اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > مسك الكلام فى الاسلام > التاريخ والحضارة الإسلامية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 12-06-2015, 09:46 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
العمر: 61
المشاركات: 4,132
معدل تقييم المستوى: 15
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي الفتح الذي وحد جزيرة العرب

الفتح الذي وحد جزيرة العرب


محمد حنفي


يُعدُّ صلح الحُديبية، الذي عقد بين الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبين قريش في أواخر السنة السادسة الهجريَّة - أوَّلَ مِفتاح من مفاتيح هذا المعقل العتيد، فقد أعلنت قريش في ذلك استعدادَها للصلح، وأنَّه لا مانعَ من أنْ توقع معه عهدًا يستقر السلم بمقتضاه بينهما، بعد عجزها العجزَ التام في القضاءِ عليه وعلى دَعوته، وبعد أنْ باءت جميع مُحاولاتها التي بذلتها في سبيل ذلك بالفشل.
لقد ظلَّت أعوامًا طوالاً لا تعترف بالرسولِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا بِمَا جاء به، فدينه يُخالف دينها وعقائدها، وتقاليدَها وتقاليد آبائها، وما توارثته عن أجدادها، وهو قد قلب أوضاعها رأسًا على عقب؛ ولكنَّها ظلَّت على كِبريائها وتعاظُمها، تفتري على الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - الأكاذيب، وتنعته بما تشاء من الأوصاف التي تُحاول من ورائها أنْ تُشوِّه سُمعته ودَعوته بين العرب، فما عجزت بكُلِّ وَسائلها في القَضاء عليه وعلى دعوته، لم تر أن تنزله منها منزلة النِّدِّ من الند، وأنْ تصالحه، ولو إلى حين؛ حتَّى تضمن أنْ تعيشَ معه في سلام إلى حين.
ثُم كانت عمرة القضاء في العام التالي لصلح الحديبية المفتاحَ الثاني من مفاتيح هذا المعقل، فقد كان مظهر المسملين في هذه العُمرة، وهُم في توادِّهم وتراحُمهم، وفي حسن انقيادهم ودقة نظامهم، وفي ائتلافهم وتضامنهم، وفي صدق مَحبتهم وإخلاصهم لرسولهم - صلَّى الله عليه وسلَّم - وفي قُوَّة حَماسهم لدينهم، وشِدَّة تمسُّكهم بآدابه وتعاليمه، وفي بالغ تقديسهم للبيت الحرام، وتعظيم حرماته، وفى كلِّ ما يُؤدُّونه من شعائر هذه العُمرة - كان لمظهر المسلمين في كلِّ هذا أكبر الأثر في هَزِّ نفوس أهل مكة هزًّا عنيفًا، وفي لَمس مكان العقيدة من قلوبهم، فأخذوا ينظرون إلى المسلمين نظرة الإعجاب والتعظيم والإكبار، وينظرون إلى الإسلام نظرة التفكير والتأمُّل والتدبُّر، ويوازنون بين هذا الدِّين وبين ما هُم عليه من عقيدة لا يقرُّها عقل، وتقاليد لا يقبلها المنطق، ويُقارنون بين عبادة المسلمين التي تَمتاز بالروحانية والخضوع لله - عز وجل - وبين عبادتهم التي لا تستند إلى شيء، وليس لها أساس تقوم عليه، ومبناها على الشُّرب واللَّغو والخُرافات.
وعندما أمعنوا النظر في كل ما شاهدوه، رأَوا الفَرق الكبير، والمسافة البَعيدة بين دينهم ودين الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه، فرقَّت له قلوبهم واستعدت، واستراحت نفوسهم وتهيأت، فأسلمَ الذين استطاعوا الجهر بالإسلام، وأَسَرَّ الآخرون من المستضعفين اعتناقهم لهذا الدِّين، وكان الكثير منهم قد تهيَّأ بنفسه وقلبه لأَنْ يُسلم، ولكن منعته ظروف حائلة، ومصالح مستعجلة مُدة من الزمن، فكل ذلك أحدث تخلخلاً في دين أهل مكة الوثني أثناء عمرة القضاء، وكان هذا من الأسباب التي هيأها الله لفتح مكة.
نقض الصلح:
وشاءت إرادة الله - عزَّ وجلَّ - أن تزولَ بقية العقبات من طريق فتح "مكة"، فكان ما حدث في السنة الثامنة من الهجرة، من نقض قريش لصلح الحديبية.
لقد كانت هناك خُصومات ومُشاحنات قديمة بين قبيلتي "خزاعة" و"بني بكر"، ومن أيام الجاهلية؛ ولكن نار العَداوة بينهما خدمت بعد صلح الحديبية؛ لدخول "خزاعة" في عهد الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ودخول "بني بكر" في عهد "قريش"، فحل الأمان والسلم محل الحرب بين القبيلتين؛ ولكن حادثًا طرأ جعل الحرب تشتعل نارُها من جديد بينهما؛ ذلك أنَّ أحد أفراد قبيلة "بني بكر" وقف ذات يوم يهجو رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على مسمع من رجل خزاعي، فثارت ثائرته، وقام إليه وضربه، فأعلنت قبيلة "بني بكر" الحرب على خزاعة، وأخذت تتأهب للانتقام، وحرَّضهم على ذلك جماعة من "قريش"، منهم عكرمة بن أبي جهل، وبعض سادات قريش، وأمدُّوهم بالسِّلاح.
وفي ذات ليلة كانت "خزاعة" على ماء لها يُسمَّى "الوتير"، ففاجأتها قبيلة "بني بكر" ومن معها من "قريش"، فلجأت "خزاعة" إلى الحرم تحتمي به، ولكن ذلك لم يَمنع قبيلة "بني بكر" من مُقاتلتها في المسجد الحرام، فاستنصرت "خزاعة" برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وذهب وفدٌ منهم إلى "المدينة"، وعلى رأسه زعيمهم عمرو بن سالم، وأخبروا الرَّسول الكريم بما كان من أمر هذا الغدر الذي اشتركت فيه "قريش"، وكان مما قاله زعيمهم للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -:


يَا رَبِّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدَا

حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا




قَدْ كُنْتُمُ وُلْدًا وَكُنَّا وَالِدَا

ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا




فَانْصُرْ هَدَاك اللَّهُ نَصْرًا أَبَدَا

وَادْعُ عِبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا مَدَدَا





فقال له الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعيناه تدمعان: ((نصرت يا عمرو بن سالم))، وفي رواية: ((لا نصرتُ إن لم أنصركم بما أنصر به نفسي))، وعن السيدة عائشة - رضي الله عنها - أنَّها قالت: "لقد رأيت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - غضب مما كان من شأن بني بكر غضبًا لم أره غضبه منذ زمان"، ثم قال الرسول الكريم لعمرو بن سالم وأصحابه: ((ارجعوا وتفرقوا في الأودية))، فرجعوا وتفرقوا، وكان عددهم أربعين راكبًا، وقد قصد الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بتفرقتهم إخفاء مَجيئهم، ورأى الرَّسول الكريم أن الوقت قد حان لفتح "مكة"، فأخذ يستعدُّ لهذا الفتح.
سفارة أبي سفيان إلى المدينة:
وقدر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ "قريشًا" ستدرك سوء ما صنعت، وأنَّها سترسل إليه مَن يقوم بإصلاح ما أفسده الغدر بينها وبينه، فقال لأصحابه: ((كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد في العقد ويزيد في المدة)).
وحدث ما تنبَّأ به الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد رأتْ "قريش" أنْ تتدارك الأمر، وأن تزيل ما تركته زيارةُ الوفد الخزاعي لـ"المدينة" من أثر في نُفُوس المسلمين، فانتدبت أبا سفيان مفوضًا من قبلها لزيارة "المدينة"، وللسعي لحل الخلاف سلميًّا، ولإبقاء عهد الحديبية نافذًا محترمًا، ويمد في مدته إذا أمكن ذلك، فقد ذاقت "قريش" بواسطته طعم الهدوء والراحة بعد أن حرمت منهما أعوامًا طوالاً، فعكفت على العناية بتجارتها ومصالحها الاقتصادية.
ووصل أبو سفيان إلى "المدينة"، وقصد أوَّل ما قصد منزل ابنته أم حبيبة، زوجة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لشعوره بخُطُورة المهمة المكلف بالقيام بها، فآثر ألاَّ يذهب إلى الرسول الكريم رأسًا قبل أن يمهد الطريق لمقابلته.
وعندما أراد أبو سفيان الجلوسَ على فراش رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - طوته عنه، فاندهش من هذا التصرُّف، وسألها: "أرغبت بي عن الفراش، أم رغبت بالفراش عني؟"، فأجابته بأنَّه فراش الرَّسول الكريم، ولا يجدر بالمشركين من أمثاله الجلوس عليه، فوقع هذا الكلام على نفس أبي سفيان وقعًا أليمًا، فلم يكُن يتوقع هذا من ابنته أقرب النَّاس إليه، وخرج من عندها مصدومًا، حزين النفس، جريحَ الفؤاد، ثم ذهب إلى المسجد، فزار الرسول الكريم وكلَّمه فيما جاء لأجله، وعرض عليه أنْ يمدَّ أجلَ الهدنة، واعتذر عما حدث من قبيلة "بني بكر" لقبيلة "خزاعة"، فأعرض الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - عنه، وأَبَى أنْ يُجيبه أو أن يناقشه، فكانت هذه الصدمة أنكى وأمرَّ من الأولى، فخرج من المسجد وهو أشد ما يكون ذُلاًّ وانكسارًا، وذهب يستشفع بأصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
ذهب إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فردَّ معتذرًا في لُطف، فتوجه إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فأغلظ له في الرد، وقال له في جفاء: "أنا أشفع لكم إلى رسول الله؟! فوالله لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتكم به"، فخرج من عنده إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وكلمه كلامًا رقيقًا لينًا؛ لإثارة عاطفته، فقال له: "يا علي، إنك أمسُّ القوم بي رحمًا، وقد جئتك في حاجة، فلا أرجعن كما جئت خائبًا، فاشفع لي"، فأجابه معتذرًا، وفَشِلَت بذلك سفارة أبي سفيان.
الاستعداد لفتح مكة:
أصدر الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - عقب سَفَر أبي سفيان أمرًا بالتعبئة العامَّة، وأشار بأنْ تكونَ سريَّة، وأرسل إلى البدو، ومَن حولهم من الأعراب؛ ليحضروا رمضان بـ"المدينة"، فاستجابت القبائل لنداء الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتدفقت على "المدينة"، وعسكرت بأرباضها، ولشدَّة حرصه على ألاَّ يريق دمًا بـ"مكة"، أخفى وجهته عن المسلمين، وأمر بوضع حُرَّاس على أبواب الطرق ومداخل البلاد يَحرسونها، ويردُّون عنها مَن لا يعرفونه، فلا يفلت أحدٌ، ولا يصل إلى "قريش" خبر.
وبعد أن اكتمل جمع المسلمين، أخبرهم الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه سائر إلى "مكة"، وأمرهم بالتهيُّؤ والاستعداد، وسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يأخذ العيون والأخبار عن "قريش"، فلا تعلم بتحركه حتَّى يُفاجئها في بلادها.
خطأ غير مقصود:
وبينما الجيش على أهبة السير إلى "مكة"، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابًا إلى "قريش" يُخبرهم فيه بما اعتزم عليه الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - واستأجر امرأة من "مزينة"، تُدعى سارة، وأعطاها الكتاب، وأمرها أنْ تتلطف وتحتال حتى تبلغه إلى "قريش"، فأخذت سارة الكتاب وأخفته، واستطاعت أن تخرج به من "المدينة"، واتَّجهت في طريقها إلى "مكة"، وأتى الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - الخبر من السماء بما فعل حاطب، فأرسل في إثر سارة عليَّ بن أبي طالب والزبير بن العوام، فأدركاها في الطريق، واستخرجا منها الكتاب، وأحضراه إلى الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فدعا الرسول الكريم حاطبًا، وأطلعه على الكتاب الذي أرسله، ثم قال له: ((ما حملك على هذا؟))، فأيقن حاطب أنَّه هالك لا مَحالة، وأنه لا نجاةَ له إلاَّ بإخبار الرسول الكريم عن الدافع الذي دفعه إلى ارتكاب هذا العمل، فقال: "يا رسولَ الله: لا تعجل عليَّ، فوالله إني لمؤمن بالله ورسوله، ما غيَّرت ولا بدَّلت؛ ولكنَّني كنت امرأً ليس في القوم من أهل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليه، وكان من معك من المهاجرين - ممن له أهل أو مال بمكة - لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت - إذ فاتني النسب في قريش - أن أتَّخذ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي، ولم أفعله ارتدادًا عن ديني، ولا رضًا بالكفر بعد الإيمان.
ورأى الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في لهجة حاطب أماراتِ الصِّدق وسلامة النية فيما أقْدَم عليه، فقال لمن حوله: ((أَمَا إنَّه قد صدقكم فيما أخبركم به))، وقد عفا عنه الرسول الكريم؛ نظرًا لتاريخه وماضيه المشرِّف في الدفاع عن حرمات الإسلام.
مسيرة الجيش:
استخلف رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أبا ذرٍّ الغفاري - رضي الله عنه - على "المدينة" نائبًا عنه، وخرج منها في عدد من المهاجرين والأنصار، والوافدين على "المدينة" من القبائل، يبلغ نحو عشرة آلاف مقاتل، في اليوم الثامن من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة، وتحرَّك هذا الجيش الضخم المنظم، الموحد القيادة والغايَة، عبر الصحراء الواسعة قاصدًا "مكة"، وسار يطوي الفيافي والقفار، والمسلمون صائمون، وهم جد حريصين على كتمان أمرهم، وإخفاء خبر مسيرهم، حتَّى وصلوا إلى "مر الظهران"، فاستقر الجيشُ فيه، وضرب مخيمه؛ استعدادًا للعمل العظيم الذي ينتظره، ولما كان وصول المسلمين إلى هذا المكان في المساء، فقد أمر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بإشعال النِّيران في مواضع نزولهم، فأشعلوا عشرة آلاف شعلة بعدد أفرادهم، فبدأ نورها ساطعًا يضيء ظلام الصحراء، ويتلألأ في فضائها الواسع حتَّى جعل ليلها نهارًا.
وغمَّ على زعماء "قريش" أمر المسلمين، وانقطعت أخبارُهم عنهم، ولما كانوا واثقين من أنهم لن يتركوهم، وأنهم سينتقمون منهم لاعتدائهم على قبيلة "خزاعة"، فقد أقلقهم عدم معرفتهم ما يُدبَّر في "المدينة".
وغادر أبو سفيان "مكة" في نفس الليلة التي نزل فيها المسلمون "مر الظهران"، ومعه حكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء؛ ليتسقطوا أخبار المسلمين، فشاهدوا النار التي أشعلها المسلمون، واسترعت نظر أبي سفيان، وتوقع بديل أن تكون هذه النيران نيران "خزاعة"، ولكن أبا سفيان استبعد ذلك؛ لأن "خزاعة" في نظره أقل وأذلُّ من أن تكون هذه نيرانها، وهذا عسكرها.
وكان العباس عمُّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد خرج بأولاده مهاجرًا إلى "المدينة"؛ لينضم إلى ابن أخيه، فالتقى به في الطريق، فبعث بأهله إلى "المدينة"، ورجع مع الرسول الكريم، وقد كان هذا اللقاء بين الرسول الكريم وعمِّه مُصادفة مباركة، حَقَنَ الله - عزَّ وجلَّ - بها الدماء، ويسر الأمور، وذلَّل بها الصعاب في طريق الفتح على ماكان يُحب ويرجو رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وخَشِيَ العباسُ على أهل "مكة" من نتائج هذه الحملة المباغتة، فأخذ يُفكر فيما سيترتب لو حدثت مُقاومة من "قريش" لجيش المسلمين، حتمًا ستكون هناك خسائر في الأرواح، ورأى الدمار وشيكَ الوقوع بساحة "قريش"، فراود الأملُ نفسَه في أن يهديه الله حيلة يمنع بها الكوارث، التي تكاد أن تحل بهم، فركب بغلة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وخرج من معسكر المسلمين قاصدًا "مكة"؛ ليخبر "قريشًا" بالجيش الضَّخم الذي جاء لقتالهما، فيؤثِّر بذلك في معنويَّاتها، ويضطرها إلى التسليم بدون قتال، فتُحقن بذلك دماؤها، وتنجو من معركة ليست في صالحها على الإطلاق، فسمع وهو في طريقه إلى "مكة" حديث أبي سفيان مع صاحبيه، فناداه العبَّاسُ، وطلب منه أن يركب معه؛ ليأتيَ به رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويستأذنه له، فوافق أبو سفيان على طلب العباس، فأردفه وراءه، ورد صاحبيه إلى "مكة"، وسار به حتَّى وصل إلى خيمة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأنزله، وأسرع به داخل الخيمة.
إسلام أبى سفيان:
وفى الصباح جيء بأبي سفيان إلى مجلس الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبمسمع من كبراء المهاجرين والأنصار، قال له الرسول الكريم: ((ويحك أبا سفيان، ألم يأنِ لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟!))، فقال أبو سفيان: "ما أحلمك وأوصلك! والله، لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره ما أغنى عنِّي شيئًا"، فقال له الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ويحك يا أبا سفيان، ألم يأنِ لك أن تعلم أنِّي رسول الله؟!))، فقال أبو سفيان: "أما هذه فوالله، إن في النفس منها الآن شيئًا"، فتدخل العباس، وقال له: "ويحك، أسلمْ قبل أن تضرب عنقك"، فأسلم.
وطلب العباسُ من الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يجعل لأبي سفيان شيئًا؛ لأنه يُحب الفخر، فأعلن الرَّسول الكريم أنَّ مَن دخل دار أبي سفيان، فهو آمن، ومن أغلق بابه، فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.
رجوع أبي سفيان إلى مكة:
عاد أبو سفيان إلى "مكة" مبهورًا مذعورًا، وهو يشعر أنَّ من ورائه إعصارًا مُدمِّرًا إذا انطلق، اجتاح "قريشًا"، وقضى عليها القضاءَ المبرم، وشاهد أهل "مكة" القُوَّات الإسلامية تقترب منهم، ولم يكونوا حتَّى ذلك الوقت قد استقر رأيهم على قرار حاسم، فاجتمعوا بسادتهم ينتظرون منهم الرأي الأخير، فإذا بصوت أبي سفيان يرتفع مجلجلاً: أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد أتى "قريشًا" بما لا قِبَلَ لها به، وأنه من الخير لهم أن يستسلموا بدون قتال، ثم أعلن أنَّ مَن دخل دارَ أبي سفيان، فهو آمن، فقامت زوجته هند وجذبته من لحيته، وقالت: "ا***وا هذا الشيخ الأحمق، قبح من طليعة القوم"، فلم يكترث أبو سفيان بما صنعته وقالته، وقال: "ويلكم! لا تغرنَّكم هذه من أنفسكم، فإنَّه قد جاءكم بما لا قِبَل لكم به، فمَنْ دخل دار أبي سفيان، فهو آمن"، فردُّوا عليه قولهم: "قاتلك الله، وما تغني عنَّا دارك؟!"، فأكمل: "ومن أغلق عليه بابه، فهو آمن، ومَن دخل المسجد، فهو آمن"، فتفرَّقوا مذعورين إلى بيوتهم وإلى المسجد.
تطويق مكة ودخولها:
وعندما وصل الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى "ذي طوى"، واقترب من أبواب "مكة"، فرَّق الجنود والقادة على مداخلها، وأحاط بها من كل جانب، ثم أمر الزبير بن العوام أن يدخل "مكة" من جهة الشَّمال بمن معه من الجنود، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل بفرقته من الأنصار من الغرب، وأمر خالدَ بن الوليد أن يدخل بفرقته من الجنوب، وأمر أبا عبيدة بن الجرَّاح أنْ يدخل بفرقته من المهاجرين من الشمال الشرقي من جبل "هند"، وقاد الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بنفسه مؤخرة الجيش.
ودخلت القُوات الإسلامية "مكة" بلا مقاومة تذكر، والرسول القائد على ناقته "القصواء" في غير تكبُّر ولا تجبُّر ولا خيلاء؛ بل في تواضع وخشوع لله - عزَّ وجلَّ - وهو يذكر يوم أن خرج مع صاحبه مهاجرًا، وأكبَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - على رحل ناقته، حتَّى كاد رأسه الشريف يلمس وسط الراحلة، شاكرًا الله - عزَّ وجلَّ - على ما تفضل به عليه من هذا الفتح العظيم، وما مَنَّ به عليه من هذه النعمة الجليلة.
وظل الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقرأ سورة الفتح، حتَّى وصل إلى الكعبة وبصحبته المسلمون، فاستلم الركن بعصًا كانت في يده وكبَّر، فكبَّر المسلمون بتكبيره حتى ارتجَّت لتكبيرهم أرجاءُ "مكة"، فأشار الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن اسكتوا، ثم أخذ يطوف بالبيت وهو على ناقته، وفي كلِّ مرة من طوافه يستلم الحجر الأسود بعصاه، إلى أن استكمل الطواف، وبعد أن فرغ من طوافه، نزل من على ناقته، ثم سار إلى مقام سيدنا إبراهيم - عليه السلام - فصلَّى فيه ركعتين، ثم اتَّجه إلى زمزم فشرب منها وتوضأ، والمسلمون من حوله، كلٌّ منهم يود أن يأخذ ماء وضوئه، وجعلوا يصبُّونه على وجوههم، والمشركون ينظرون ويتعجبون لما يرون، ويقولون: "ما رأينا ملكًا أبلغ من هذا ولا سمعنا به".
ثم جلس الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في جانب المسجد، وأبو بكر الصديق واقف وراءه متقلدًا سيفه، ودعا عثمان بن طلحة ففتح له الكعبة، فدخل وصلَّى بها ركعتين، ثم وقف على باب الكعبة، وقال: "لا إله إلا الله وحدَه، صدق وعْدَه، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده"، ثم ألقى خُطبة طويلة بيَّن فيها الكثير من مبادئ الإسلام، ثم قال: ((يا معشر قريش، إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهليَّة وتعظُّمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب))، ثم قرأ قوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]، ثم قال: ((يا معشر قريش، ماذا تقولون؟ وما تظنون أنِّي فاعل بكم؟))، قالوا: "خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم"، فقال الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريبَ عليكم اليومَ يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء)).
وقد كان من أثر هذه السياسة الرشيدة الحميدة أن كسب الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قلوبَ أهل "مكة"، فأقبل على الإسلام فتيان "قريش" وشيوخها ونساؤها، ولم يحجم عنه إلاَّ البعض من الذين أكل الحقدُ قلوبَهم، وملأ البُغض نُفُوسهم، ثم لم يلبثوا طويلاً حتَّى دخلوا في الدين الجديد، بعد أن شرح الله - عزَّ وجلَّ - صدورهم للإسلام، وصاروا من حماة الدين، ومن خير المدافعين عنه.
هدم الأصنام:
دخل الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - "مكة" يومَ الفتح، وعلى الكعبة 360 صنمًا، لكل حيٍّ من أحياء العرب صنم، قد شدت أقدامه بالرصاص، فجاء الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقضيبٍ من الحديد وأخذ يَهوِي به على كل صنم منها، فيخر على وجهه، والرسول الكريم يقول: ((جاء الحقُّ وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا))، وأمر بكسر "هبل"، وكان في داخل الكعبة، وأحرقت ومُحيت كلُّ صورة بالكعبة، وأخرجت صورة سيدنا إبراهيم - عليه السلام - الذي كان مصورًا وفي يده الأزلام يستقسم بها، فنظر إليها الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - مليًّا، وقال: ((قاتلهم الله، جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام، ما شأن إبراهيم والأزلام؟! ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا، ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين))، وبذلك طهر البيت الحرام من الأصنام والصور.
ثم أخذ الناس يبايعون رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على الإسلام، فكان ممن أسلم في هذا اليوم مُعاوية بن أبي سفيان، وأبو قحافة والد أبي بكر الصديق، وقد سُرَّ الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - سرورًا عظيمًا بإسلامه.
ثم أمر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بلالاً أن يُؤذِّن على ظهر الكعبة الشريفة، فانطلق صوته يُدوي: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، وخشعت الأبصار من كلِّ جانب، واتَّجهت الألوف إلى الكعبة حرم الله الآمن، يستقبلونها في صلاتهم خاشعين، فكان يومًا مجموعًا له الناس ويومًا مشهودًا.
نتائج فتح مكة:
الواقع أنَّ فتح "مكة" كان خاتمةَ النِّضال بين المسلمين و"قريش"، الذي امتد واحدًا وعشرين عامًا تقريبًا، ثلاثة عشر عامًا قبل الهجرة، وثمانية بعدها، وكان وسيلة لاتِّساع نطاق الإسلام وانتشاره في داخل "الجزيرة العربية" وخارجها، فلم يطل الوقت على القبائل القاطنة في شرق "الحجاز"، وكانت تلتزم سياسة الحياد في الصِّراع الدائر بين "مكة" و"المدينة"، حتَّى أقبلت وفودها تتسابق على "المدينة"؛ تُعلن إسلامها وانضمامها إلى الدولة الجديدة بمحض رغبتها واختيارها.
وفتحت أبواب "مكة" لدعوة الإسلام، فانهدم حِصْن الشرك العتيد، وانهار ذلك السد المنيع الذي قام في وجه الدعوة منذ قامت.
ومنذ ذلك اليوم صارت "مكة" كعبة الإسلام، وقبلة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وستظل كذلك - إن شاء الله - إلى أن يرث الله - عزَّ وجلَّ - الأرض ومَن عليها.



رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 06:29 PM.