#1
|
||||
|
||||
![]() إنجازات المسلمين في مجال الطب
(التشريح والجراحة) د. عبدالله حجازي مِن الإنجازات المتميِّزة التي كان للأطباء في العهود الإسلامية الزاهرة مُساهمات كبيرة فيها إنجازات في عِلمَي التشريح والجراحة، أما في عِلم التشريح فقد كانت مُساهماتهم أنهم صنَّفوا ورتَّبوا تأليف جالينوس بطريقة منطقية واضحة، وجعلوا فهمها يسيرًا، والمتتبِّع لكتُب الأطباء الكبار مِن المسلمين يجد أنهم لم يَتبعوا تعاليم غيرهم هكذا دون تفحُّص وتمعُّن، بل درسوها وما وافق الصواب أخذوا به وما خالَفه رفَضوه. كل ذلك في ضوء خبراتهم الشخصية في التشريح، وحسبنا أن نَستشهد في هذا الصدد بابن النفيس والبغدادي (ت629هـ/ 1231م)، أما ابن النفيس، فقد كان يُجاهر بأنه لا يقوم بتشريح الجثث استجابة لتعاليم الشريعة، ومع هذا يقول في كتابه: "شرح تشريح القانون" في نقْد جالينوس وابن سينا: "والتشريح يكذبهما"، وقد تسنى له في ضوء خبراته في هذا المجال أن يَكشف لأول مرة في تاريخ الطب الدورة الدموية الرئوية، وعنه أخذها سرفيتوس servctus المقتول عام 960هـ/ 1553م، وريالدوكوموميو، وسيزاليبنو، ثم وليم هارفي ممن يُعزى إليهم كشف الدورة الدموية زورًا[1]. أما عبداللطيف البغدادي، فقد صرَّح في كتابه: "الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعايَنة بأرض مصر" بأنه وجد تلاًّ مِن الهياكل البشرية في إحدى المقابر: ((... فشاهدنا مِن شكل العظام ومفاصلها وكيفية اتصالها وتناسبها، وأوضاعها ما أخذْنا عِلمًا لا نستفيده مِن الكتُب، والحسُّ أقوى دليلاً من السمع؛ فإن جالينوس، وإن كان في الدرجة العُليا من التحري والتحفظ فيما يُباشره ويحكيه، فإن الحس أصدق منه، فمِن ذلك عظْم الفك الأسفل، فإن الكل قد أطبقوا على أنه عظمان بمفصل وثيق عند الحنَك، وقولنا الكل إنما نَعني به ها هنا جالينوس وحده، فإنه باشر التشريح بنفسه، وجعله دأبه ونصب عينَيه، وصنف فيه عدة كتب معظمها موجود لدينا، والذي شاهدناه مِن حال هذا العضو أنه عظْم واحد ليس فيه مَفصِل ولا درز أصلاً، واعتبرناه ما شاء الله مِن المرَّات في أشخاص كثيرة تَزيد على ألفَي جمجمة بأصناف مِن الاعتبارات، فلم نجده إلا عظْمًا واحدًا من كل وجه". وإذا كان الأطباء في العصور الإسلامية الزاهرة لم يُشرِّحوا الجثث البشرية، أو شرَّحوا القليل منها، فقد توسَّعوا في تشريح الحيوانات، ودرسوا بعض الأعضاء؛ كالقلب، والعينَين، والكبد درسًا دقيقًا. فابن النفيس كان يَنصح بدرس التشريح المُقابِل لفهم التشريح البشري، وهو الذي يردُّ على مَن سبقه في مسألة بطون القلب: "... كلام لا يَصحُّ؛ فإن القلب له بَطنان فقط، أحدهما مملوء مِن الدم وهو الأيمن، والآخر مملوء مِن الروح وهو الأيسر، ولا منفذ بين هذَين البطنين ألبتَّة، وإلا كان الدم ينفذ إلى موضع الروح، فيُفسد جوهرها، والتشريح يُكذِّب ما قالوه". ويذكر ابن أبي أصيبعة أن يوحنا بن ماسويه شَرَّح قِردًا كبيرًا، وكتب عما رآه كتابًا استحسنه أعداؤه فضلاً عن أصدقائه. ولقد ألحَّ الزهراوي (ت 427هـ/ 1036م) على درس التشريح؛ لأنه ضروري للجراحة، ومِن طريف المفارقات أن يكون هذا هو حال التشريح عند المسلمين، في الوقت الذي رأت فيه أوروبا أن فنَّ التشريح امتهانٌ للجسم الذي خلقه الله، وإن أول عملية تشريح أُجريَت في أوروبا كانت في باريس عام 883هـ/ 1478م، أو 900هـ/ 1494م؛ أي: بعد وفاة ابن النفيس بنحو مائتي سنة، وبعد وفاة الزهراوي بأكثر مِن أربعة قرون ونصف. وفي ظل التشريح تقدَّمت الجراحة التي غدَت في بلاد المسلمين فنًّا وعلمًا ذا أصول وقواعد، لقد ارتفع علم الجراحة على أيدي المسلمين فوق مستوى الأدعياء والمُشعوِذين والجهلة، وبلَغ هذا العلم ذروته عن طريق الطبيب المسلم أبي القاسم الزهراوي - انظر ترجمته - الذي اشتهر بكتابه "التصريف لمن عجز عن التأليف"، وبخاصه المقالة الأخيرة التي يَبحث فيها الجراحة وآلاتها، وهي من الإبداع والجِدة بحيث جعلت أبا القاسم في مقدمة الأطباء العالَميِّين في القرون الوسطى، فمنذ أشار فيها إلى أهمية التشريح للجراحة، ووصف في إسهاب كثيرًا مِن الجراحات، وزوَّدها برسوم للآلات الجراحية - أكثر من مائتي آلة جراحية - وبوصف لعملها، وهي في مجملها مِن تصميمه وابتكاره، قد قام باستعمالها في عملياته الجراحية، وقد كان لهذه الآلات والأدوات تأثيرٌ كبير على غيره من المؤلِّفين المسلمين، كما ساعدت هذه الآلات في وضع أسُس الجراحة في أوروبا؛ حيث لم يكن يُستعمَل في أوروبا إلا الكيُّ، الذي أخذوه عن المسلمين أيضًا. وقد ترجم جيرارد الكريموني المقالة المتعلِّقة بالجراحة، وطُبعت ترجمته الكاملة باللاتينية عام 925هـ/ 1519م، وطُبع القسم الجراحيُّ منه باللغة العِبرية مع ترجمة لاتينية عام 1192هـ/ 1778م، وصادف الكتاب - بجملته - تقديرًا عظيمًا في أوروبا، وانتشرت المقالة المتعلِّقة بالجراحة بخاصة انتشارًا واسعًا، وجذبت إليها الاهتمام في الجراحة أكثر مما اجتذبته جراحة الأطباء الثلاثة المشهورين: الرازي، والمجوسي، وابن سينا، وبعد أن كانت الجراحة محتقرة في أوروبا، والجَرَّاحون أنجاسًا، وبعد أن تحاشَت المدارس الطبية الأوروبيَّة تعليم الجراحة نحو أربعة قرون استمرت حتى القرن الخامس عشر الميلادي؛ لأنها لا تَليق بالأطباء المُحترَمين، وذلك بأمر مِن المجلس الباباوي، بعد هذا العداء الشديد، وبعد الاطلاع على ترجمة كتاب الزهراوي، غدَت الجامعات في أوروبا تُعوِّل على ما جاء في هذا الكتاب حتى مَطالع العصر الحديث، ولا سيما على القسم الجراحي منه؛ إذ كان مرجعًا في جامعات سالرنو ومونبلييه وغيرهما. ونقَل عنه معظم جَراحي أوروبا، ولا سيما غي دي شولياك (Guy de Chauline ت 771هـ/ 1369م)، الذي استشهد في كتابه "الجراحة الكبرى" بأقوال أبي القاسم الزهراوي أكثر مِن مائتي مرة. وقد أشار الزهراوي إلى أهميَّة الكيِّ، وتوسَّع في استعماله في فتح الخُراجات واستئصال السرطان، وفضَّله على استعمال المشرط، مخالفًا بذلك تعاليم اليونان، ويذهب خير الله إلى الاعتقاد بأن استعمال الكي خير الوسائل الجراحية لفتح الخُراجات. وقد التزم الأطباء المسلمون بميثاق أخلاقي - تلقَّاه الأطباء عن أبقراط أبي الطب القديم - تعيَّن على الطبيب بمقتضاه أن يَكتم أسرار مرضاه، ويؤثِر علاج الفقراء على الأغنياء ولو كان بغير أجر، ويُخلص في علاج مرضاه ولو كانوا من أعدائه، ويَمتنع عن وصف دواء قاتل، أو تقديم عقار يُسقِط الأجنة... إلخ. المصدر: لمحات في تاريخ العلوم الكونية عند المسلمين [1] تتبع قصة هذا الكشف العلمي في كتاب "ابن النفيس" بقلم د/ بول غليونجي، الدار المصرية للتأليف والترجمة، إعلام العرب 57، ص109 وما بعدها. |
العلامات المرجعية |
|
|