، وإلىجانب هذه المهمة الخطرة فإنه على عليٍّ رضي الله عنه أن يعيد الأمانات إلى أصحابهافي اليوم التالي. فلا تضيع حقوق أحدٍ منالمشركين.
وبدأ رسولالله صلى الله عليه وسلم في تنفيذ خطته بسرعة، فخرج من الظهيرة متجهًا إلى بيتالصديق رضي الله عنه، وزيادة في التخفي فإن الرسول صلى الله عليه وسلم غطى رأسهببعض الثياب، فلو رآه أحد من بعيد ما أدرك بسهولة أنه رسول الله عليه وسلم، ثم دخلالرسول صلى الله عليه وسلم على الصديق في هذه الساعة التي ما جاء فيها إلى الصديقمن قبل طيلة الأعوام السابقة حتى إن ذلك لفت نظر الصديق رضي الله عنه، فقال كماتحكي السيدة عائشة رضي الله عنها وكما جاء في صحيح البخاري : فِدَاءٌ لَهُ أَبِيوَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّاأَمْرٌ.وحتى هذهاللحظات والصديق لا يعلم أنه سيهاجر مع رسول الله صلى الله عليهوسلم...
تقول السيدة عائشة رضيالله عنها:فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَفَاسْتَأْذَنَ، فَأُذِنَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِوَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ:"أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ. زيادة في الحذر "
فقال الصديق فياطمئنان:إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَاللَّهِ.
فقال الرسول صلى اللهعليه وسلم: "فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ".
فقال أبو بكر، وقلبه يكاد ينخلع من اللهفة: الصُّحْبَةُ،بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
يعني هل سأصحبك في هذه الرحلة؟
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ.
هنا لم يستطع أبو بكر رضي الله عنه أن يتمالك نفسه من شدةالفرح، فبكى...!!سبحان الله، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: فَلَمْ أَكُنْ أَدْرِيأَنَّ أَحَدًا يَبْكِي مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ حَتَّى رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍيَبْكِي.فبكى من شدة الفرح؛لأنه سيخرج في هذه الهجرة الخطرة، بل شديدة الخطورة، لا شك أن الصديق رضي الله عنهكان يقدر خطورة هذه الرحلة، ولا شك أنه كان يعلم أنه سيكون من المطلوبين بعد ذلك،وقد يقتل، لكن كل ذلك لم يؤثر فيه مطلقًا، إنه يحب رسول الله صلى الله عليه وسلمحبًا لا يوصف، يحبه أكثر من حب الأم لولدها، هل لو تعرض الابن لخطر ما، أتتركه أمهدون رعاية خوفًا على نفسها من الخطر؟ مستحيل، الصديق كان أكثر من ذلك، كان هذا حبًاحقيقيًا غير مصطنع، لازمه في كل لحظة من لحظات حياته، منذ آمن وإلى أن مات رضي اللهعنه، حتى بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما تغير حبه في قلب الصديق أبدًا،وبهذا الحب وصل الصديق رضي الله عنه إلى ما وصل إليه، وقبل أن يسأل رسول الله صلىالله عليه وسلم عن وسيلة الانتقال إلى المدينة، إذا بالصديق رضي الله عنه يقول: فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّهاَتَيْنِ.كان الصديقرضي الله عنه يتوقع أن يكون صاحبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فاشترىراحلة أخرى غير راحلته، وبدأ يعلف الراحلتين استعدادًا للسفر الطويل، فلما جاء موعدالسفر كان الصديق جاهزًا تمامًا لم يجهز نفسه فقط، بل جهز راحلتين، له ولرسول اللهصلى الله عليه وسلم، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض أن يأخذ الراحلة إلابثمنها، فَقَالَ: بِالثَّمَنِ.
نعم الصديق أنفق معظم ماله على الدعوة، ولكن كان ذلك لإعتاق العبيدوللإنفاق على الفقراء، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يريد من أحد أن ينفق عليههو شخصيًا، فأصر أن تكون الراحلة مملوكة لهبماله.
وقفة مع الصديقرضي الله عنه
وأنا أريد أن أقفهنا مع رد فعل الصديق رضي الله عنه لقرار الهجرة:
إنه كان مستعدًا تمامًا، استعدادا نفسيا كاملا للرحيلوترك الديار والبلاد دون اعتذار بأي ظرف معوِّق، ولا شك أنه إنسان وأنه تاجر وأنهأب وأنه زوج وأنه كذا وكذا لا شك أن عنده أمورًا كثيرة تعوقه كبقية البشر، ولكنهرضي الله عنه كان يعطي العمل لله عز وجل قدره الحقيقي، ولذلك كان يهون إلى جواره أيعمل آخر.
وكانمستعدًا استعدادًا يناسب المهمة، فقد أعد راحلتين حتى دون أن يطلبمنه.
وكان مستعدًا استعدادًاعائليًا، فقد أَهَّلَ بيته لقبول فكرة الهجرة، وأخذ القرار ببساطة مع أنه سيتركخلفه في مكة بنات صغارًا. وكان مستعدًا استعدادًا ماليًا، فقد ادَّخر خمسة آلاف درهم للإنفاق على عمليةالهجرة، ولتأمين الطريق أخذها بكاملها عند خروجه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم،ولم يترك لأهله شيئًا من المال، ولكنه ترك لهم كما اعتاد أن يقول: تَرَكْتُ لَهُمُاللَّهَ وَرَسُولَهُ.هذا رجليعيش للقضية الإسلامية، حياته كلها في خدمة هذا الدين، أوراقه كلها مرتبة لمصلحةالإسلام، أولوياته واضحة، أهدافه جلية، طموحاتهعالية...هذا هوالصديق أبو بكر رضي الله عنه.
جلس الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر يخططان لأمر الهجرة، يحسبانلكل خطوة حسابها، فوضعا سويًا خطة بارعة توفر أفضل الفرصللنجاة.خطة بارعةلتضليل المشركين

فماعناصر هذه الخطة؟

أولًا: سيخرجرسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته في أول الليل، ويأتي إلى الصديق في بيته؛وذلك لتجنب الحصار الذي سيفرض حتمًا على بيت رسول الله صلى الله عليهوسلم.
ثانيًا: سيبقىرسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت الصديق رضي الله عنه جزءًا من الليل، حتى تهدأالحركة في مكة تمامًا، وهنا سيأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديقالراحلتين وينطلقان في الرحلة.
ثالثًا: سيكون الخروج من بيت الصديق من خلال خوخة (فتحة) في خلف البيت؛لأنه من المحتمل أن تكون هناك مراقبة لباب البيت، فقد يتوقع المشركون أن يخرجالصِّدِّيق الصاحب الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم معه إلىالهجرة.
رابعًا: ستتمالهجرة إلى المدينة عن طريق ساحل البحر الأحمر وهو طريق وعر غير مألوف لا يعرفهكثير من الناس، وليس هو الطريق المعتاد للذهاب إلى المدينة، وذلك حتى يضمنواالاختفاء عن أعين المشركين.
خامسًا: سيتم استئجار دليل يصحبهم في هذه الرحلة؛ لأن الطريق غير معروف،والضياع في الصحراء أمر خطير، ولا بد أن يكون هذا الدليل ماهرًا في حرفته، أمينًاعلى السر، وفي ذات الوقت لا يشك المشركون في أمره، وقد اتفق الرسول صلى الله عليهوسلم مع الصديق على أن يكون هذا الرجل هو عبد الله بن أريقط، وهو من المشركين وهذافي منتهى الذكاء، فالمشركون لن يشكوا مطلقًا في أمره إذا رأوه سائرًا في خارج مكة،وهو في ذات الوقت رجل أمين يكتم السر، وهو رجل في النهايةصاحب مصلحة، فقد اسْتُؤجربالمال، ولا شك أن أجرته كانت مجزية.
سادسًا: سيتجه الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في أولالهجرة إلى الجنوب في اتجاه اليمن لمسافة خمسة أميال كاملة أي حوالي ثمانية كيلومترات، وهى مسافة كبيرة، مع أن المدينة في شمال مكة وليست في جنوبها، ولكن ذلكإمعانًا في التمويه؛ لأن المشركين إذا افتقدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلاشك أنهم سيطلبونه في اتجاه المدينة وليس في اتجاهاليمن.
سابعًا: سيتمالذهاب إلى غار ثور في جنوب مكة، وهو غار غير مأهول في جبل شامخ وعر الطريق، صعبالمرتقى، وسيبقيان في هذا الغار مدة ثلاثة أيام كاملة، ولن يتحركا في اتجاه المدينةإلا بعد انقضاء هذه الأيام الثلاثة، حين يفقد أهل قريش الأمل في العثور عليهم،فيكون ذلك أدعى لأمانهم، وسوف يتركان الراحلتين مع عبد الله بن أريقط الدليل، علىأن يقابلهما عند الغار بعد الأيام الثلاثة.
ثامنًا: سيقوم عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما بدورالمخابرات الإسلامية في هذه العملية الخطيرة، فهو سيذهب إلى الرسول صلى الله عليهوسلم والصديق رضي الله عنه كل يوم بأخبار مكة، وتحركات القرشيين، وردود الأفعاللخروج الرسول صلى الله عليه وسلم، وسوف يأتي في أول الليل، وسيبقى مع الرسول صلىالله عليه وسلم والصديق طوال الليل ثم يعود إلى مكة قبل الفجر، ويبيت هناك، ثم يظهرنفسه للناس، فلا يشك أحد في أنه كان مع الرسول صلى الله عليه وسلموصاحبه.
تاسعًا: سيقومعامر بن فهيرة رضي الله عنه مولى الصديق رضي الله عنه بدور التغطية الأمنية لهذهالعملية، وذلك برعي الأغنام فوق آثار أقدام الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق رضيالله عنه، ثم فوق آثار أقدام عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما بعد ذلك، حتى يضيععلى المشركين فرصة تتبع آثار الأقدام.
عاشرًا: ستقوم السيدة الفاضلة أسماء بنت أبي بكر الصديقرضي الله عنها بدور الإمداد والتموين لهذه العملية الصعبة، فهي ستحمل الطعاموالماء، وتتجه به كل يوم إلى غار ثور إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأبيها الصديقرضي الله عنه، وستقوم السيدة أسماء بهذا الدور؛ لأنه لن يشك أحد في أمر امرأة تسيرفي الصحراء، وخاصة أنها كانت في الشهور الأخيرة من حملها، وتخيل معي كيف لامرأةحامل في شهورها الأخيرة أن تحمل الطعام والشراب، وتسير به مسافة ثمانية كيلو متراتفي الصحراء، ثم تصعد الجبل الصعب الذي به غار ثور، وتفعل ذلك ثلاثة أياممتواصلة...!!قد تظنهذا الأمر عجيبًا، لكن يزول العجب عندما تعلم أنها قد تربت في بيت الصديق رضي اللهعنه.
وبذلك استنفد الرسول صلىالله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه وسعهما في إنجاح الخطة، ورفعا أيديهماإلى الله عز وجل أن يكتب لهما النجاة.عاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيته بعد وضع الخطةالمحكمة، وجهز نفسه، واستقدم عليا رضي الله عنه لينام مكانه، وأعطاه برده الأخضرليتغطى به، وعرفه بالأمانات وأصحابها، ثم جاء وقت الرحيل، والذهاب إلى بيت الصديقرضي الله عنه، ولكن اكتشف رسول الله صلى الله عليه وسلم المفاجأة، أحاط المشركونببيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إحاطة كاملة، وجاءوا قبل الموعد الذي ظن رسولالله صلى الله عليه سلم أنهم يجيئون فيه.فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَايُبْصِرُونَ}لقد استنفدالرسول صلى الله عليه وسلم الوسع في الخطة هو والصديق رضي الله عنه، ولكن الطابعالمميز لخطط البشر أنها لا تصل إلى الكمال، لا بد من ثغرات في الخطط البشرية، لكنإذا كنت مستنفدًا وسعك الحقيقي فإن الله عز وجل يسدُّ هذه الثغرات بمعرفته، ويكملالعجز البشري بقدرته، لكن دون أخذٍ بالأسباب بكل الأسباب الممكنة لا يسد الله هذهالثغرات، ولا يكمل هذا العجز، هذا لا يكون توكلًا على الله، بل تواكلا، وشتَّانَبين التوكل والتواكل.ماذا يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف الحرج، عشراتالسيوف تحيط بالبيت، والقرار ليس الحبس والمحاكمة، بل لقد صدر الحكم فعلًا بالقتل،وهم قد جاءوا للتنفيذ، ماذا يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟لقد نزل الوحي إلىرسول الله صلى الله عليه وسلم يطمئنه، ويأمره بالخروج وسط المشركين دون خوف ولاوجل، فسوف يأخذ الله عز وجل بأبصارهم، وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم في هذهالليلة المباركة، ليلة 27 من صفر سنة 14 من النبوة، وهو يقرأ صدر سورة يس، من أولهاإلى قوله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْسَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس:9].
وإمعانًا في السخريةمن المشركين، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة من التراب، ووضع جزءًا منهاعلى رأس كل مشرك يحاصر بيته، وهم لا يشعرون، ثم انطلق إلى بيت الصديق رضي الله عنهلاستكمال تنفيذ الخطة، فهي بحمد الله إلى الآن تسير على مايرام.
كان من الممكنأن يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من البيت قبل قدوم المشركين، لكن الله عز وجلأراد ذلك لإثبات أن الأمر كله بيد الله عز وجل، وأنه دون توفيق الله عز وجل لا يتمأمر من الأمور، وأيضا ظهرت المعجزة الظاهرة في نصرة رسول الله صلى الله عليهوسلم.وعلى الناحيةالأخرى كان من الممكن أن يأخذ الله عز وجل أبصار المشركين فلا يقع على رسول اللهصلى الله عليه وسلم أي أذى طيلة حياته، ولكن هذا لم يحدث، لقد أُلقي على ظهره سلاالجزور، ورحم الشاه، وسب بأفظع الألفاظ، ورجم بالحجارة في الطائف، وأصيب في أحدأكثر من إصابة، لم يأخذ الله عز وجل بأبصار المشركين في كل هذه المواقف، ليُعلّمالمسلمين طبيعة الطريق، فطريق المسلم فيه كثير من الإيذاء، وكذلك فيه كثير من الأخذبعيون المشركين، وعيون أعداء الله عز وجل، يحدث ذلك مع كل المؤمنين، نعم يكون الأمرواضحًا كمعجزة مع الأنبياء، لكن قد يفعله الله عز وجل مع المؤمنين دون أن يطلعالناس عليه، فيأخذ عنهم أبصار أعدائهم، ويكفينا في ذلك قول الله عز وجل: {إِنَّاللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍكَفُورٍ} [الحج:38].
خلاصة القول: إن حياة الداعية وحياة الناس أجمعين بيد الله عز وجل،والله عز وجل يكتب أحيانًا ابتلاء للمؤمن وفي ذلك حكمة، وأحيانًا يكتب له نجاةً منالأذى وفي ذلك حكمة أيضًا، ولا تسير الأمور إلا بقدر الله عز وجل {إِنَّا كُلَّشَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] .ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين يحاصرون البيت،وفيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وانطلق إلى الصديق رضي الله عنه، ومكث عنده إلىمنتصف الليل، ثم خرجا من الخوخة الخلفية في البيت، واتجها جنوبًا إلى غار ثور،ووصلا إليه بالفعل، واستكشف أبو بكر رضي الله عنه الغار أولًا ليرى إن كان به أيشيء يضر، فلما وجده آمنًا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار، وتم الجزءالأول من الخطة بنجاح.نعود إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمشركون يحاصرونه، وعليرضي الله عنه نائم بداخله، وبينما هم على هذه الحالة، مر عليهم رجل من المشركين لميكن معهم؛ فقال لهم قولًا خطيرًا، لقد قال لهم: ماذا تنتظرون هنا؟ قالوا: محمدًا. قال: خيَّبَكم الله، قد والله خرج عليكم محمد. إذن الرجل شاهد محمدًا صلى الله عليهوسلم في مكان آخر، فمع كل الاحتياط والحذر إلا أن هناك رجلًا لمح محمدًا صلى اللهعليه وسلم وهو في طريق الهجرة، ولكن يبدو أنه لم يكن يعلم بتخطيط قريش فلم يأبهلرؤيته، فلما سمع القوم ذلك انزعجوا، وزاد من انزعاجهم التراب الذي وجدوه علىرءوسهم، في إشارة واضحة إلى أنه مر عليهم فلم يشاهدوه، وفي هذا معجزة ظاهرة، ولكنهمكانوا قد عميت أبصارهم وبصائرهم، قام المشركون بسرعة ينظرون من ثقب الباب فوجدواعليًا ينام في الفراش وهو يتغطى ببردة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: والله إنهذا محمدا نائم.
فتحيرالقوم، فقام فيهم من يقترح أن يقتحموا البيت على هذا النائم، ولكن اعترض معظمهم علىذلك، أتدرون لماذا؟
لقد قالوا: والله إنها لسُبة في العرب أن يتُحدثَ عنا أنْ تسورنا الحيطان على بنات العمِّ،وهتكنا سترَ حرمتنا.
سبحانالله، كفار مكة لا يهتكون ستر البيوت، لا يقتحمون حرماتالديار.
وانتظرالمشركون إلى الصباح حتى قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه من فراشه، فرآه القوم،وأسقط في أيديهم، وأمسكوه يجرونه إلى البيت الحرامويضربونه.
علي بن أبي طالب رضيالله عنه يتحمل الإيذاء
وهنا نشاهد الموقف الحكيم من علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان يبلغآنذاك ثلاثة وعشرين عامًا إنه لم يرُدَّ الضرب بالضرب، مع كونه فتىً عزيزًا،وفارسًا مغوارًا، وسنرى أفعاله بعد سنتين في بدر، ولكنه تحلى بالصبر، وتجمل بالحلم،لماذا؟
أولًا: لم يؤذن بعدُللمسلمين في القتال إلى هذه اللحظة.
ثانيًا: الهَلَكَة محققة لغياب كل المسلمين تقريبًا، واجتماع كلالمشركين على بني هاشم.
ثالثًا: عليه مهمة عظيمة لم يقم بها بعد، وهى رد الأمانات إلى أهلها،ولابد أن يحافظ على نفسه حتى يقوم بهذه المهمة.
أخذ المشركون عليًا رضي الله عنه وحبسوه ساعة واحدة، لميحبسوه شهرًا، أو عامًا، أو أعوامًا، إنما ساعة واحدة فقط، ثم أطلقوه، فمكث رضيالله عنه في مكة ثلاثة أيام يرد الأمانات إلى أهلها، ثم انطلق مهاجرًا إلى المدينةالمنورة.
قريش تعلنحالة الطوارئ
أعلنت حالةالطوارئ القصوى في مكة، استنفار عام لكل العناصر المشركة، واتخذت السلطة في مكةالقرارات الآتية:
القرار الأول: مداهمة منزل أبي بكر الصديق المتهم بصحبة زعيم المسلمينرسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي كان يتولى شئون الإنفاق على المسلمين فمنالمحتمل أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مازال مختبئًا في بيته، أو لعلالرسول - صلى الله عليه وسلم - هاجر بمفرده، وأبو بكر يعرف طريقه، فلا بد من التأكدمن ذلك، وقد قام بهذه المهمة أبو جهل بنفسه ومعه فرقة من المشركين، ذهب إلى بيتالصديق وطرق الباب بشدة، وفتحت السيدة أسماء رضي الله عنها، فقال لها في غلظة: أينأبوك يا بنت أبي بكر؟
قالت: لاأدري. فرفع أبو جهل يده ولطم خدها حتى أطار قرطها، فعلة شنيعة من سيد مكة، لكنه لميفكر أن يدخل البيت ليقلب محتوياته رأسًا على عقب، ليفتش عن الصديق رضي الله عنه أوالرسول صلى الله عليه وسلم، أو ليجد أي دليل يشير إلى مكانهما، لماذا لم يفعل ذلك؟تذكروا: كفار مكة لا يهتكون حرمات البيوت.
كان هذا هو القرار الأول الذي اتخذه زعماء قريش، وهو البحث عنالصديق.
القرارالثاني: هو إحكام المراقبة المسلحة على كل مداخل ومخارج مكة، فلعل الرسول صلى اللهعليه وسلم مازال مختبئًا في أحد البيوت في مكة.
القرار الثالث: إعلان جائزة كبرى لمن يأتي برسول الله صلىالله عليه وسلم أو صاحبه الصديق رضي الله عنه، تعطى الجائزة لمن يأتي بأحدهما حيًاأو ميتًا، والجائزة هي مائة ناقة، وهذا رقم مهول في ذلكالزمن.
القرار الرابع: استخدام قصاصي الأثر لمحاولة تتبع آثار الأقدام في كل الطرق الخارجة منمكة.
لَاتَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا}
وسبحان الله، مع كل طرق التأمين التي اتبعها رسول الله صلى الله عليهوسلم والصديق رضي الله عنه، ومع كون الخطة بارعة جدًا ومحكمة جدًا، إلا أنه كماذكرنا من قبل: ليس طابع الخطط البشرية أن تصل إلى حد الكمال، لا بد من ثغرات، اكتشفالقصاصون الطريق الذي سار فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه، ووصلوا إلى الجبلالصعب الذي به غار ثور، وصعدوا الجبل، ووصلوا إلى باب غارثور.
لم يبق إلا أن ينظروا فقطإلى داخل الغار، والغار صغير جدًّا.
الرسول يجلس في داخل الغار في سكينه تامة، وكأنه يجلس فيبيته، والصديق رضي الله عنه في أشد حالات قلقه واضطرابه، يقول الصديق رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ بَعْضَهُمْ طَأْطَأَ بَصْرَهُرَآنَا.
قال الرسول صلى اللهعليه وسلم في يقين: "اسْكُتْ يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍبِاثْنَيِنْ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا".
الله، الله، لو استشعر الدعاة إلى الله هذه المعية لهانتعليهم كل الشدائد، وكل المصاعب، وكل الآلام، بل لهانت عليهم الدنيا بأسرها، لكنالصديق رضي الله عنه لم يكن خائفا على نفسه، لم يكن قلقًا على حياته، ليس الصديقالذي يفعل ذلك، لا قبل ذلك ولا بعد ذلك، إنما كان يخاف على رسول الله صلى الله عليهوسلم، بل إنه في رواية يقول: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ قُتِلْتُ أَنَا فَإِنَّمَاأَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ قُتِلْتَ أَنْتَ هَلَكَتِالْأُمَّةُ.
ماذا فعلالمشركون وهم على باب غار ثور، بعد أن قطعوا هذا المشوار الطويل الصعب، وقد انتهتآثار الأقدام أمام فتحة باب الغار؟!
إن الله عز وجل قد ألقى في روعهم ألا ينظروا إلى داخل الغار، مع أن هذهالنظرة لن تأخذ أكثر من دقيقة واحدة وربما ثوانٍ أقل، ولا شك أنهم قد أخذوا ساعاتطويلة حتى يصلوا إلى هذا المكان، لكن هذا فعل الله عزوجل...
روى الإمامأحمد والطبراني وعبد الرازق والخطيب أن عنكبوتا قد نسج خيطًا كثيفًا حول الباب،وهذه معجزة ظاهرة، فقال الكفار: لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت علىبابه.
وهذا الحديث وإنكان ضعيفًا من كل طرقه إلا أن كثرة طرقه يقوى بعضها بعضًا فترفعه إلى درجة الحديثالحسن، أما قصة الحمامتين وقصة الشجرة التي نبتت على باب الغار فهي قصص ضعيفة جدًالا تصح، وأنا أرى أنه حتى لو لم تصح قصة نسج العنكبوت فهذا إعجاز أيضًا من ربالعالمين، إذ كيف لا ينظر الناس في داخل الغار مع كونه مفتوحًا، فسواء نسجتالعنكبوت خيوطها أو لم تنسج فهذا دفاع من رب العالمين، والنتيجة واحدة: نجاة الرسولصلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه من هذه المطاردةالمكثفة.
مكث الرسولصلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام كما كان مقررًا في الخطة المرسومة، وقام كلمن عبد الله بن أبي بكر، وعامر بن فهيرة، وأسماء بنت أبي بكر بدوره، وحان وقتالرحيل إلى المدينة، وجاء عبد الله بن أريقط الدليل بالناقتين في الوقت المتفقعليه، وجاء بناقة ثالثة له، وجاء معه أيضًا عامر بن فهيرة ليرافق الراكب المهاجرإلى المدينة، خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من الغار ليلة غرة ربيع الأول من سنة 14 من النبوة، وإمعانًا في الاحتياط اتخُِّذَتْ بعض الإجراءاتالأخرى:
أولًا: الخروجليلًا من الغار. ثانيًا: الإمعان في اتجاه ناحية اليمن.
ثالثًا: الاتجاه غربًا ناحية سحل البحر الأحمر، ثم الاتجاه شمالًا فيالطريق الوعر المتفق عليه سابقًا.
رابعًا: كانت هذه نقطة تأمينية من الصديق رضي الله عنه لم يضعها رسولالله صلى الله عليه وسلم في الخطة المسبقة، ولكن استحدثها الصديق رضي الله عنهلزيادة حماية الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه كان يسير أمام رسول الله صلىالله عليه وسلم تارة ثم يسير خلفه تارة، وهكذا طوال الطريق، ولما تنبه رسول اللهصلى الله عليه وسلم إلى ذلك سأله عن ذلك فقال الصديق رضي الله عنه في حب عميق: يَارَسُولَ اللَّهِ أَذْكُرُ الطَّلَبَ (المطاردة) فَأَمْشِي خَلْفَكَ، ثُمَّ أَذْكُرُالرَّصَدَ (الكمائن) فَأَمْشِي بَيْنَ يَدَيْكَ.
يتمنى أن لو جاء سهم أن يدخل في ظهره أو في صدره، ولا يمسرسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء.
سراقة بن مالك وسواري كسرى
وهكذا سارت القافلة المباركة من مكة إلى المدينة، وعلىالجانب الآخر نشط الكفار في تحفيز أهل مكة جميعًَا للقبض على رسول الله صلى اللهعليه وسلم وصاحبه، ونشط الوصوليون، و أصحاب المصالح، والراغبون في الثراء السريع،وبحثوا في كل مكان، ولم يوفقوا جميعًا إلا واحدًا...إنه سراقة بنمالك
بعض الناس رأوارسول الله صلى الله عليه وسلم أو هكذا ظنوا، فذكروا ذلك أمام سراقة فضللهم عنهليفوز هو بمائة الناقة، ثم أمر بفرسه وسلاحه وخرج في إثر الرسول صلى الله عليه وسلموأصحابه، حتى رآهم من بعيد، واقترب منهم حتى كان يسمع قراءة رسول الله صلى اللهعليه وسلم للقرآن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلتفت كما يقول سراقة وكماجاء في البخاري، وأبو بكر يكثر الالتفات، ثم حدثت المعجزة بأن بدأت أقدام الفرستسوخ في الأرض، مرة والثانية والثالثة، حتى أدرك سراقة أن القوم ممنوعون، فاقتربمنهم وقد سألهم الأمان، وأخبرهم أن القوم قد جعلوا فيهم الدية، فقال له رسول اللهصلى الله عليه وسلم: "أَخْفِ عَنَّا". ثم قال له قولًا عجيبًا، قال: "كَأَنِّي بِكَيَا سُرَاقَةُ تَلْبَسُ سُوَارَيْ كِسْرَى".
فطلب سراقة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب لهكتابًا بذلك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عامر بن فهيرة أن يكتب له كتابًا ؛فكتب له على رقعة من جلد، وعاد سراقة يبعد الناس عن طريق رسول الله صلى الله عليهوسلم، ويقول لهم: قد كفيتكم هذا الطريق، فكان في أول اليوم جاهدًا في مطاردة الرسولصلى الله عليه وسلم، و في آخر اليوم مدافعًا عنه، وسبحان الله: {وَمَا يَعْلَمُجُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدَّثر:31] .
وسبحان الله، مرت الأيام، وأسلم سراقة بعد فتح مكة وحنين،وفتحت بلاد فارس وجاءت الغنائم في عهد عمر بن الخطاب، وفيها سوارا كسرى، فأخرجسراقة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطاه لعمر رضي الله عنه، فأعطاه عمررضي الله عنه سواري كسرى تنفيذا لوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا يَنْطِقُعَنِ الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النَّجم:3، 4] .
لم يعكر صفو الرحلةبعد ذلك شيء إلى أن اقترب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة المنورة ففوجئبرجل اسمه بُرَيْدَة بن الحصيب زعيم قبيلة أسلم، قد خرج له في سبعين من قومه يريدالإمساك برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليحصل على المكافأة الكبيرة، ولكنالرسول العظيم صلى الله عليه وسلم وقف يعرض عليه الإسلام في هدوء وسكينة، فوقعتكلمات الرحمن في قلب بريدة وأصحابه فآمنوا جميعًا في لحظة واحدة، وكانوا في أولاليوم من المشركين فأصبحوا في آخره من الصحابة، فانظر إلى عظيم فضل الله عليهم وعلىالدعوة، فقد كانت السنوات تمضي في مكة حتى يؤمن عدد مثل هذا هناك، وهاهو الآن هذاالعدد يؤمن في لحظة.
المهم أنه في النهاية وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينةالمنورة سالمًا، وذلك في يوم 12 من ربيع الأول سنة 14 من النبوة، لتبدأ بذلك مرحلةجديدة مهمة جدًا في الدعوة الإسلامية في المدينة المنورة
من أبطال الهجرة
هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعدبن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي التميمي، كنيته: أبو بكر، ولقبه الصِّدِّيق،وكنية أبيه أبو قحافة.
كان أبوبكر رضي الله عنه يسمَّى أيضًا: عتيقًا، وقيل إن سبب هذه التسمية أن النبي -صلىالله عليه وسلم- قال له: "أنت عتيق من النار"، وقيل: إنه سُمِّي كذلك لحسن وجههوجماله، ولقب بالصديق لتصديقه بكل ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- وخاصةتصديقه لحديث الإسراء وقد أنكرته قريش كلها، وأبو بكر الصديق أفضل الأمة مكانةومنزلة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو أول من أسلم من الرجال، وهو رفيقالرسول -صلى الله عليه وسلم- في هجرته، وخليفته علىالمسلمين.
هجرتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــه:
لما أذنالله -عز وجل- لنبيه بالهجرة إلى المدينة أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أنيهاجروا، وجعل أبو بكر يستأذنه في الهجرة والنبي -صلى الله عليه وسلم- يمهله ويقولله: "لا تعجل لعلّ الله يجعل لك صاحبًا"، حتى نزل جبريل -عليه السلام- على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبره أن قريشًا قد خططت لقتله، وأمره ألا يبيت ليلته بمكةوأن يخرج منها مهاجرًا، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- وفتيان قريش وفرسانهامحيطون ببيته ينتظرون خروجه ليقتلوه، ولكن الله أخذ أبصارهم فلم يروه، وتناول النبي -صلى الله عليه وسلم- حفنة من التراب فنثرها على رؤوسهم وهم لا يشعرون، وذهب -صلىالله عليه وسلم- إلى بيت أبي بكر -وكان نائمًا فأيقظه- وأخبره أن الله قد أذن له فيالهجرة، تقول عائشة: "لقد رأيت أبا بكر عندها يبكي من الفرح"، ثم خرجا فاختفيا فيغار ثور، واجتهد المشركون في طلبهما حتى شارفوا الغار، وقال أبو بكر: لو أن أحدهمنظر تحت قدميه لأبصرنا فقال له النبي -صلى الله عليهوسلم:
ما ظنك باثنين اللهثالثهما؟!"، وأقاما في الغار ثلاثة أيام ثم انطلقا، وكان أبو بكر أعرف بالطريق،وكان الناس يلقونهما فيسألون أبا بكر عن رفيقه فيقول: "إنه رجل يهديني الطريق"،وبينما هما في طريقهما إذ أدركهما سراقة بن مالك، وكان قد طمع في النياق المائةالتي رصدتها قريش لمن يأتيها بمحمد، ولما اقترب سراقة رآه أبو بكر فقال: يا رسولالله هذا الطلب قد لحقنا، ودنا سراقة حتى ما كان بينه وبينهما إلا مقدار رمح أورمحين فكرر أبو بكر مقولته على النبي -صلى الله عليه وسلم- وبكى، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لِمَ تبكي؟)، فقال أبو بكر: "يا رسول الله والله ما علىنفسي أبكي ولكني أبكي عليك"، فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "اللهم اكفناهبما شئت"؛ فساخت قوائم الفرس ووقع سراقة وقال: "يا محمد إن هذا عملك فادع الله أنينجيني مما أنا فيه فوالله لأعمّينَّ على مَن ورائي"، فأجابه النبي -صلى الله عليهوسلم- إلى طلبه، ودعاه إلى الإسلام ووعده إن أسلم بسواري كسرى، واستمرا في طريقهماحتى بلغا المدينة، واستقبل الصحابة مهاجرين وأنصار رسول الله وصاحبه بسرورٍ وفرحٍعظيمين، وانطلق الغلمان والجواري ينشدون الأنشودة الشهيرة: طلع البدر علينا منثنيات الوداع.
اضطهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــاده:
كان أبوبكر ذا مكانة ومنعة في قريش، فلم ينله من أذاهم ما نال المستضعفين، ولكن ذلك لميمنع أبا بكر من أن يأخذ حظه وقسطه من الأذى، فقد دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- الكعبة واجتمع المشركون عليه وسألوه عن آلهتهم وهو لا يكذب، فأخبرهم فاجتمعوا عليهيضربونه، وجاء الصريخ أبا بكر يقول له: أدرك صاحبك فأسرع أبو بكر إليه وجعل يخلصهمن أيديهم وهو يقول: "ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله"، فتركوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعلوا يضربونه حتى حمل أبا بكر أهل بيته وقد غابت ملامحه منشدة الأذى.
أعمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــاله:
لأبي بكرالصديق -رضي الله عنه- مواقف وأعمال عظيمة في نصرة الإسلاممنها:
إنفاقه كثيرًا منأمواله في سبيل الله؛ ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما نفعني مال قط مثلمانفعني مال أبي بكر)، فبكى أبو بكر وقال: "وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله" (رواهأحمد والترمذي وابن ماجه)، وقد أعتق أبو بكر من ماله الخاص سبعة من العبيد أسلمواوكانوا يعذبون بسبب إسلامهم منهم بلال بن رباح وعامر بنفهيرة. عندما مرض النبي -صلىالله عليه وسلم- قال لمن حوله: "مروا أبا بكر فليصل بالناس"، فقالت عائشة: يا رسولالله لو أمرت غيره، فقال: "لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره"، وقال عليّبن أبي طالب: "قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر فصلى بالناس وإني لشاهدغير غائب، وإني لصحيح غير مريض ولو شاء أن يقدمني لقدمني فرضينا لدنيانا من رضيهالله ورسوله لديننا".
-
عندما قبض النبي -صلى الله عليه وسلم- فتن الناس حتى أن عمر بن الخطاب قال: "إنرسول الله لم يمت ولا يتكلم أحد بهذا إلا ضربته بسيفي هذا"، فدخل أبو بكر وسمعمقالة عمر فوقف وقال قولته الشهيرة: "أيها الناس من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قدمات ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت...".
-
بعد مبايعة أبي بكر بالخلافة أصر على إنفاذ جيش أسامةالذي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد جهّزه وولى عليه أسامة بن زيد، وكان فريقمن الصحابة منهم عمر قد ذهبوا لأبي بكر وقالوا له: إن العرب قد انتفضت عليك، فلاتفرق المسلمين عنك فقال: "والذي نفسي بيده لو علمت أن السباع تأكلني بهذه القريةلأنفذت هذا البعث الذي أمر الرسول بإنفاذه ولا أحلّ لواءً عقده رسول الله -صلى اللهعليه وسلم- بيده"، واتخذ الجيش سبيله إلى الشام تحت إمرةأسامة. واجه أبو بكر في بدءخلافته محنة كبرى تمثلت في ردة كثير من قبائل العرب عن الإسلام بعد وفاة النبي -صلىالله عليه وسلم- ومنعت بعض القبائل زكاة أموالها، وأمام هذه الردة جهز أبو بكرالجيش، وقرّر حرب المرتدين جميعًا، واعتزم أن يخرج بنفسه على قيادة الجيش غير أنعلىّ بن أبى طالب لقيه وقد تجهز للخروج فقال له: "إلى أين يا خليفة رسول الله؟ ضمسيفك ولا تفجعنا بنفسك، فوالله لئن أصبنا بك ما يكون للإسلام بعدك نظام أبدًا، فرجعأبو بكر، وولى خالدًا على الجيش، وسار خالد فقضى على ردة طليحة الأسديّ ومن معه منبني أسد وفزارة، ثم توجه إلى اليمامة لحرب مسيلمة بن خسر ومن معه من بني حنيفة،وكان يوم اليمامة يومًا خالدًا كتب الله فيه النصر لدينه وقتل مسيلمة وتفرق جنودهومضى المسلمون يخمدون نار الفتنة والردة حتى أطفأها الله تعالى، ثم استمر جيش خالدفي زحفه حتى حقق نصرًا عظيمًا على الروم في معركةاليرموك.
لما أحس أبو بكربقرب أجله شاور بعض كبار الصحابة سرًّا في أن يولي عمر بن الخطاب الخلافة من بعدهفرحبوا جميعًا، غير أن بعضهم اعترض على غلظة عمر فقال أبو بكر: "نعم الوالي عمر،أما إنه لا يقوى عليهم غيره، وما هو بخير له أن يلي أمر أمة محمد، إن عمر رأىلينـًا فاشتد، ولو كان واليًا للان لأهل اللين على أهل الريب"، ثم أمر أبو بكرعثمان فكتب كتابًا باستخلاف عمر.
من أقوالـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــه:
-
كانأبو بكر إذا مدحه أحد قال: "اللهم أنت أعلم بي من نفسي وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهماجعلني خيرًا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بمايقولون". لما بايعهالناس خليفة للرسول صلى الله عليه وسلم خطب فيهم فقال: "أما بعد.. أيها الناس فإنيقد ولِّيت عليكم -ولست بخيركم- فإن أحسنت فأعينوني، وإن أخطأت فقوموني، ولا تأخذكمفي الله لومة لائم، ألا إن الضعيف فيكم هو القوي عندنا حتى نأخذ له بحقه، والقويفيكم ضعيف عندنا حتى نأخذ الحق منه طائعًا أو كارهًا، أطيعوني ما أطعت الله فيكمفإن عصيته فلا طاعة لي عليكم".


-
عندما امتنع بعض المسلمين عن أداء الزكاة قرّر أبو بكر قتالهم فذهبعمر إليه وقال له: "كيف تقاتلهم وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أمرت أنأقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فإن قالوا ذلك عصموا مني دماءهموأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"، فقال أبو بكر: "والله لأقاتلن من فرّق بينالصلاة والزكاة، فإن الزكاة من حق الله، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلىرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعه"، قال عمر: "فلما رأيت أن اللهشرح صدر أبي بكر للقتال عرفت أن الحق معه".


من مواعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــظه:

إن العبدإذا دخله العجب بشيء من زينة الدنيا مقته الله تعالى حتىيفارق تلك الزينة".
وكان يأخذ بطرف لسانه ويقول: "هذا الذي أوردنيالموارد".
اعلمواعباد الله أن الله قد ارتهن بحقه أنفسكم، وأخذ على ذلك مواثيقكم، واشترى منكمالقليل الفاني بالكثير الباقي، وهذا كتاب الله فيكم لا تفنى عجائبه فصدقوا قوله،وانصحوا كتابته، واستضيئوا منه ليوم الظلمة".
قبل موته دعا عمر بن الخطاب وقال له: "إني مستخلفك علىأصحاب رسول الله، يا عمر: إن لله حقـًّا في الليل لا يقبله في النهار، وحقًّا فيالنهار لا يقبله في الليل، وإنها لا تقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، وإنما ثقلتموازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق وثقله عليه، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحقغدًا أن يكون ثقيلاً، وإنما خفت موازين من خفت موازينهم يوم القيامة باتباعهمالباطل، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفـًا، يا عمر إنما نزلت آيةالرخاء مع آية الشدة وآية الشدة مع آية الرخاء ليكون المؤمن راغبًا راهبًا، فلاترغب رغبة فتتمنى على الله ما ليس لك، ولا ترهب رهبة تلقي فيها ما بيديك، يا عمرإنما ذكر الله أهل النار بأسوأ أعمالهم ورد عليهم ما كان من حسن فإذا ذكرتهم قلت: إني لأرجو ألا أكون من هؤلاء، وإنما ذكر الله أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنه تجاوزلهم ما كان من سيئ فإذا ذكرتهم قلت: أي عمل من أعمالهم أعمل؟، فإن حفظت وصيتي فلايكن غائب أحب إليك من الموت وهو نازل بك، وإن ضيعت وصيتي فلا يكن غائب أكره إليك منالموت ولست تعجزه".
وفــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات ه:
توفِّي أبوبكر -رضي الله عنه- في شهر جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة قيل: يوم الجمعةلسبع بقين من جمادى، وقيل: مساء ليلة الثلاثاء لثمانٍ بقين من جمادى الآخرة، وصلّىعليه عمر بن الخطاب، وكان أبو بكر قد ولد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- بسنتينوأشهر، ومات بعده بسنتين وأشهر مستوفيًا ثلاثة وستين عامًا وهو نفس العمر الذي ماتعنه النبي -صلى الله عليه وسلم-، واستمرت خلافة أبي بكر سنتين وثلاثة أشهروأيامًا.
وقال عمر فيحقه: "رحمة الله على أبي بكر لقد أتعب من بعده تعبًاشديدًا".
رثاه علي بن أبى طالبوهو يبكي بكاء عظيمًا يوم موته بكلام طويل منه: "رحمك الله يا أبا بكر، كنت إلفرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنيسه ومكان راحته، وموضع سره ومشاورته، وكنت أولالقوم إسلامًا، وأخلصهم إيمانـًا، وأحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقب وأفضلهم سوابق،وأشرفهم منزلة، وأرفعهم درجة، وأقربهم وسيلة، وأشبههم برسول الله هديًا وسمتـًا... سمّاك الله في تنزيله صدِّيقـًا فقال: "والذي جاء بالصدق وصدق به..."، فالذي جاءبالصدق محمد -صلى الله عليه وسلم- والذي صدق به أبو بكر، واسيته حين بخل الناس،وقمت معه على المكاره حين قعدوا، وصحبته في الشدة أكرم صحبة، وخلفته في دينه أحسنالخلافة، وقمت بالأمر كما لم يقم به خليفة نبي...".

مصعب بن عمير
مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بنقصي بن كلاب بن مرة القرشي، كنيته أبو عبد الله، وُلد في الجاهلية، كان شابًّاجميلاً عطرًا، حسن الكسوة، وكان أبواه ينعمانه.
أسلم ورسول الله r في دار الأرقم، وكتم إسلامه؛ خوفًا منأمّه، وكان يختلف إلى رسول الله r سرًّا، فبصر به عثمان بن طلحة العبدري، فأعلمأهله، فأخذوه وحبسوه، فلم يزل محبوسًا إلى أن هاجر إلى الحبشة، رجع مع من هاجر إلىمكة ثانية، والتقى رسول الله r.
كان مصعب بن عمير أوّل من هاجر إلى المدينة، وذلك أنَّ الأنصار كتبواإلى رسول الله r أن ابعث لنا رجلاً يفقهنا في الدين ويقرئنا القرآن، فبعثه r إليهم.
حينما قدم المدينة نزلعلى أسعد بن زرارة، وكان يأتي الأنصار في دُورهم أو قبائلهم فيدعوهم إلىالإسلام.
أسلم على يده أسيد بنحضير، وسعد بن معاذ، وبعث إليه عمرو بن الجموح بعد أن قدم المدينة ليسأله عن أمرالدين الجديد، فأجابه مصعب، وأسمعه صدر سورة يوسف، فأسلم علىيده.
خرج من المدينة معالسبعين الذين وافوا رسول الله r في العقبة الثانية، وأقام مع رسول الله r بمكةبقية ذي الحجّة ومحرّم وصفر.شهد بدرًا وأحدًا مع رسول اللّه r، وكان لواء الرسول r معه.
استُشهد في معركة أحد سنة 3هـ، قتله ابن قثمة الليثي. قال رسول اللّه r: "ما رأيت بمكة أحسن لمة، ولا أنعمنعمة، من مصعب بن عمير".قالسعد بن أبي وقاص: "كان مصعب بن عمير أنعم غلام بمكة، وأجوده حلة مع أبويه، ثُمَّلقد رأيته جهد في الإسلام جهدًا شديدًا، حتّى لقد رأيت جلده يسقط كما يسقط جلدالحية".
قال عنه البراء بنعازب: "أول المهاجرين مصعب بن عمير". وقال عنه أبو هريرة t: "رجل لم أَرَ مثله كأنهمن رجال الجنة".صارت قصة مصعبفي الإسلام درسًا من دروس السماء الغالية لبني البشر؛ ليتعلموا حياة الرجال معمبادئهم، واستعلائهم على الدنيا بما فيها من متاع مبهر أخاذ، بل والأكثر من هذا، أنيتقدم الولاء للعقائد قبل وفوق كل علائق وقرابات الدنيا.

أسماء بن أبى بكر
هي أسماء ابنة أبي بكر الصدِّيق، وأخت عائشة أمالمؤمنين لأبيها، زوج الزبير بن العوَّام حواري رسولِ الله وابن عمته، وأم الفارسالمغوار الخليفة عبد الله بن الزبير. أسلمت مع السابقين الأولين وكان ترتيبها فيالإسلام (الثامن عشر)، وظلَّت في مكَّة تشارك المسلمين لنشر الدعوة، ومرارة الأذىفي سبيل الله، حتى كانت الهجرة إلى المدينة، فكان لها ثلاثةُ مواقفَ سجَّلها لهاتاريخ السيرة النبوية بفخار وإعزاز.
أسماء وهجرة النبي صلى الله عليه وسلمحدَّثت عن أوَّلها، فقالت: صنعت سفرة للنبي r حين أراد أنيسافر إلى المدينة فلم نجد لسفرته وسقائه ما نربطهما به، فقلت لأبي بكر: ما أجد إلانطاقي، قال شقيه باثنين، فاربطي بواحد منهما السقاء وبالآخرةالسفرة.وروي أن النبي قال لهاحين فعلت ذلك: "أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين في الجنة". فقيل لها: (ذاتالنطاقين).حدَّثت عن ثانيها: لما خرج رسول اللهوأبو بكر، أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفواعند باب أبي بكر؟ فخرجت إليهم، فقالوا أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قلت لا أدري واللهأين أبي، فرفع أبو جهل يده -وكان فاحشًا خبيثًا- فلطم خدي لطمة طرح منهاقرطي.وحدثت عن الموقف الثالث،فقالت: لما خرج رسول الله r إلى الهجرة، وخرج أبو بكر معه، احتمل أبو بكر ماله كلهمعه، خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف، فالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره،فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، قلت: كلا يا أبت، قد ترك لنا خيرًاكثيراً، فأخذت أحجاراً فوضعتها في كوة البيت التي كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعتعليها ثوباً، ثم أخذت بيد جدي فقلت: يا أبت.. ضع يدك على هذا المال، فوضع يده عليهفقال لا بأس، إذا كان ترك لكم ها فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم. قالت أسماء: لا واللهما ترك لنا شيئاً، ولكني لأردت أن أسكن الشيخ بذلك.
أسماء المســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلمة
ليست امرأة فارغة همها زينتها، وإنما هي مؤمنة همهارسالتها، فلا عجب أن تكتم السر في شجاعة، وتستقبل أبا جهل وأصحابه في قوة، وتشقنطاقها وهي راضية، وتتحمل لطم خدها وهي صابرة، وتحسن الحيلة لإرضاء جدها، وهي سعيدةبما تصنع من أجل دينها ورسالتها.
أسماء الزوجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــة
تزوجت أسماء الزبير قبل الهجرة، وكلاهما مسلم خالطت بشاشة الإيمان قلبه،وامتزج الإسلام بلحمه ودمه، فكانا مثال الزوجين المتوافقين ضمهما هدف واحد، وطريقةواحدة، تحت لواء واحد.. هاجر إلى المدينة فهاجرت، وجاهد فشدت أزره، وصبرت في ضرائه،وشكرت في سرائه. لم يمنعها مكان أبيها، ولا شرف قومها، أن تقف إلى جانبه في أيامالشدة والفقر، تعمل وتكدح وتُعَمِّرَ عش الزوجية بكدِّ اليمين، وعرقالجبين.
قالت أسماء: تزوجنيالزبير، وما له في الأرض مال، ولا مملوك، ولا شيء غير فرسه، فكنت أخدمه خدمة البيتكله، وأعلف فرسه، وأسوسه وأكفيه مئونته، وأحشُّ له وأقوم عليه، وأدق النوى لناضحه (إبله)، وكنت أنقل النوى على رأسي من أرض الزبير، على ثلثي فرسخ، وكنت أعجن وأسقيالماء، وأخزر الدلو.
ولم تطلالمدة حتى انتشرت دعوة الإسلام، وفاض الخير على المسلمين، وكان للزبير -فيما له- ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، وتمت كلمة ربك على المؤمنين بما صبروا، وصدق الله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِيالدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [النحل: 41].
أسمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــاءالأم
ظل المسلمون بعدالهجرة بمدة لا يولد لهم ولد، وأشاع اليهود أنهم سحروهم فلن ينجبوا، حتى كذبهمالقدر، فولدت أسماء ابنها "عبد الله"، فكان أول مولود في المدينة، فاستبشر المسلمونوكبَّروا، وولدت بعد ذلك "عروة" و"المنذر"، وما منهم إلا عالم أو فارس، على أنموقفها مع ابنها عبد الله هو الذي جعل التاريخ يصغي لها سمعه، ويكتبها في سجلالأمهات الخالدات.
محنةابنها عبد الله بن الزبير
بعد وفاة يزيد بن معاوية بويع لعبد الله بن الزبير بالخلافة في معظمبلاد الشام: في الحجاز، واليمن، والعراق وخراسان، وظل تسع سنوات ينادى بأميرالمؤمنين، حتى شاءت الأقدار -لحظ بني أمية- أن تزول الخلافة من أرضالحجاز.جاء الحجاج بجند الشامفحاصر ابن الزبير في مكة، وطال المدى، واشتد الحصار، وتفرق عنه أكثر من كان معه،فدخل عبد الله على أمه قبل قتله بعشرة أيام، فقال لها: إن في الموت لراحة. قالت: لعلك تمنيته لي؟ ما أحب أن أموت حتى يأتي على أحد طرفيك: إما قتلت فأحتسبك، وإماظفرت فتقر عيني. فلما كان اليوم الذي قُتل فيه دخل عليها حين رأى من الناس ما رأىمن خذلانه، فقال لها: يا أماه، خذلني الناس حتى ولداي وأهلي، فلم يبق معي إلااليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا،فماذا ترين؟
وهناك أمسكالتاريخ بقلمه ليكتب موقف الأم الصبور من ابنها وفلذة كبدها، من لحظة حاسمة منلحظات الخلود: الأم التي شاب رأسها ولم يشب قلبها، وشاخ جسدها ولم يشخ إيمانها،وانحنى ظهرها ولكن عقلها ظل مستقيمًا مسددًا.. قالت أسماء: أنت والله يا بني أعلمبنفسك: إن كنت تعلم أنك على حق، وإليه تدعو، فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولاتمكن من رقبتك غلمان بني أمية يلعبون بها، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبدأنت! أهلكت نفسك، وأهلكت من قُتل معك، وإن قلت: كنت فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليسفعل الأحرار، ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا؟!.. القتلأحسن.قال: إني أخاف أن يُمَثِّلبي أهل الشام.قالت: إن الكبش لايؤلمه سلخه بعد ذبحه.
فدنا ابنالزبير فقبَّل رأسها وقال: هذا والله رأيي، والذي قمت به داعيًا إلى يومي هذا، ماركنت إلى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أنتستحل حرمه، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فزدتني بصيرة مع بصيرتي، فانظري يا أماهفإني مقتول من يومي هذا، فلا يشتد حزنك، وسلمي لأمر الله.
قالت: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيكحسنًا.
قال: جزاك الله خيرًا، فلاتدعي الدعاء لي قبل وبعد.قالت: لا أدعه أبدًا، فمن قتل على باطل فقد قُتِلتُ على حق. ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك الظمأ في هواجر المدينة ومكة،وبرَّه بأبيه وبي، اللهم قد سلَّمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت فأثبني في عبد اللهثواب الصابرين الشاكرين. وذهب عبد الله فقاتل الساعات الأخيرة قتال الأبطال، وهويتمثَّل صورة أمه في عينيه، وصوتها في أذنيه، مرتجزًامنشدًا:
أسماء يا أسماء لاتبكنيلم يبق إلا حسبيودينيوصارم لأنت بـهيمينيوما زال على ثباته حتىقُتل، فكبر أهل الشام لمقتله، فبلغ ذلك ابن عمر فقال: الذين كبروا لمولده خير منالذين كبروا لموته.
معالحجــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــاج
صلب الحجاج عبدالله بن الزبير مبالغة في التشفي والإرهاب، ثم أرسل إلى أمه أسماء فأبت أن تأتيه،فأعاد إليها الرسول: لتأتينني أو لأبعثنّ إليك من يسحبك من قرونك. فأبت وقالت: والله لا آتيه حتى يبعث إليَّ من يسحبني بقروني.
فما كان من الحجاج إلا أن رضخ لصلابتها، وانطلق حتى دخلعليها، فقال: أرأيت كيف نصر الله الحق وأظهره؟
قالت: ربما أُديل الباطل على الحق وأهاه.
قال: كيف رأيتني صنعت بعدو الله.
قالت: أراك أفسدت على ابني دنياه، وأفسد عليكآخرتك.
قال: إن ابنك ألحد في هذاالبيت، وقد قال الله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]، وقد أذاقه الله ذاك العذابالأليم.قالت: كذبت! كان أولمولود ولد في الإسلام بالمدينة، وسر به رسول الله وحنَّكه بيده، وكبَّر المسلمونيومئذ حتى ارتجت المدينة فرحًا به، وكان برًّا بأبويه صوامًا قوامًا بكتاب الله،معظمًا لحرم الله، مبغضًا لمن يعصي الله، أما إن رسول الله حدثني أن في ثقيفكذَّبًا ومبيرًا، فأما الكذاب فقد رأيناه (تعني المختار بن عبيد الثقفي)، وأماالمبير فلا أخالك إلا إياه.فخرج الحجاج من عندها منكسرًا يتمنى لو لم يكن لقيها، بعد أن دخل عليهامزهوًّا يريد أن يتشفَّى.هذهأسماء العجوز في سن المائة، وهذا هو الحجاج الجبار في أوج انتصاره وعنفوان طغيانه. إن الإيمان في قلبها جعله في عينها يتضاءل ويتضاءل حتى صار شيئًا صغيرًا كالهباء،وجعلها في عينه تمتد وتستطيل حتى صارت شيئًا كبيرًا كالماردالعملاق.وبلغ عبد الملك بنمروان ما صنع الحجاج مع أسماء فكتب إليه يستنكر فعله، ويقول: ما لك وابنة الرجلالصالح؟ وأوصاه بها خيرًا. ودخل عليها الحجاج فقال: يا أماه، إن أمير المؤمنينأوصاني بك فهل لك من حاجة؟
قالت: لست لك بأم، إنما أنا أم المصلوب على الثنية، وما لي منحاجة.
وأخـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــيرًا..
آنللفارس المصلوب أن يترجل، وينزل من فوق خشبته ويسلَّم إلى أمه فتحنّطه وتكفنه وتصليعليه وتودعه جوف الثرى، ليلتقي في دار الخلود بأبيه الزبير وجده أبي بكر، وجدتهصفية، وخالته عائشة،

وهكذااستقبلت المصيبة الكبيرة بنفس أكبر، وإيمان أقوى!!

دخل عليها عبد الله بن عمر، وابنها مصلوب. فقال لها: إنهذا الجسد ليس بشيء، وإنما الأرواح عند الله، فاتقي الله واصبري.


ما هي حقيقة المعجزات الحسية التي جرت أثناء الهجرة النبويةالشريفة؟
حيث إن الله أعمى أبصار المشركين الواقفين حول بيت النبي ـ صلى الله عليهوسلم ـ ليلة الهجرة حتى خرج من بينهم سالمًا، وإن العنكبوت نَسَجَتْ على الغار فلميستطيعوا رؤيته؟ فهل هذا صحيح؟وقد أجاب فضيلة الدكتور يوسف القرضاويقائلاً:
بسم الله،والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
الناس في هذه القضية - قضية المعجزات المحمدية المادية - أصناف ثلاثة:
فالصنف الأول: يبالغ في الإثبات، وسنده في ذلك ما حوته الكتب، أيًا كانت هذه الكتب سواء كانتللمتقدمين أو المتأخرين، وسواء كانت تعني بتمحيص الروايات أم لا تعني، وسواء وافقذلك الأصول أم خالفها، وسواء قبله المحققون من العلماء أم رفضوه. المهم أن يروي ذلكفي كتاب وإن لم يعرف صاحبه، أو يذكر في قصيدة من قصائد المدائح النبوية، أو في قصة " مولد " التي يُتلى بعضها في شهر ربيع الأول من كل عام، أو نحوذلك.
وهذه عقلية عاميةلا تستحق أن تناقش، فالكتب فيها الغثّ والسمين، والمقبول والمردود، والصحيحوالمختلق الموضوع.وقدابتليت ثقافتنا الدينية بهؤلاء المؤلفين الذين يتتبعون " الغرائب " ويحشون " بهابطون الكتب، وإن خالفت صحيح المنقول، وصريحالمعقول.
وبعضالمؤلفين، لا يعني بصحة ما يروي من هذه الأمور، على أساس أنها لا يترتب عليها حكمشرعي، من تحليل أو تحريم أو غير ذلك. ولهذا إذا رووا في الحلال والحرام تشددوا فيالأسانيد، ونقدوا الرواة، ومحصوا المرويات . فأما إذا رووا في الفضائل والترغيبوالترهيب . ومثلها المعجزات ونحوها، تساهلواوتسامحوا.
ومؤلفونآخرون، كانوا يذكرون الروايات بأسانيدها، فلان عن فلان عن فلان - ولكنهم لا يذكرونقيمة هذه الأسانيد: أهي صحيحة أم غير صحيحة ؟ وما قيمة رواتها : أهم ثقات مقبولونأم ضعاف مجروحون، أم كذابون مردودون ؟ معتمدين على أنهم إذا ذكروا السند فقد أبرأواأنفسهم من التبعة، وخلوا من العهدة.
غير أن هذا كان صالحًا وكافيًا بالنسبة للعلماء في العصورالأولى، أما في العصور المتأخرة - وفي عصرنا خاصة - فلم يعد يعني ذكر السند شيئًا . وأصبح الناس يعتمدون على النقل من الكتب، دون أي نظر إلىالسند.
وهذا هو موقفجمهرة الكتاب والمؤلفين في عصرنا، حين ينقلون من تاريخ الطبري، أو طبقات ابن سعد أوغيرها .يبالغ في النفي والإنكار للمعجزات والآيات الحسية الكونية ، وعمدته في ذلك : أن معجزة محمد - صلى الله عليه وسلم - هي القرآن الكريم وهو الذي وقع به التحدي: أنيأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة منمثله.
ولما طلبالمشركون من الرسول بعض الآيات الكونية تصديقًا له، نزلت آيات القرآن تحمل الرفضالقاطع لإجابة طلباتهم . كما في قوله تعالى: (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا منالأرض ينبوعًا . أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرًا . أوتسقط السماء كما زعمت علينا كسفًا وتأتي بالله والملائكة قبيلاً . أو يكون لك بيتمن زخرف أو ترقي في السماء . ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابًا نقرؤه، قل: سبحان ربي، هل كنت إلا بشرًا رسولاً ؟) . سورة الإسراء 90 – 93.وفي موضعآخر، ذكر المانع من إرسال الآيات الكونية التي يقترحونها فقال: )وما منعنا أن نرسلبالآيات إلا أن كذب بها الأولون، وآتينا ثمود الناقة مبصرة، فظلموا بها، وما نرسلبالآيات إلا تخويفًا) . (سورة الإسراء( 59 :وفي سورة أخرى، رد على طلب الآيات بأن القرآن وحده كاف كلالكفاية ليكون آية لمحمد - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى ) :أو لم يكفهم أناأنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ؟ إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) . (سورةالعنكبوت(51:وقداقتضت الحكمة الإلهية أن تكون معجزة محمد - صلى الله عليه وسلم - معجزة عقليةأدبية، لا حسية مادية، وذلك لتكون أليق بالبشرية بعد أن تجاوزت مراحل طفولتها،ولتكون أليق بطبيعة الرسالة الخاتمة الخالدة . فالمعجزات الحسية تنتهي بمجرد وقوعها . أما العقلية فتبقى.
وقد أيد ذلك ما جاء في صحيح البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلمقال: " ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر،وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يومالقيامة ".ويبدو ليأن مما دفع هذا الصنف إلى هذا الموقف أمرين:
أولاً : افتتان الناس في عصرنا بالعلوم الكونية، القائمةعلى ثبات الأسباب، ولزوم تأثيرها في مسبباتها، حتى ظن بعض الناس أنه لزوم عقلي لايتخلف في حال، فالنار لابد أن تحرق، والسكين لابد أن تقطع، والجماد لا يمكن أنينقلب إلى حيوان، والميت لا يمكن أن يرجع إلى الحياة ... إلخ.
الثاني : غلوالصنف الأول في إثبات الخوارق، بالحق والباطل، إلى حد يكاد يلغي قانون الأسبابوالسنن، التي أقام الله عليها هذا العالم . وكثيرًا ما يقاوم الغلو بغلومثله.وهنا يظهر الرأيالوسط بين المبالغين في الإثبات، والمغالين في الإنكار . وهو الرأي الذي أرجحهوأتبناه. وخلاصة هذا الرأي:
-1-
أن القرآن الكريم هو الآية الكبرى، والمعجزة الأولى، لرسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي تحدّى به العرب خاصة، والخلق عامة . وبه تميزت نبوةمحمد على غيرها من النبوات السابقة، فالدليل على صدق نبوته هو نفس موضوع رسالته ؛وهو كتابه المعجز بهدايته وبعلومه، وبإعجازه اللفظي والمعنوي، وبإتيانه بالغيب : ماضيه وحاضره ومستقبله.-2 أن الله تعالى أكرم خاتم رسله بآيات كونية جمة، وخوارق حسية عديدة،ولكن لم يقصد بها التحدي، أعني إقامة الحجة بها على صدق نبوته ورسالته . بل كانتتكريمًا من الله له، أو رحمة منه تعالى به، وتأييدًا له، وعناية به وبمن آمن معه فيالشدائد؛ فلم تحدث هذه الخوارق استجابة لطلب الكافرين، بل رحمة وكرامة من اللهلرسوله والمؤمنين، وذلك مثل " الإسراء " الذي ثبت بصريح القرآن، والمعراج الذي أشارإليه القرآن، وجاءت به الأحاديث الصحيحة، ونزول الملائكة تثبيتًا ونصرة للذين آمنوافي غزوة بدر، وإنزال الأمطار لإسقائهم فيها وتطهيرهم، وتثبيت أقدامهم، على حين لميصب المشركين من ذلك شيء وهم بالقرب منهم . وحماية الله لرسوله وصاحبه في الغار يومالهجرة، رغم وصول المشركين إليه، حتى لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآهما ، وغير ذلك مماهو ثابت بنص القرآن الكريم.ومثل ذلك إشباع العدد الكثير من الطعام القليل في غزوة الأحزاب، وفيغزوة تبوك.
3إننا لانثبت من هذا النوع من الخوارق إلا ما نطق به القرآن، أو جاءت به السنة الصحيحةالثابتة . وما عدا ذلك مما انتفخت به بطون الكتب، فلا نقبله، ولا نعبأبه.
فمن الصحيحالثابت:
أ) ما رواه جماعة منالصحابة من حنين الجذع الذي كان يخطب عليه - صلى الله عليه وسلم - أول الأمر، فلماصنع له المنبر، وقام عليه للخطبة، سمع للجذع صوت كحنين الناقة إلى ولدها، فأتاهالنبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده عليهفسكت.قال العلامة تاجالدين السبكي : حنين الجذع متواتر، لأنه ورد عن جماعة من الصحابة، إلى نحو العشرين،من طرق صحيحة كثيرة تفيد القطع بوقوعه . وكذلك قال القاضي عياض في الشفاء: إنهمتواتر.
ب) ما رواهالبخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن والمسانيد عن جماعة من الصحابة، من إفاضةالماء بغير الطرق المعتادة، وذلك في غزواته وأسفاره - صلى الله عليه وسلم - مثلغزوة الحديبية، وغزوة تبوك وغيرهما.
روى الشيخان عن أنس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا بالزوراء فدعا بقدح فيه ماء، فوضع كفه فيه، فجعل الماء ينبع من بينأصابعه، وأطراف أصابعه، فتوضأ أصحابه بهجميعًا.
وروى البخاريعن البراء بن عازب أنهم كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية أربععشرة مائة ( أي 1400) وأنهم نزحوا بئر الحديبية فلم يتركوا فيها قطرة، فبلغ ذلكالنبي صلى الله عليه وسالم فأتاها، فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء، فتوضأ،ثم تمضمض ودعا، ثم صبه فيها . قال : فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا )سقتناوروتنا( ماشيتنا نحن وركابنا.والأحاديث في إجراء الماء له - صلى الله عليه وسلم - كثيرة مستفيضة،ومروية بأصح الطرق.جـ)ما حفلت به كتب السنة من استجابة الله تعالى لدعاء النبي - صلى اللهعليه وسلم - في مواضع يصعب حصرها، مثل دعائه بإنزال المطر . ودعائه يوم بدر بالنصر،ودعائه لابن عباس بالفقه في الدين، ودعائه لأنس بكثرة الولد، وطول العمر، ودعائهعلى بعض من آذاه .. إلخ.
د ) ما صح من الأنباء بمغيبات وقت كما أخبر بها - صلى الله عليه وسلم -، بعضها في حياته، وبعضها بعد وفاته، مثل فتح بلاد اليمن وبصرى وفارس، وقولهلعمار: " تقتلك الفئة الباغية " وقوله عن الحسن : إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله بهبين فئتين من المسلمين ... إلخ . ومثل إخباره بفتح القسطنطينيةوغيرها.
ونكتفي هنابما اشتهر من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين اختفى في الغار عند الهجرة منالمدينة، جاءت حمامتان فباضتا على فم الغار كما أن شجرة نبتت ونمت فغطت مدخل الغار . فهذا ما لم يجئ به حديث صحيح، ولا حسن، ولاضعيف.أما نسجالعنكبوت على الغار فقد جاءت به رواية حسنها بعض العلماء، وضعفها آخرون .
وظاهر القرآن يدلعلى أن الله تعالى أيد رسوله يوم الهجرة بجنود غير مرئية كما قال تعالى: (فأنزلالله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها) والعنكبوت والحمام جنود مرئية ولاشك والنصربجنود غير مشاهدة ولا محسة أدل على القهر






الخاتـمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــة:

هل الهجرة كانت أمرًا خاصًا برسول الله صلى اللهعليه وسلم ،أم هاجر غيره من الأنبياء؟.

بسمالله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،وبعد:
فلم تكن الهجرة خاصةبرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هاجر عدد من أنبياء الله تعالى ، ولكن اختلفتهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم عن هجرة الأنبياء، ، فلم يكن الهدف منها فرارًا منالعذاب، ولكن كان الهدف منها إقامة دولة الإسلام ، من خلال هذه الهجرةالمباركة.
وفي ذلكيقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي:
لقد هاجر رسل الله عامة أو عدد كبير منهم ، ولكن لم تكنهجرتهم مثل هجرة محمد عليه الصلاة والسلام ، هاجر إبراهيم، قال الله تعالى: (فآمنله لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم) ، وفي آية أخرىوقال إني ذاهب إلىربي سيهدين) فخرج من بلد إلى بلد إلى أن استقر به المقام في فلسطين، وفي المدينةالتي دفن فيها وسميت باسمه -عليه الصلاة والسلام- مدينة الخليل إبراهيم .
وهاجر موسى عليهالسلام ، ولكن كانت هجرته قبل البعثة حينما خرج من مصر بعد أن قتل ذلك القبطي خطأواستغفر الله وقال له من قال (إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك منالناصحين ، فخرج منها خائفاً يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين)، وذهب إلى مدينوتزوج فيها وعاش فيها عشر سنوات مع ذلك الشيخ الكبير بعد أن تزوج ابنته، ولم يكن لهفي هذه المدة- السنوات العشر- عمل يذكر، كان شاباً صالحاً، وزوجاً طيباً، و صهراًكريماً، عاش مع هذا الرجل عشر سنوات ولكن لم يقم فيها بدور .
ولم تكن هجرة محمدعليه الصلاة والسلام كهجرة موسى حينما قال (ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكمًاوجعلني من المرسلين) ، لم تكن هجرة محمد عليه الصلاة والسلام لمجرد الفرار منالفتنة أو الهرب من الإيذاء والتضييق ، لا ، لقد كانت الهجرة سعياً حثيثاً لإقامةمجتمع جديد ، مجتمع إسلامي بمعنى الكلمة ، كانت سعياً لإقامة مجتمع وبناء أمة،وإنشاء دولة جديدة تقوم على الربانية والإنسانية والأخلاقية والعالمية، كان هذا هوهدف محمد عليه الصلاة والسلام من هذه الهجرة ، وفعلاً استطاع أن يقيم هذه الدولة،وأن يؤسس هذا المجتمع، وينشئ هذه الأمة الجديدة خير أمة أخرجتللناس.انتهى
والخلاصة أن عددًا من أنبياء الله هاجروا، ولكن كان لهجرة النبي صلىالله عليه وسلم سمات خاصة، فلم يكن الهدف منها فرارًا من العذاب، ولكن كان الهدفمنها إقامة دولة الإسلام ، من خلال هذه الهجرة المباركة
.
__________________
حملناك يا مصر بين الحنايا وبين الضلوع وفوق الجبين
عشقناك صدرا رعانا بدفء وإن طال فينا زمان الحنين
فلا تحزني من زمان جحود أذقناك في هموم السنين
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 05-12-2010, 12:33 PM
الصورة الرمزية amira elnaggar
amira elnaggar amira elnaggar غير متواجد حالياً
عضو قدوة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2010
العمر: 27
المشاركات: 2,012
معدل تقييم المستوى: 17
amira elnaggar is on a distinguished road
افتراضي

جزاك الله خيرا
__________________
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 05-12-2010, 02:15 PM
أبو إسراء A أبو إسراء A غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Mar 2009
المشاركات: 6,315
معدل تقييم المستوى: 23
أبو إسراء A is a jewel in the rough
افتراضي

جزاك الله خيرا
__________________
المستمع للقرآن كالقارئ ، فلا تحرم نفسك أخى المسلم من سماع القرآن .

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 05-12-2010, 07:52 PM
الصورة الرمزية MR.Mamdouh Ramadan
MR.Mamdouh Ramadan MR.Mamdouh Ramadan غير متواجد حالياً
معلم أول أ اعدادي ثانوي لغة انجليزية
 
تاريخ التسجيل: Dec 2008
المشاركات: 4,948
معدل تقييم المستوى: 21
MR.Mamdouh Ramadan has a spectacular aura about
افتراضي

جزاكِ الله خير
__________________
(اللهم أحسن خاتمتنا وتولنا برحمتك يا أرحم الراحمين‎ )
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 02:39 AM.