|
محمد ﷺ نبينا .. للخير ينادينا سيرة سيد البشر بكل لغات العالم |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() خبر الإفك
د. محمد منير الجنباز ملخص الخبر: في غزوة بني المصطلق الظافرة، عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة محملًا بالغنائم وأسرى بني المصطلق، وفي الطريق كان ينزل منازل للمبيت، وفي إحدى هذه المنازل خرجت عائشة رضي الله عنها، لقضاء حاجتها ليلًا، وعندما عادت إلى رحلها، التمست عقدًا في رقبتها فلم تجده - وكان أثيرًا عندها - فعادت إلى مكان قضاء الحاجة تبحث عنه، وعادة يكون المكان بعيدًا نوعًا ما عن مكان تخييم الجيش، وفي هذه الأثناء بعد صلاة الفجر نودي بالرحيل، فرحل الجيش، وحمل المكلفون بهودج عائشة الهودج على الجمل دون أن يعلموا بأنها ليست فيه، وكانت وقتها وهي نحيفة خفيفة الوزن، ولم تتجاوز الخامسة عشرة سنة، فلما عادت وجد الناس قد رحلوا، فتلفعت بعباءتها وجلست في مكانها تنتظر، فإذا افتقدوها رجعوا إلى المكان نفسه، ولكن كان للجيش من يمسح الأرض على ضوء النهار يجمع ما يتسنَّى من متاع بعض الجند، وكان صفوان بن المعطل، فوجد سوادًا في المخيم فاقترب، فإذا بعائشة، فأدرك أنها تأخرت لأمر ما، فقرب إليها بعيره وقال: اركبي، فركبت البعير وساق بها حتى ألحقها بالجيش ظهرًا، فلما رآه المنافقون اتهموها به وأشاعوا هذه الفرية. وقد سماها الله تعالى في كتابه الكريم بالإفك، فما معنى الإفك؟ الإفك هو من أشد أنواع الكذب الذي يُرمى به بريء بأنه فعل أمرًا منكرًا لم يكن قد فعله، بينما الكذب في العادة أخفُّ من هذا، فقد تسأل إنسان عن طعام أكله فينكر أنه قد أكله، أو عن شيء شاهده فينكر أنه قد شاهده، هذا هو الكذب، أما أن يُتهم إنسان بأنه زنى أو سرق أو *** وهو لم يفعل ذلك، فهذا هو الإفك، فالافتراء على الناس بتهم باطلة هو الإفك، وقد توعد الله الأفاك، فقال: ﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴾ [الجاثية: 7]. إنَّ من أشد ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة من الكرب والضيق والحرج؛ هو ما أُشيعَ عن عائشة رضي الله عنها من الإفك، فقد كانت تهمة فظيعة حاكها المنافقون وأصحاب القلوب المريضة للكيد للنبي صلى الله عليه وسلم في زوجه عائشة الحبيبة والأثيرة عنده، ولتشويه سمعة بنت أقرب أصحابه إليه أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وإنَّ مما زاد في هذه الشِّدة انقطاع الوحي لأكثر من عشرين يومًا، والألسنة تلوك وتخوض في هذا الأمر حتى فشا، فما من بيت في المدينة إلا وبلغه هذا الإفك، فمنهم من يُضخم الحدث ومنهم من يكتفي بالصمت، وقليل منهم من أنكر وكذبَ هذه الفِرية، أو جاهر بالحق بمقدار ما جاهر أهل الباطل بباطلهم، فكان صوت الكذب والنفاق أعلى، وما ذلك إلا لصمت أهل الحق، الذين كانوا منكرين في أعماق أنفسهم دون الوصول إلى مرحلة الجهر، وربما يرجع هذا الخفوت إلى درجة غير عالية من اليقين، ولهذا علا صوت الباطل دون أن يجد صوتًا مضادًّا أقوى، وهذا دأب أهل الباطل الذين يريدون تحقيق أغراضهم بالصياح والضجيج، والمكاء والتصدية، مستخدمين كل الوسائل المتاحة للترويج لباطلهم. فما روي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عندما كلَّمته زوجته أم أيوب بهذا الأمر، أنه قال لها: لو كنت أنتِ أتفعلين هذا؟ قال: لا، قال: فعائشة والله خيرٌ منك، فأقنعها بأن هذا الأمر كذب، ولكن أين صوتُه وجهره؟ كان عليه هو وأمثاله أن تعلو أصواتهم وأن يشكلوا مجموعة تقف أمام هذه الفرية بقوة، لتخفت كل صوت نشاز، لأمر يريده الله، فكان خفوت الصوت من أهل الحق ليكون الدرس قاسيًا وتكون الاستفادة من هذا الموقف أرسخ ﴿ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [النور: 11]. وهناك أُناس من المسلمين الذين يعيرون آذانهم لكلِّ ناعق ويصدقون كلَّ فِرية، غير متثبتين من الأمر الذي صدقوه، بل أخذوه كما ورد، ثم نقلوه هم أيضًا عن حسن نية لغيرهم، فيكون أهل الباطل قد كسبوا شريحة من المسلمين لصفهم تشيع ما يشيعون من فتنة، مع اكتساب هؤلاء الناس الإثم، لقد نزلت آيات البراءة وانكشف الحق، وكان الدرس من الله تعالى لعباده بعد هذا الامتحان الطويل أرسخ في القلوب، فقد أتى عن درس عملي شاع واتسع ودخل كل بيت، فلا ينساه المسلمون بعد هذه الشدة التي أثرت في المجتمع صغارًا وكبارًا، وبين حقيقة أنَّه ما كلُّ ما يُشاع صدق، بل إن أكثر ما يرد وَفق هذه الطريقة هو الكذب، والرأي التثبُّت، فبمقدار ما تقلب الخبر وتنقل على مدى أكثر من عشرين يومًا بشدته وزعزعته للمجتمع الإسلامي كانت أهمية الدرس؛ لكيلا يعود المسلمون لمثله من انقسام الرأي على أمر هو من الأساس تلفيق وكذب؛ لأنه ضد أشرف خلق الله محمد صلى الله عليه وسلم، وضد الصدِّيقة ابنة الصِّدِّيق: ﴿ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا ﴾ [النور: 17]، وقد اتعظ من عاش الحدث من المسلمين، ونزلت آيات لِمَن خلفهم تُتلى إلى يوم القيامة؛ لتبقى العظة والحصانة للمسلمين في مثل هذه الأمور، ولكن هل اتعظ الخلف كما اتعظ السلف؟! وربما كان اتعاظ السلف أقوى لما مرَّ بهم من المحنة الشديدة التي عاشوها، فما للخلف لا يقتدون بسلفهم؟! أفلا يقرؤون الحدث؛ ليعيشوا ما عاشه السلف يوم أن وقع هذا الحدث؟ فيتمثلونه بساعاته ودقائقه وأيامه، ويعيدون المشهد؛ ليخرجوا بالنتيجة المرضية حصانة وقوةً تماسكًا، ومعرفة بالخصم وما يريد من المجتمع المسلم، فإذا ما وقفنا على هذا الحدث بتفاصيله، فإنه لا يمكن لعاقل أن يرمي بهذا الأمر أحدًا من الناس، ولا أن يُشيع شيئًا من ذلك؛ خصوصًا إذا ما وضع كلُّ إنسان نفسه في هذا الموضع؛ إذ ليس من أحد بمنأًى أن يصيبه مثل الذي أصاب عائشة رضي الله عنها، وأقلها أن يقول كما علمنا القرآن الكريم من هذا الدرس: ﴿ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 16]، وقد نبَّه القرآن إلى أهمية الدرس للتعلُّم والعظة، ولم يعده في الجملة لهذا السبب شرًّا، بل عدَّه خيرًا؛﴿ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [النور: 11]، لمن وعى الدرس، وعليه فالدرس بليغ، ليس فقط في حالة هذه الواقعة التي فيها تهمة الزنا - وهي أليمة - ولكن في كل أمر يؤدي إلى إشاعة الفوضى في المجتمع الإسلامي، فالمغرضون والمنافقون لهم أساليبهم في نشر الفوضى والشك بين المسلمين في كل أمر دقيقه وجليله، المهم عندهم أن يحققوا أغراضهم في رؤية المجتمع الإسلامي مشرذمًا ومفككًا بأُسَره وأفراده، وأنهم ليسوا على رأي واحد جامع، يحصل هذا في كل عصر، فالمنافقون لم يغيبوا، وهم موجودون في كل عصر من العصور، والمُشاهد أنهم قد ازدادوا، ففي هذا العصر على قد كثرت إشاعاتهم للفتنة وبلبلة الأفكار، نضرب مثلًا واحدًا هو من الواقع الذي نعيشه، وإلا فالأمثلة الأخطر كثيرة، فما يحصل في رمضان من إشاعة البلبلة في إثبات دخول هذا الشهر الفضيل، أو إثبات دخول شهر شوال في كل عام بلا استثناء، فإن كان شعبان تسعة وعشرين يومًا، ثم أُثبتَ رمضان، أشاع المغرضون أنَّ شعبان كان كاملًا، وأنَّ إثبات رمضان جاء في غير محله، وأن الناس قد صاموا الثلاثين من شعبان، وإن كان شعبان كاملًا وصام الناس الأول من رمضان، أشاعوا بأن الدراسات الفلكية أثبتت أنَّ شعبان تسعة وعشرون يومًا، وكذلك فعلوا مثل هذا في خروج رمضان، هذا الأمر سمعته على مدى أكثر من ثلاثين سنة، ويتكرر كلَّ عام، ويبدأ حديث الناس بالتشكيك في الشهر وصيامه في مجتمعاتهم وأنديتهم، هناك مغرضون دأبهم التشكيك والفوضى، وهناك أناس يذيعون الخبر من باب الحرص على صحة الصيام، ويبقى الأمر متداولًا حتى يخرج الشهر، وما ذلك إلا لبث الفرقة والتنافر والتعكير على المسلمين صفو العبادة، وتعلق القلب بها، ولما دخل الجوال والرسائل التي فيه زاد المنافقون في التشكيك، وساعدهم ضعاف الإيمان في نشر هذه الرسائل كأنما يبتغون في ذلك الأجر والثواب، وهم بذلك يزيدون في الفرقة والانقسام، وهم بهذا موزورون لا مأجورون، لكنْ لو حصل فعلًا أن أخطأ الرائي، وهذا يحصل، والبشر يخطئون ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]، فهل ستخرب الدنيا ويُدمرُ الكون؟ أبدًا فالدين يُسر، فقضاء هذا اليوم يسد ولا إثم في ذلك، لقد تراءى أهل المدينة هلال شوال، فلم يروه، ثم جاء ركب من آخر النهار، فشهِدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا هلال شوال بالأمس، فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يفطروا، وأن يخرجوا إلى عيدهم من الغد، وقال عبدالرحمن بن أبي ليلى: "كنتُ مع عمر رضي الله عنه، فأتاه رجل، فقال: إني رأيتُ هلال شوال، فقال عمر: يا أيها الناس أفطروا، ثم قام إلى عُسٍّ فتوضَّأ، ثم مسح على خُفيه، فقال الرجل: والله يا أمير المؤمنين، ما أتيتُكَ إلا لأسألكَ عن هذا، أفرأيتَ غيركَ فعلَه؟ فقال: نعم خيرًا مني وخير الأمة، رأيتُ أبا القاسم صلى الله عليه وسلم فعل مثل الذي فعلت". أيها المسلم، استفد من درس الإفك ولا تجعل للمغرضين ولا للشيطان عليك سبيلاً يلعب بك كيف يشاء، ويستخدمك لتكون معولًا تهدم كِيانك بنفسك، وما أشد على النفس من أنْ يهدم الإنسان ما بناه بيديه! الدروس المستفادة: • صِدْقُ النبي محمد صلى الله عليه وسلم في نبوّته؛ حيث ظل يعاني من هذا الأمر أكثر من عشرين يومًا، ويستخبر عن وضع عائشة ويشاور المقربين منه ومنها، والألسنة تلوك وتتكلم بالباطل، فلم يقل ببراءتها منذ بدء التهمة إلى أن جاءه الوحي بذلك. • صبر أبي بكر وأهله على ما ابتلوا به رغم شدّة وقْعه عليهم، فالتزموا الصمت مع الالتجاء إلى الله مفرِّج الكروب. • قوة عائشة رضي الله عنها في الحق. • موقف أسامة بن زيد كان أقوى من موقف علي بن أبي طالب تجاه عائشة، وكذلك ضربه لبريرة؛ لكي تقول الصدق - هذا إن صدق الخبر، وأشك في ذلك، إنما قول علي بأن النساء كثير، ربما كان لإنهاء المشكلة التي أقلقت رسول الله - لكن كما يروي أصحاب السير أن هذا الموقف لم تنسه عائشة. • النفاق متربص بالمسلمين، حاضرٌ معهم؛ ليستغل كل حدث أو هنةٍ لِيُسَعر الفتن، ويقلق راحة المسلمين فلا يهدأ لهم بالٌ، وهو أخطر على المسلمين من العدوِّ الصريح. • سمة المنافقين الكذب، فهو لباسهم وحليتهم التي يتجلببون بها، يكذبون ويحشدون أتباعهم؛ ليُروِّجوا بضاعتهم من الكذب؛ ليبلبلوا الرأي العام، ويزرعوا الشك في النفوس. • المنافقون يستهدفون بالفرية صالحي المسلمين والعاملين المخلصين؛ ليُشككوا المسلمين بهذه الرموز العاملة، ليعيش المسلمون في فراغ القيادة والتوجيه، وبالتالي يسهل على المنافق الدخول فيما بينهم لبث الفُرقة والانحراف العقدي. • كادت الفرقة أن تقع بين الأوس والخزرج من جديد بسبب رأس المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول، وهذا ما يريده المنافقون، الفتنة والنزاع، ثم إخراج المهاجرين من المدينة. • سلاح المؤمن الإيمان بالله تعالى إيمانًا لا شكَّ فيه، ثابت لا تُزعزعه الحوادث، ولا تقلُّبات الآراء، معينه فيَّاض، وجلبابه اليقين. • توظيف حادثة الإفك لصالح المسلمين من حيث: ♦ الظن الحسن بالمؤمنين، وعدم التصديق بما أُشيع عنهم من أمور منافية لسلوك المؤمن، وأن يقولوا: سبحانك هذا إفك مبين، فالمسلمون بعضهم يحفظ أعراضهم بعض. ♦ تهمة الزنا تحتاج لشهود أربعة، وإلا يُضرب مَن اتَّهم غيره من المسلمين بالحد، وهو ثمانون جلدة، مع عدم قبول شهادة المفتري إلا إذا تاب وحَسُنت توبتُه. ♦ أمسك الله العذاب عن أولئك الخائضين في الإفك؛ رحمةً منه، ولعدم وجود تجربة سابقة يستفاد منها؛ لذلك لم يدر كثير منهم ما يفعلونه تجاه هذه القضية. ♦ عاب الله على المسلمين الذين أخذوا الخبر ثم أذاعوه دون تمحيص؛ ﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 15]. ♦ علَّمنا ربنا أن نقول في مثل هذا الحدث: ﴿ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 16]، مع عدم الخوض في قادم الأيام بأن نتصرف مثل هذا التصرف في مثل هذا الحدث. ♦ الوعيد بالعذاب الأليم للمنافقين في الدنيا والآخرة، وللذين يفعلون مثل فعلهم، بأن ينشروا الفاحشة في المجتمع الإسلامي؛ قولًا، أو فعلًا، أوتهمًا لحرائر النساء. |
![]() |
العلامات المرجعية |
|
|